ديفيد بولوك
على الرغم من أن شبح تحقق أسوأ السيناريوهات التي تجلت قبل بضع سنوات فقط لم يعد قائماً، إلا أن أفضل السيناريوهات القائمة على التعاون التحويلي لا تزال بعيدة المنال.
نحن الآن في خضم مرحلة انتقالية من المشهد الجيوسياسي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بعيداً عن الصراعات ونحو التعايش المشترك، إن لم نقل التعاون. وبديهياً، هناك بعض الأسئلة التي تطرح نفسها في هذه المرحلة: كيف تسارعت وتيرة هذا التغيير واتسعت رقعته في الأشهر الأخيرة ولماذا حدث ذلك؟ ما الذي يعزز احتمال استمراره على الأقل لفترة من الوقت؟ سيتناول هذا المقال الصورة العامة لهذا التحوّل الذي تشهده المنطقة من خلال الإجابة على هذه الأسئلة.
يتمثل العامل الوحيد الأكثر أهمية وراء هذا التحول الإيجابي هو التغيير في موقف تركيا، مما يدل على نطاق واسع على انتصار السياسة المحلية على السياسة الخارجية. وفي الوقت نفسه، وبغض النظر عن كافة المسائل السياسية، لا يجب أن ننسى الدور الذي تلعبه عوامل الطاقة العالمية والمناخ والاقتصاد في هذا التحوّل أيضاً. فالقيمة النسبية المتصورة على المدى القصير والوجهات المفضلة لموارد الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط قد تغيّرت، مما جعل المواجهات حولها أقل احتمالاً على المدى القريب.
ولتقدير مدى الاختلاف الذي يبدو عليه المشهد البحري اليوم، من الضروري العودة إلى عاميْ 2019 و 2020. فخلال معظم هذين العامين، شهدت المنطقة أزمات صغيرة متواصلة بسبب التنافس على الحَفر والتنقيب والمطالب البحرية والعمليات العسكرية البحرية الفعلية التي جرت في كافة أنحاء شرق المتوسط، بدءاً من الساحل الليبي ووصولاً إلى اللبناني. وفي تناقض صارخ، تراجعت حدة المنافسة بشكل ملحوظ خلال العام والنصف العام الماضيين. وكانت تركيا هي الرائدة في كلتا الحالتين، للأسوأ في الماضي القريب وللأفضل اليوم.
تركيا والتغيير في سياستها
كما هو الحال غالباً، قد يكون السبب الذي يدعو تركيا إلى تغيير سياستها (إن لم يكن تبديل موقفها بالكامل) تجاه الدول المجاورة نابعاً من الداخل. فالرئيس رجب طيب أردوغان سيرشح نفسه مجدداً للانتخابات في غضون عام تقريباً، في وقت يتدهور فيه الاقتصاد التركي، حيث تتراجع قيمة الليرة التركية بينما يناهز التضخم في البلاد 40 في المائة. كما أنه تمّ تخفيض تصنيف تركيا الإئتماني إلى الدرجة غير الاستثمارية، والآن بعد أن خسر «حزب العدالة والتنمية» الحاكم الانتخابات في المدن الرئيسية، يبدو أن قاعدة مؤيديه من الطبقة الوسطى في المحافظات قد انحسرت أيضاً بشكل كبير.
ولذلك، فإن أردوغان بحاجة ماسة إلى حبل نجاة اقتصادي قريباً، وفي وقت أقرب مما يمكن أن تصبح أي ثروات طاقة بحرية متاحة. ويبدو أن السعودية والإمارات مرشحتان واضحتان كمساهمتين ولكن مقابل ثمن، وهو: تصالح معنا، ومع مصر، وحتى مع إسرائيل فضلاً عن أصدقائهما الجدد في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ويزور كبار المسؤولين الخليجيين والمصريين واليونانيين والإسرائيليين تركيا للمرة الأولى منذ سنوات، حيث وعد الخليجيون بمساعدات وتعاملات تجارية وودائع مصرفية واستثمارات بقيمة عشرات مليارات الدولارات، بهدف عزل إيران ومصادر تهديدات أخرى.
