يواجه العالم اليوم شبح ارتفاع معدلات التضخم بشكل سريع يفوق التوقعات والتكهنات السابقة، فقد كان الانتعاش العالمي هذا العام أسرع من المتوقع حيث تجاوزت معدلات الطلب على الطاقة والسلع التوقعات بما حدث معه الاختناقات، بما انعكس على ارتفاع درجات القلق وعدم اليقين بشأن مستقبل التعافي الاقتصادي، كون استمرار الأوضاع لفترات أطول مما نرغب، ولا يتعلق الأمر بالعودة إلى ما كنا عليه قبل الوباء فحسب، بل يتعلق أيضًا بتحقيق النمو الذي كان ينبغي أن نحققه في عامي 2020 و2021.
ولكن تساهم حالة عدم اليقين والتي تسبب بها وباء كوفيد 19 في تغير نهج استجابة البنوك المركزية لتتحول إلى طريقة رد الفعل للاحتواء والضبط، كون الأسباب الكامنة خلف التضخم تتمثل في زيادة النشاط الاقتصادي.
تطور معدلات التضخم حول العالم
تجاوزت معدلات التضخم في منطقة اليورو التوقعات في أكتوبر 2021 حيث ارتفع معدل التضخم في 19 دولة تتعامل باليورو ليسجل نحو 4.1%، ليصل إلى أعلى مستوياته في 13 عاما، مقارنة مع 3.4% في الشهر السابق ومتجاوزا توقعات عند 3.7%. أما بالنسبة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد أعلنت ارتفاع معدلات التضخم السنوي الأمريكي بما يخالف التوقعات في أكتوبر، ليصعد إلى أعلى مستوى في 30 عاما ليسجل 6.2%.
تشير كافة الدلائل والمؤشرات أن التضخم قد استمر لمدة أكثر مما كان متوقعا، كما أنه سيستمر ولن يختفي قريباً وخاصة في ظل ما يعانيه العالم من اختناقات في سلاسل الإمداد والتوريد، وارتفاع أسعار السلع الأولية، وزيادة الطلب، مما يزيد أهمية الدور المنوط بقادة البنوك المركزية حول العالم للتخطيط في كيفية السيطرة على التضخم والحيلولة دون التحول للركود التضخمي.
وتجدر في هذا الإطار الإشارة إلى أنه من الناحية النظرية؛ من الممكن السيطرة على موجه التضخم من خلال تحريك أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية وذلك كتصرف استباقي لخفض معدلات الطلب، ومن ثم الحد من ارتفاعات الأسعار. ولكن تطبيق سياسة نقدية متشددة قد يساهم في رفع تكلفة الاقتراض، بما يزيد من قيمة الأصول ومن ثم قد يحد من انشطة الاستثمار ومن ثم يقوض تعافي النشاط الاقتصادي.
استجابات البنوك المركزية حول العالم للحد من الموجة التضخمية
تباينت ردود الأفعال بين قادة البنوك المركزية للدول تجاه إجراءات الحد من الموجة التضخمية، ما بين رفع أسعار الفائدة والاتجاه إلى تخفيضها كما يتخذ البعض اتجاها للإبقاء على المعدلات الحالية دون تغير، ووفقا لجريدة فايننشال تايمز فإن البنك المركزي الأوروبي سيكون الأبطأ في زيادة الرسوم بعد أن حاول كثيرا خلال الفترات السابقة الابتعاد عن الانكماش على غرار اليابان، على العكس من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
كما بدأت كثير من البنوك المركزية في سحب حزم التحفيز النقدي التي تبنتها في بداية الأزمة لمواجهة موجة الركود العام الماضي؛ في حين أنَّ أقرانه في النرويج، والبرازيل، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، ونيوزيلندا من بين البنوك التي قامت فعلاً بزيادة أسعار الفائدة.
الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية
وفيما يلي أبرز الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية نقلا عن دليل “بلومبرغ” بشأن 23 بنكاً من أكبر البنوك المركزية في العالم، التي تغطي نحو 90% من الاقتصاد العالمي:
1.فيما يخص مجموعة الدول السبع والتي تضم كل من (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان، وكندا)، فقد بدأت البنوك المركزية إبطاء وتيرة برنامج شراء الأصول، حيث بدأ البنك المركزي للولايات المتحدة في تقليص مشتريات السندات، وتخفيف مشترياته الشهرية من السندات في نوفمبر، ويبلغ سعر الفائدة الحالي على الأرصدة الفيدرالية (الحد الأعلى) نحو0.25% وتشير توقعات بلومبرغ إلى ثبات معدلات الفائدة حتى نهاية 2021.
أما على صعيد البنك المركزي الأوروبي، فقد قرر إبطاء عملية شراء السندات السابق إقرارها في برنامج مواجهة الجائحة بتكلفه 1.85 تريليون يورو، ويستعدُّ لإجراء تحديث كبير على سياسته في ديسمبر القادم.
وتشير التوقعات إلى أنَّ “بنك إنجلترا” سيكون بين أوائل أقرانه في مجموعة الدول السبع الذي يبدأ في إلغاء سياسة تخفيض سعر الفائدة التي انتهجها خلال فترة انتشار الجائحة، وتتجه التوقعات بالنسبة لبنك كندا المركزي إلى عدم تغيير سعر الفائدة الأساسي لدى البنك، وتتوقع بلومبرج في حال استمر معدل التضخم في الارتفاع حتى نهاية 2021، فسوف يحدث أول ارتفاع في أسعار الفائدة خلال الفترات المقبلة.
2. فيما يتعلق باتجاهات البنوك المركزية للدول الأعضاء في منطقة البريكس، تشير التوقعات إلى اتجاه البنك المركزي الصيني إلى الخفض التدريجي في حركة توسيع الائتمان بهدف السيطرة على المخاطر المالية خلال العام الحالي. وبالنسبة البنك المركزي الهندي فسوف يحافظ على انخفاض أسعار الفائدة لفترة أطول مع اتخاذ سياسة نقدية توسعية لرفع معدلات النمو إلى معدلات مستقرة نسبيا.
أما بنك البرازيل المركزي فقد اتجه لاتخاذ سياسات نقدية تقشفية عبر رفع اسعار الفائدة الأساسي بمقدار 425 نقطة منذ مارس الماضي، كما توقع رفع معدلات الفائدة حتى تتراجع توقُّعات التضخم إلى المعدل المستهدف. كما اتخذ بنك روسيا المركزي قرارا برفع أسعار الفائدة كون معدلات التضخم في روسيا ترتفع بمعدلات متسارعة بسبب تأخر الحصاد محلياً، علاوةً على ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، بالنسبة للبنك المركزي بجنوب افريقيا فقد أعلن بوضوح نيته زيادة تكاليف الاقتراض بهدف ملاحقة تسارع معدلات التضخم.
3. فيما يخص البنوك المركزية لمجموعة دول المينت (MINT)، فقد اتجه بنك المكسيك المركزي لزيادة أسعار الفائدة بشكل تدريجي كما قام بإيقاف حزم التحفيز النقدي الذي قدَّمه خلال جائحة كورونا. وبالنسبة للبك المركزي الاندونيسي فقد خطط للإبقاء على معدلات فائدة منخفضة حتى نهاية العام.
أما على صعيد البنك المركزي التركي والذي شهد عدة قرارات سابقة أضرت بالليرة التركية فقد اتجه لخفض أسعار الفائدة وتكلفة الاقتراض وانتهاج سياسة نقدية توسعية مما جعل الليرة أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداءً مرة أخرى خلال العام الحالي.
ختاما، يمكن القول بان هناك اختلافات واضحة بين نهج البنوك المركزية في التعامل مع التضخم الحالي، كما أظهرت التوقعات أن أغلب البنوك المركزية لا ترى أن الإجراءات المضادة في الوقت الحالي ضرورية وتميل للإبقاء على المعدلات الحالية لأسعار الفائدة، للحفاظ على الانتعاش الاقتصادي ما بعد الجائحة، في حين اتجه البعض الاخر لرفع أسعار الفائدة كأجراء احترازي للحد من ارتفاع التضخم.