- أخذ أمن منطقة البحر الأحمر، الذي طالما حرصت الدول المطلة عليه على تجنيبه مخاطر العسكرة والتدويل، يتعرَّض لتحدٍّ هو الأكبر والأخطر منذ نهاية الحرب الباردة، لاسيما أن التطورات الأخيرة كشفت عن عُقْم ورخاوة الترتيبات والهياكل الأمنية الإقليمية المرتبطة بهذا الممر المائي الحيوي.
- بقدر ما أرادت الولايات المتحدة تأكيد مصداقيتها من خلال شن ضربات تأديبية متكررة ضد الحوثيين وأصولهم العسكرية، فإنها ستظل واقعة تحت ضغط الحاجة إلى الحفاظ على مصداقيتها هذه، والمحافظة على هيبتها كقوة عظمى، بما يقتضيه ذلك من رد مستمر على مصادر النيران الحوثية، إلى حد إمكانية خروج الوضع عن السيطرة، وتأجيج الوضع الأمني في منطقة جنوب البحر الأحمر، لمدة زمنية غير معلومة.
- يستدعي التصعيد الراهن في البحر الأحمر انخراطاً إقليمياً ودولياً أكبر لمنع توسُّع رقعته، أو إطالة أمده، ولابد للدول العربية المشاطئة أن تتخذ خطوات أكثر عملية لكبح أي إمكانية لتعريض أمنها ومصالحها للتهديد، من خلال تكثيف مساعيها لإيقاف حرب غزة، وبحث إمكانية تطوير الهياكل الأمنية والسياسية التي محورها البحر الأحمر.
أدَّت المواجهة العسكرية المتصاعدة بين جماعة الحوثي، المدعومة إيرانياً، والولايات المتحدة، على خلفية تزايد التهديدات الحوثية لممرات الملاحة الدولية في منطقة جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب، إلى تأجيج المخاوف من خروج الأوضاع هناك عن السيطرة، في ظل تزايد احتمالية استمرار سلسلة الفعل ورد الفعل التي باتت تحكم توجهات الفاعلين المؤثرين في هذه الساحة.
والمُثير للقلق أن معالم معضلة أمنية إقليمية مُستحكِمة باتت تلوح في الأفق، في ظل تشبُّث الحوثيين بنهجهم التصعيدي، تحت دعاوى نصرة الفلسطينيين في قطاع غزة، ومواصلة الولايات المتحدة وشركائها الغربيين، في المقابل، حشد أصولهم العسكرية في مياه البحر الأحمر، بهدف مُعلَن هو تعزيز قوة الردع للحوثيين وإيران على حدٍّ سواء.
وتُلقي هذه الديناميات الخطرة بظلالٍ ثقيلة على المعادلة الأمنية الإقليمية، على عدة مستويات؛ فمن جهة، من الواضح أن أمن البحر الأحمر، الذي طالما حرصت الدول المطلة عليه على تجنيبه مخاطر العسكرة والتدويل، أخذ يتعرَّض لتحدٍّ هو الأكبر والأخطر منذ نهاية الحرب الباردة، لاسيما أن التطورات الأخيرة كشفت عُقْم ورخاوة الترتيبات والهياكل الأمنية الإقليمية المرتبطة بالبحر الأحمر، ومن المرجح أن معادلة الأمن في هذا الممر الحيوي قد سقطت نهائياً بالصراع الذي بدأه الحوثيون وانخرطت فيه كبرى القوى الغربية تباعاً، وربما يتخذ طابعاً أكثر استدامة في حال مأسست القوى الغربية وجودها العسكري في البحر الأحمر والمناطق القريبة منه، عبر تشكيل تحالفات أمنية وقوة مهام بحرية متعددة الجنسيات.