وفي استجابة لهذه المبادرة، تخفض تركيا دعمها لجماعة «الإخوان المسلمين». كما تُظهر تعاوناً أكبر مع جهود صنع السلام في ليبيا – حيث أرسلت إليها مؤخراً بعثة عسكرية جريئة لدعم أحد طرفي الحرب الأهلية وطالبت بمساحات شاسعة من البحر الأبيض المتوسط مقابل ذلك. كما تشير أنقرة إلى استعداد جديد للتفاوض مع كافة الدول المجاورة لها في منطقة البحر المتوسط بدلاً من استفزازها بشأن ترسيم الحدود البحرية.
أما إسرائيل فهي حالة خاصة في هذا الصدد. فعلى الرغم من كل العداء بين أردوغان وإسرائيل، إلّا أنه لم تحدث أي مواجهات عنيفة علنية بينهما منذ أكثر من عقد على طراز حادثة سفينة “مافي مرمرة” المشهورة بسوء السمعة قبالة ساحل غزة. وفي المقابل، وفي خطوة إيجابية للغاية، قام أردوغان في 4 شباط/فبراير 2022 بخطوة علنية رسمية مختلفة جداً عن المعتاد في هذا المجال، إذا قال للمراسلين الصحفيين الأتراك: “بإمكاننا استخدام الغاز الطبيعي الإسرائيلي في بلادنا… كما يمكننا الانخراط في جهود مشتركة تتعلق بمروره إلى أوروبا”.
وهذا في الواقع مجرد حلم بعيد المنال أكثر من كونه احتمالاً جاداً، لكنه نابع من أسباب إقتصادية ولوجستية وليست سياسية. وتتمثل النقطة الأساسية في وجود إرادة سياسية الآن في أنقرة للتقارب من دول البحر المتوسط، مدفوعة بمحركات اقتصادية وسياسية محلية التي من المحتمل أن تستمر على مدى السنوات القليلة المقبلة.
لبنان
شهد العام الماضي أيضاً الكثير من النقاشات حول إشراك لبنان. ومن البنود المطروحة هي مخطط لاستجرار الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى لبنان، من خلال مسار خط أنابيب بري ملتف للغاية يمر عبر الأردن وسوريا، على أن يكون مصدر الغاز من المياه المصرية والإسرائيلية. ويجري البحث بهذا المشروع المعقد بوساطة أمريكية وبهدف معلن هو تخفيف الضائقة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها لبنان.
ومن الأهداف غير المعلنة الأخرى هي تشجيع إحراز تقدّم على صعيد الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان أو على الأقل استئناف المفاوضات بشأنها. وفي أوائل عام 2022، وافقت الحكومة اللبنانية، التي يهيمن عليها «حزب الله»، أخيراً على العودة إلى طاولة المحادثات، بوساطة أمريكية أيضاً. وعلى الرغم من أن الطرفين لن يتوصلا إلى اتفاق عما قريب على ما يبدو، فمجرد بروز هذا الاحتمال قد يمنع تصاعد حدة التوترات.
وعلى الرغم من احتمال تطوير قدرات لبنان على سحب الغاز من المياه بعد الاتفاق على ترسيم الحدود مع إسرائيل، والذي قد يستغرق سنوات، إلا أنه قد يعِد في النهاية بتحقيق مكاسب كبيرة لاقتصاد البلاد الغارق في الصعوبات. علاوةً على ذلك، قد يحمي أيضاً الأصول الإسرائيلية في البحر من بعض الأعمال العدائية تجاهها؛ فالجانب اللبناني، وحتى «حزب الله»، يدركان تماماً أن أي شركة لن تستثمر في منطقة حرب.
ومع ذلك، يبدو أن «حزب الله» ليس في عجلة من أمره لوضع اللمسات الأخيرة على أي اتفاق. وتعكس إعاقته لمسار الأمور انتصار السياسة على الاقتصاد، في تناقض صارخ مع مجريات الأحداث مع تركيا. فـ «حزب الله» يفضل السيطرة على اقتصاد متهاوٍ بدلاً من إثارة استياء إيران أو الاعتراف بأي اتفاق مع إسرائيل، وذلك لأسباب خاصة إيديولوجية ونفعية. وعلى الرغم من أن «حزب الله» يبقى خارج الصورة الجديدة لمنطقة شرق المتوسط، إلا أنه لن يتمكن من إشعال فتيل صدام حاد مباشر مع إسرائيل.