من جهة ثانية، بقدر ما أن هجمات واشنطن ولندن على الحوثيين تُعزِّز السردية الأيديولوجية للجماعة، في إطار تأكيد ما ظلت تدعيه من أن غايتها الوجودية تتمثَّل في محاربة الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن جلب الحوثيين القوات الدولية من كل حدب وصوب إلى البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن ليس في صالحهم على المدى البعيد. فهو يُفقِدهم إحدى أهم الأوراق التي روَّجوا لها بكثافة خلال السنوات الأخيرة، والمتمثلة بادعائهم أن سلطتهم غير المعترف بها دولياً تُولي أمن الممرات الملاحية المشاطئة لليمن أهمية كبيرة، وأنهم مُستعدون لتقديم ضمانات للعالم كله بأن طرق التجارة عبر هذه الممرات ستبقى “آمنة” و”مفتوحة”، وهو الادعاء الذي أثبتت هجماتهم التصعيدية الأخيرة تهافُته، وأن الأمن البحري تحوَّل على أيديهم إلى ورقة مُسيَّسة وخاضعة حصراً لتصورات الجماعة والمحور الإقليمي المنضوية تحته، ومنطق الصراع الأيديولوجي الذي يحكم توجهاتهم الداخلية والخارجية.
ولأن هذا الأمر بدأ يمسّ وتراً حسَّاساً للغاية لدى القوى الدولية الكبرى، التي تحرص على أمن وسلاسة تدفق تجارتها وحركة سفنها عبر البحار، فإن الحوثيين يُخاطرون بفقدان ورقة البحر الأحمر من أيديهم، لاسيما في ظل المخاوف الغربية من أن سلوكهم المتهور والانتهازي قد يُرسي سابقة خطرة، ويفتح المجال لمحاولة قوى وجهات أخرى استنساخ تكتيكاته لفرض إرادتها على خصومها في مناطق وممرات مائية دولية مختلفة، الأمر الذي قد يُشعل فتيل حالة غير مرغوبة من الفوضى العالمية.
بناءً على ذلك، يمكن تفسير لجوء الولايات المتحدة وعدد من حلفائها، على عجلٍ، إلى تشكيل تحالف لمواجهة هجمات الحوثيين التي تستهدف ممرات الملاحة الدولية، على الرغم من إدراكها أن اللجوء لخيار القوة العسكرية ليس أمراً هيناً، وقد تكتنفه تعقيدات قانونية وسياسية ولوجستية عدة، وسيُمثِّل عامل ضغط على هذه الدول لمواصلة المهمة المُعلَنة حتى النهاية، ولو استدعى ذلك توسيع عملياتها العسكرية ضد الحوثيين واستهداف مراكز القيادة والتوجيه لديهم، وربما اللجوء لاحقاً إلى تقييد الوصول التجاري إلى الموانئ الخاضعة لسيطرتهم، بهدف إجبارهم على وقف تصعيدهم الراهن.
في الوقت نفسه، بقدر ما أرادت الولايات المتحدة تأكيد مصداقيتها من خلال شن ضربات تأديبية متكررة ضد الحوثيين وأصولهم العسكرية (الهجومية بشكل خاص)، ونزع أي شرعية لسلوكهم من خلال تصنيفهم “منظمة إرهابية عالمية”، فإنها ستظل واقعة تحت ضغط الحاجة إلى الحفاظ على مصداقيتها هذه، والمحافظة على هيبتها كقوة عظمى، بما يقتضيه ذلك من ردٍّ مستمر على مصادر النيران الحوثية، إلى حد إمكانية خروج الوضع عن السيطرة، وتأجيج الوضع الأمني في منطقة جنوب البحر الأحمر، لمدة زمنية غير معلومة.
ويتزايد هذا الاحتمال في ظل الإدراك العام بأنه من شبه المستحيل إيجاد نهاية سريعة ومُستدامة للصراع القائم بين إسرائيل وحركة حماس، من دون وجود صيغة حل أوسع تشمل القضية الفلسطينية ككل يتطلب الوصول إليها وقتاً طويلاً. وبالنظر إلى توظيف المحور الإيراني للبحر الأحمر أداةً في إدارة صراعه مع إسرائيل، فإن من شأن ذلك إرساء معادلة جديدة ومُغايرة لما سبق، إذ من المتوقع أن يلجأ أطراف المحور الإيراني إلى تكرار استخدام هذه الورقة كلما انفجر الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتَعرَّض بقاء الفصائل الفلسطينية الحليفة لطهران لتهديدٍ وجودي، كما قد يلجأ هذا المحور لاستخدام ورقة التصعيد في البحر الأحمر، مُجدداً، في حال نشوب حروب أخرى مماثلة مع إسرائيل (في لبنان مثلاً)، وأيضاً كلما وجدت إيران نفسها في مواجهة استحقاقات الصراع مع القوى الغربية. وهذا الأمر سيَنتُج عنه، في نهاية المطاف، سيناريوهان محتملان: إما رضوخ الغرب للسياسة الإيرانية الجديدة، وتسليمهم لها بهذه الورقة وإمكانية استخدامها مراراً وتكراراً، ما يجعلهم ومصالحهم تحت رحمة التوجهات الإيرانية ومحورها الإقليمي؛ وإما مقاومة هذه السياسة والعمل على كسرها، من طريق استخدام القوة، أو الوصول لصفقة كبرى معهم، ستكون مضامينها ونتائجها غامضة.
وما من شكٍ في أن التداعيات المباشرة لمثل هذا التصعيد العسكري المتبادل بين الحوثيين والقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، ستطال ملف الأزمة اليمنية ومسار تسويتها، والذي كان قد تلقَّى في الآونة الأخيرة دفعة مهمة بتأييد أمريكي-أوروبي، وبدا أن ثمة فرصة تلوح في الأفق لتعزيز مسار الحل السياسي، في ظل استمرار التقارب السعودي-الإيراني، وانفتاح المملكة على جماعة الحوثي، وخوضها مباحثات مباشرة معهم. لكن تواصل التصعيد في ممرات البحر الأحمر، ورهنه بتطورات حرب غزة، من شأنه أن يُعطِّل هذا المسار، أو يُجمِّده لمدة قد لا تكون قصيرة، ويدفع بقية القوى اليمنية الفاعلة إلى انتهاز التطورات الجارية لتحسين مواقفها الميدانية، ومراجعة حساباتها السياسية، بالارتكاز على نتائج المواجهة الحوثية-الأمريكية/الغربية، وما ستُفضي إليه، والنتيجة: استمرار المعاناة الإنسانية في اليمن، وربما استفحالها بشكل غير مسبوق.
وفي المدى الإقليمي/الدولي الأوسع، يَتعيَّن ملاحظة أن الحرب في غزة والتصعيد المتنامي في البحر الأحمر، قد يُعززان بقوة أهمية مشروع “ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” (IMEC)، الذي دُشِّن قبل مدة وجيزة، وربما تدفع تطوراتٍ كهذه لتسريعه، بعد أن ثَبُتَ صحة الرهان على جدوى إقامة ممرات اقتصادية بديلة، في ظل محاولة المحور الإيراني في المنطقة، التأثير على التدفق الحر للتجارة بين الشرق والغرب عبر الممرات البحرية الإقليمية، بهدف نيل مكاسب سياسية وثأرية.
وفي ضوء هذه التداعيات جميعاً، وأياً كانت المسارات التي ستتخذها في المدى القريب، يتضح أن التصعيد الراهن في البحر الأحمر يَستدعي انخراطاً إقليمياً ودولياً أكبر لمنع توسُّع رقعته، أو إطالة أمده، ولابد للدول العربية، لاسيما تلك المطلة على هذا الممر الاستراتيجي، أن تتخذ خطوات أكثر عملية لكبح أي إمكانية لتعريض أمنها ومصالحها للتهديد، من خلال تكثيف المساعي الدبلوماسية لإيقاف الحرب في غزة، وتفعيل الهياكل الأمنية والسياسية التي محورها البحر الأحمر وتطويرها، وأن تُعيد هذه الدول تكييف سياساتها الأمنية، بحيث تستوعب التحديات الناشئة في هذا الممر وتواكبها، من طريق تقوية مبادرات الأمن الجماعي ذات الصلة (والتي تشمل الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً بالضرورة)، وإقامة ترتيبات أكثر فعالية تضمن تحييد البحر الأحمر من تبعات الصراعات الإقليمية و/أو تزايد الاستقطاب بين القوى الدولية الكبرى، وصولاً إلى احتواء مساعي القوى المعادية لتوجهات الاعتدال العربي لاستغلال هذه الورقة من أجل إحباط مسار السلام الإقليمي ورهاناته في التنمية والاستقرار والازدهار.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/dinamiat-khatira-fi-albahr-alahmar-alianeikasat-ala-al-amn-al-iqlimi