إسرائيل
هناك تناقض في سياسة إسرائيل الحديثة حيال منطقة البحر الأبيض المتوسط. فإسرائيل تحرص على جمع أكبر عدد ممكن من الشركاء في المنطقة وترحب بنزع فتيل الخلاف فيما يتعلق بمطالب الخصوم ذوي الصلة. وبالتالي، تتفاعل إسرائيل بحذر ولكن بشكل إيجابي مع المبادرات الأخيرة من أنقرة للتنسيق البحري وفي مجال الطاقة، وسط الحفاظ على اتصال وثيق مع كل من اليونان وقبرص ومصر (وكذلك مع الإمارات العربية المتحدة، التي تشارك في العديد من المشاريع في البحر الأبيض المتوسط). كما وقّعت الحكومة الإسرائيلية بهدوء على نقل الغاز البحري المصري والإسرائيلي عبر الأردن إلى سوريا ولبنان.
ومع ذلك، يرزح الإئتلاف الإسرائيلي الحاكم الجديد تحت وطأة ضغوط متعددة جدية من قبل العناصر المدافعة عن البيئة، ولا سيما لأن وزير البيئة ينحدر من اليسار. لهذا السبب، علق الإئتلاف العمل بالعديد من المشاريع الرئيسية ذات الصلة، من بينها توسيع خط أنابيب إماراتي ينقل الغاز والنفط من إيلات الواقعة على البحر الأحمر إلى أشدود على البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب أي عمليات جديدة واسعة النطاق للتنقيب عن النفط والغاز في البحر أو الحفر لاستخراجهما. ومما يزيد من هذه الحالة من عدم اليقين هي هشاشة حكومة إسرائيل الحالية، التي يؤمّن مقعد واحد في الكنيست صمودها حتى الآن.
وإلى جانب هذا التردد الإسرائيلي، ظهرت عقبة جديدة في أوائل عام 2022 حين أعلنت الولايات المتحدة أنها ستوقف دعم بناء خطوط أنابيب الطاقة الإسرائيلية (أو المصرية) تحت البحر إلى أوروبا. ومع ذلك، تَوصل “الاتحاد الأوروبي” للتو إلى حل بديل جزئي للمسألة – يحظى بدعم الولايات المتحدة – ويَعِد بأن يكون أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية والبيئية والفنية يتمثل بمدّ كابل كهربائي في البحر يصل إلى أوروبا ويحمل إمدادات مصرية و/أو قبرصية و/أو إسرائيلية، وتصل تكلفة الاستثمارات الفعلية المقترحة فيه إلى 700 مليون دولار تقريباً. وإذا تحقق هذا المشروع بالفعل، فسيرسي فعلياً أسساً أكثر متانة لعلاقات تعاونية من هذا النوع بين مختلف دول البحر الأبيض المتوسط.
اليونان وقبرص
إن وصف مفصل للسياسة اليونانية أو القبرصية بشأن قضايا شرق المتوسط هو خارج نطاق هذه النظرة العامة. ويكفي القول إن كلا الحكومتين رحبتا بالتغيّر الجديد في موقف تركيا، بما في ذلك الزيارات الرفيعة المستوى، والبيانات الرسمية التصالحية، وبعض الاتفاقات بشأن مختلف الأمور الثانوية، والأهم من ذلك، الغياب شبه التام للأعمال الاستفزازية.
ومع ذلك، لم يتمّ حلّ أي من الخلافات الشائكة، وليس من المحتمل أن يتم حلها في أي وقت قريب. ولا يزال التوصل إلى تسوية نهائية ورسمية بشأن تقسيم قبرص أو توحيدها بعيد المنال – إلى جانب المطالبات البحرية المتضاربة التي ينطوي عليها الأمر. وبالمثل، لم يُحرَز سوى تقدم ضئيل في توسيع “منتدى غاز شرق المتوسط” ليضمّ تركيا. وفي الواقع، فإن التكهن الأكثر منطقية على المدى القريب هو الهدوء النسبي ولكن ليس حل النزاع أو التعاون الفعال.
مصر
تشكل مصر إحدى أبرز الدول المستفيدة من هذه التحالفات الجديدة في شرق المتوسط. فهي لم تعد تواجه خطراً من تركيا، سواء في البحر أو في ليبيا أو على المستوى السياسي المحلي. كما أنها مرشحة طموحة لأن تكون جزءاً من العديد من عروض الطاقة الجديدة متعددة الأطراف، وجميعها بتمويل من الخارج. ولديها أيضاً مصلحة عالمية وإقليمية أكبر وأكثر فعالية في ضمان أمن العبور عبر البحر الأحمر وقناة السويس وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث قد تضطلع فيه بدور متزايد إلى حدّ ما.
وفي خلال ذلك، بإمكان مصر السعي إلى إبرام اتفاقات إضافية ثنائية أو متعددة الأطراف خاصة بها في شرق المتوسط، وسط تطلّعها إلى الوصول حتى إلى سوريا على الأقلّ. ومع ذلك، فإن أياً من هذه الخطوات لا تعِدُ بتدفق كبير فعلياً للأموال النقدية أو الاستثمارات في اقتصاد البلاد الذي لا يزال على الحافة. وتجد القاهرة نفسها مشتتة بسبب الاضطرابات المستعرة على جبهات أخرى، سواء في أثيوبيا أو السودان.
لذلك، وفي حين تستعيد مصر تدريجياً دورها في المنطقة، فمن غير المرجح أن تصبح الطرف المبادر أو المحرّك الرئيسي الذي كانت عليه في الأوقات السابقة. وبدلاً من ذلك، من المرجح أن تعزّز الميل العام الجديد نحو الاستقرار والحدّ من النزاعات، وذلك وفق حسابات تعود عليها بالفائدة. وهذا وحده يُعدّ مساهمة قيّمة لتحقيق المصلحة العامة.
إلى ذلك، يتمثل أحد الجوانب المهمة في موقع مصر في الهجرة في البحر المتوسط أو تدفق اللاجئين. فعلى الرغم من المستويات المرتفعة للفقر والضغط السكاني، حيث يتخطى عدد سكان البلاد حالياً 100 مليون نسمة وسيواصل ارتفاعه، إلّا أن القاهرة لا تزال تُحكِم قبضتها على حركة الهجرة هذه. ولا شك في أن استمرار تدفق المساعدات والاستثمارات من “الاتحاد الأوروبي” والولايات المتحدة إلى مصر يشكّل الجانب المفيد الآخر من هذه المقايضة الضمنية إلى حدّ ما.
الجهات المخرّبة والأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها: إيران و«حماس» وروسيا والصين
يجدر هنا أخذ نظرة سريعة على بعض الاعتبارات الأخرى. فـ «حماس» تسيطر على غزة ولكن ليس على ساحلها، الذي يشهد دوريات إسرائيلية متواصلة. ومن المؤكد أن الأسلحة وغيرها من المواد المهربة لا تزال تمرّ عبره إلى حدّ ما، إلّا أنها لا تشكّل تهديداً بحرياً مهماً. وخلال المناوشات التي دامت 10 أيام في أيار/مايو 2021 بين «حماس» وإسرائيل، أطلقت الحركة آلاف الصواريخ والقذائف، ولكن القليل منها فقط حاولت (دون جدوى) استهداف السفن أو المنصات البحرية الإسرائيلية.
وفي المقابل، تعرَّض ميناء أشدود الإسرائيلي القريب على البحر المتوسط والمنشآت الرئيسية (محطة خط الأنابيب، ومحطة الطاقة، ومحطة تحلية المياه) في عسقلان لهجمات خطيرة سواء من «حماس» أو «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين»، إلا أن معظمها كانت خارج المسار أو تم اعتراضها من قبل “القبة الحديدية” والدفاعات الأخرى. وفي المستقبل القريب، يمكن توقع أن يؤدي الجمع بين الردع الإسرائيلي والدفاع عن النفس، بالإضافة إلى التنسيق المصري المعزز في احتواء «حماس»، إلى الحد من هذا التهديد، على الأقل في الساحة المباشرة للبحر الأبيض المتوسط.
أما إيران، فتملك أساساً قدرات أكبر بكثير، وبالتالي لديها طموحات أوسع نطاقاً في الساحة نفسها. كما أنها قادرة على النفاذ إلى موانئ في كل من سوريا ولبنان وتستخدم قناة السويس للعبور في بعض الأحيان. ومع ذلك، أفادت بعض التقارير أنها لم تستهدف منشآت بحرية إسرائيلية بشكل مباشر في البحر المتوسط سوى مرة أو مرتين، حيث لا يزال موقع قوتها ضعيفاً نسبياً.
يُذكر أن إيران تزوّد «حماس» (وكذلك شريكتها، «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين») في غزة و«حزب الله» في لبنان بالسلاح والمال والتدريب. وفي حال تجدد أي مواجهات عسكرية كبيرة بأي شكل من الأشكال، فقد تُستخدم بعض هذه الإمدادات من دون شكّ ضدّ الساحل الإسرائيلي والمنشآت البحرية من جديد. ولكن في الوقت الحالي، تركز إيران بشكل أكبر على جبهات أخرى، وبالطبع تشعر بالقلق من الانتقام الإسرائيلي. لذلك يبدو من المرجح أن إيران تفضل مبدأ ضبط النفس من قبل عملائها، ما لم تكن بحاجة إلى ردّهم على الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف بنيتها التحتية (النووية).
وتركز روسيا أيضاً هذه الأيام بشكل أكبر على جبهات أخرى مثل آسيا الوسطى وسوريا وتركيا وأوروبا بشكل عام، وقبل كل شيء أوكرانيا. وبالتالي فهي منخرطة في البحر الأسود بشكل أكثر نشاطاً مما يسميه العرب البحر الأبيض، أي البحر الأبيض المتوسط. لكن في الوقت نفسه، تُعتبر روسيا قوة مهمة في البحر المتوسط، مع مَنْفذ رئيسي إلى الموانئ في سوريا وتشارك أساطيلها بمناورات متواصلة خارجها. كما أن مرتزقتها منخرطة في الصراع الدائر في ليبيا وهي تحاول جاهدةً زيادة مبيعاتها من الأسلحة وتحسين صورتها عموماً في مصر ودول أخرى. ومع ذلك، فبشكل عام لا يبدو على الأرجح أن جميع هذه الأنشطة ستهدد أو تقوّض العلاقات الأكثر استقراراً التي تحظى بالأولوية حالياً من قبل القوى في المنطقة.
وينطبق الأمر نفسه تقريباً على الصين، التي تعزز وجودها وتُحسن صورتها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في منطقة شرق المتوسط، من مصر وصولاً إلى المغرب. فشرق المتوسط، بشكل خاص، هو محطة أساسية في “مبادرة الحزام والطريق” التي أصبحت مركزية لسياسة الصين الخارجية. ولا يزال قسم كبير من دوافعها، بخلاف حالة روسيا، يرتبط بالمجالات التجارية والثقافية وبالبنية التحتية/الاستثمار، وليس بالمجال العسكري. وعلى أي حال، تحاول الصين عموماً (وتنجح في) تجنّب التورّط في الخلافات الإقليمية من خلال عدم الانحياز إلى أي طرف. ولهذه الأسباب، لا يمكن منطقياً في الوقت الراهن اعتبار توسع الصين على طول البحر المتوسط عاملاً مزعزعاً للاستقرار على الرغم من ضرورة مراقبته عن كثب.
الخاتمة
تبقى الصورة الإجمالية المتغيّرة للعوامل الجيوسياسية لشرق المتوسط على المسار الأكثر استقراراً الذي تمّ رسمه للمرة الأولى منذ أكثر من عام. ومع ذلك، فإن ما يحدث ليس انتقالاً جذرياً نحو تعاون عملي دائم أو شامل. ومن المفارقات أن المساهمات الاقتصادية والفنية والبيئية الضرورية للتعاون أصبحت أكثر تقييداً، فقط عندما تمّ تذليل كافة العقبات السياسية. وما زاد الطين بلة في النهاية هو أن عدم اليقين الاقتصادي هذا والحذر البيئي، إلى جانب الاضطرابات السياسية في قارات أخرى، جميعها عوامل ساهمت في الواقع في تراجع الاستثمارات وارتفاع أسعار الطاقة من جديد إلى مستويات عالية في الأشهر الأخيرة.
ولو كانت الظروف مختلفة، لكان عدم اليقين الاقتصادي والحذر البيئي قد عززا احتمال إنشاء مشاريع كبيرة جديدة في شرق المتوسط في مجال النفط والغاز، بما فيها مشاريع مشتركة مبتكرة بين خصوم إقليميين سابقين أو شركات متنافسة، وجعلتها تبدو أكثر ربحية. لكن الهدوء الحالي الذي تشهده المنطقة لم يكن متوقعاً عموماً، كما أنه لا يمكن التعويل فعلياً على استمراره. ونتيجةً لذلك، صحيح أن أسوأ سيناريوهات الصراعات الكبيرة التي سادت قبل سنوات قليلة لم تتبلور، إلا أن تلك القائمة على التعاون التحويلي لا تزال بعيدة المنال أيضاً.
.
رابط المصدر: