عبد المنعم على
شكّل قرار الرئيس التونسي “قيس سعيد” بحل المجلس الأعلى للقضاء، في السابع من فبراير 2022، وتكليف وزيرة العدل “ليلي جفال” بإعداد مشروع قانون جديد يتعلق بهذا المجلس، نقطة توتر ضاغطة على المشهد السياسي الداخلي وجولة جديدة من التصعيد الداخلي. ولعل هذا القرار جاء في أعقاب سياق متأزم بين الرئيس “سعيد” وبين المجلس القضائي في ضوء انزلاق الأخير نحو اتخاذ إجراءات منحازة في تعيين القضاء وفقًا للولاءات وليس الكفاءات القضائية، وسبق أن ألغى “قيس سعيد” الامتيازات المالية الممنوحة لأعضاء هذا المجلس، وإجراء تعديل على القانون الأساسي له في يناير 2022، كإحدى الخطوات الإجرائية لإصلاح المنظومة القضائية وتحريرها من الفساد والمحسوبية.
ويُعد المجلس الأعلى للقضاء بمثابة هيئة دستورية مستقلة أجريت أول انتخابات لها في الثالث والعشرين من أكتوبر 2016، ويتضمن مهامها ضمان استقلالية القضاء ومحاسبة القضاة ومنح الترقيات والامتيازات المهنية المختلفة في ضوء ما نصت عليه المواد 112 و117 من الدستور التونسي. ويأتي قرار الرئيس التونسي استنادًا إلى نص المادة 117 من الدستور التي تُعطي الحق لرئيس الجمهورية في اتخاذ مراسيم قانونية لتنظيم القضاء.
دوافع مختلفة
لقد شهدت الفترة الأخيرة تصعيدًا من لهجة الخطاب المتبادل بين الرئيس التونسي والمجلس الأعلى للقضاء عبر مضامين التصريحات والبيانات المتعددة الخاصة بحتمية إصلاح المنظومة القضائية من جانب الرئيس قيس سعيد كخطوة مكملة للتدابير الاستثنائية التي اتخذها منتصف العام الماضي، ومن ناحية أخرى تحذيرات المجلس بأهمية استقلال القضاء وعدم التدخل في صلاحيات هذا المجلس، مما أفضى في نهاية المطاف إلى حل هذا المجلس.
ولقد جاء قرار الرئيس “سعيد” في ضوء الانتقادات التي لحقت بهذا المجلس من طول مدة التقاضي تجاه القضايا الحرجة، فضلًا عن ترسيخ الولاءات الداخلية، وهو ما دعمته احتجاجات حراك 25 يوليو الذي طالب بحل هذا المجلس لما فرضته المستجدات نحو هذا المطلب، خاصة في ظل الفساد الداخلي والتواطؤ مع الإرهاب والحركات الإسلامية المتطرفة داخل تونس، ولعل هذا الخط لم يكن موضع اهتمام داخلي فقط، بل تجلت انتقادات أخرى بحق هذا المجلس من المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي اعتبرت أن المنظومة القضائية يشوبها الكثير من النقائص والثغرات التي تشوب وأهمية إصلاح تلك المؤسسات الحيوية والهامة داخل الدولة وبما يضمن نظامًا ديمقراطيًا وضمانة للحقوق والحريات بين جميع المواطنين أمام القانون وتحقيقًا للعدالة الناجزة.
ويأتي هذا القرار في ضوء توجه الدولة لمواجهة قضايا الفساد داخل منظومة القضاة، والتي برزت بصورة كبيرة في قضايا تصفية الحسابات بين عدد من رموز القضاة كما هو الحال بالنسبة لإحالة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب السابق “الطبيب راشد” والقاضي “البشير العكرمي” مطلع مارس 2021 لمجلس التأديب في ضوء التستر على ملفات قضائية هامة تتعلق بملفي الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
سياق مضطرب
جاء قرار الرئيس “قيس سعيد” بحل المجلس الأعلى للقضاء في سياق سياسي متأزم منذ بدء الإجراءات التصحيحية التي قام باتخاذها في يوليو 2021، مرورًا بخارطة طريق أعلن عنها في ديسمبر 2021 والتي تتمثل في إبقاء المجلس النيابي معلقًا إلى تاريخ تنظيم انتخابات تشريعية جديدة، وكذلك إجراء استشارة شعبية عبر منصات إلكترونية للوقوف حول المقترحات والأطروحات المختلفة المتعلقة بالفترة الراهنة، وإطلاق إصلاحات دستورية وإدخال الإصلاحات على القانون الانتخابي، والتي لاقت رفضًا من جانب القوى المعارضة لمسار التصحيح الراهن، وعلى رأسها: حركة النهضة، وحزب قلب تونس، وأحزاب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والحزب الجمهوري، والتيار الديمقراطي.
الأمر الثاني يتجلى في تعدد الجبهات الداخلية، حيث إن قرار حل المجلس الأعلى للقضاء يتزامن في إطار تعدد الجبهات المتعارضة داخليًا، وبرز في تأسيس “اللقاء الوطني للإنقاذ” الرامي لإيجاد مشروع إنقاذ اقتصادي واجتماعي وأهمية العودة للديمقراطية التمثيلية، والذي بات واحدًا من بين الفاعلين الجدد على الساحة السياسية التونسية، وينحاز بصورة كبيرة إلى حركة النهضة والمجلس الأعلى للقضاء التونسي، وكذلك اضطراب الموقف الخاص باتحاد الشغل التونسي الذي يعتبر أكبر منظمة عمالية بالدولة ولديها تأثير ميداني واسع، فقد أبدت عدم اصطفافها مع من يريد الانفراد بالسلطة، على حد تعبير الأمين العام نور الدين الطبوبي.
إلى جانب ذلك، تشهد تونس نشاطًا غير مسبوق في الحركات الاحتجاجية “شبه المنظمة” التي برزت عبر تأسيس حركة جديدة تُعرف باسم “مواطنون ضد الانقلاب” يترأسها عبد الرؤوف بوطيب، المستشار السياسي السابق للرئيس التونسي “قيس سعيد”، وتدعم تلك الحركة خارطة طريق نحو العودة لما قبل 25 يوليو عبر الدفع في مسار عودة البرلمان المنتخب مع تعديل نظامه الداخلي واستكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وتجديد عضوية أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
واستكمالًا للسابق، هناك تحركات حزبية أخرى برزت في “تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية” المُشكلة في نهاية سبتمبر 2021، ومساعيها لإيجاد مناورة سياسية لمحاولة تغيير موازين القوى وتعديلها من خلال إطلاقها مبادرة سياسية نحو إجراء حوار وطني دون مشاركة الرئيس “قيس سعيد” وكذلك الأطراف الرئيسية في الأزمة كما هو الحال بالنسبة للحزب الدستوري الحر وحركة النهضة وائتلاف الكرامة، ويُعد ذلك الطرح ورقة ضغط سياسي تضم المعارضة السياسية، والدفع في مسار تحقيق كيان سياسي واحد لمواجهة قرارات الرئيس “سعيد”.
الأمر الآخر يتجلى في تراجع الأوضاع الاقتصادية خاصةً في ضوء ارتفاع حجم الدين العمومي لتونس إلى مستويات قياسية بنحو 35 مليار دولار خلال عام 2021 ونسبة المديونية بنحو 85.6 % من الناتج المحلي الإجمالي مقابل نحو 79.5% عام 2020، وهو الأمر الذي فاقم من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وبمثابة مسار ضاغط على الدولة التونسية ومنفذًا يمكن أن تتخذه الجماعات المعارضة في تأليب الرأي العام الداخلي.
مآلات خطرة
إن أولى الانعكاسات الناجمة عن تلك الخطوة الإضرار بعلاقات تونس الدولية وتراجع وضعية الزخم التي حظيت بها الإجراءات المُتخذة منذ يوليو 2021 على الصعيد العالمي، وبرز ذلك في التصريح الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية حول ضرورة أن تحافظ تونس على التزاماتها باحترام استقلال القضاء، وهو ما تشابه مع البيان الصادر عن سفراء مجموعة السبع، وكذلك تصريحات “ميشيل باشليت” المفوضة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، فضلًا عن توصيف الأمم المتحدة لهذا القرار بأنه تقويض خطير لسيادة القانون، ولمواجهة ذلك التحدي فقد عقد وزير الخارجية التونسي “عثمان الجرندي” لقاءً جمع سفراء مجموعة السبع المعتمدين بتونس إلى جانب ممثلة مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان لتوضيح المغالطات المختلفة حيال الإجراء المتخذ من جانب الرئيس التونسي.
الأمر الآخر أن هذا القرار يأتي ليُجسد حالة الانقسام الداخلي، ففي حين يراها البعض أنها قرارات ضرورية وجريئة وفي مسار تصويب المشهد الداخلي، نظر إليها آخرون على أنها تعدٍ على السلطة القضائية ومساعٍ لإحكام السيطرة على كافة السلطات، ولعل هذا الوضع يساهم في تسويق صورة ذهنية للداخل والخارج بتحول تونس إلى حالة من السلطوية عبر جمع السلطات الثلاث في يد الرئيس “قيس سعيد” والعمل على إحكام القبضة على كافة السلطات في تونس، سواء أكان عبر الجهات القضائية ذاتها أو من خلال المكون المدني المعارض للقرارات الرئاسية وعلى رأسها الأحزاب التونسية مثل حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحزب التكتل والحزب الجمهوري.
إن ذلك الإجراء من شأنه أن يُراكم من الضغوطات المؤسسية التونسية على المرحلة الراهنة، ويفتح جبهة جديدة في مواجهة الرئيس التونسي ومُعرقلة لمسار التصحيح الذي تشهده الدولة، ولعل الخطوة الأخيرة حيال المجلس الأعلى للقضاء سيدفع إلى تشكيل جبهة قضائية موازية تضم السلك القضائي والنيابة التونسية والمحامين، وبرزت معالم الاصطفاف في هذا الشأن من جانب جمعية القضاة التونسيين التي رفضت قرار الرئيس قيس سعيد بالرغم من تحفظاتها على عمل المجلس.
علاوة على السابق، وفي ضوء التضامن الكامل من جانب حركة النهضة التونسية التي رفضت بشكل قاطع كافة الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد وآخرها حل المجلس الأعلى للقضاء؛ فإنه من المحتمل حدوث التفاف بين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء مع تلك الحركة، واستغلال الأخيرة لتلك التطورات لإعادة فرض نفسها على الساحة الداخلية مرة أخرى وتأليب الرأي العام على النظام الحالي وعرقلة الإصلاحات التي تشهدها تونس منذ العام الماضي، وكذلك خارطة الطريق التي تم وضعها نهاية ديسمبر 2021 والمتمثلة في إعلان تنظيم استفتاء وطني بشأن تعديل الدستور (من المزمع عقدها في 25 يوليو 2022) وإجراء انتخابات تشريعية في ديسمبر من العام ذاته.
وفي التقدير؛ فإن توجه تونس لحل المجلس الأعلى للقضاء يأتي في إطار منظومة إصلاحية متكاملة وشاملة لكافة مؤسسات الدول لإعادة بناء تونس الجديدة، بما يُحقق تطلعات الشعب التونسي في ضوء المرحلة الاستثنائية التي تمر بها الدولة. وبالرغم من أهمية تلك الخطوة كإجراء مُعزز لمسار خارطة الطريق، إلا أنها بمثابة تحدٍّ جديد وامتحان غير مسبوق أمام الرئيس قيس سعيد يتطلب معه إيجاد استراتيجية وبديل عاجل يحول دون فراغ تلك المؤسسة، خاصة وأن تونس على أعتاب إجراء استحقاقات متعددة تتعلق بالدستور وبالحياة النيابية، ولعل الارتهان للشعب إحدى الأوراق الرابحة للرئيس “سعيد” في المضيّ قدمًا حول الإجراءات الإصلاحية المتخذة، وقد تُرجم ذلك فيما يتعلق بالبند الخاص –ضمن خارطة الطريق- بتنظيم استشارة شعبية عبر المنصات الإلكترونية ليُحقق تجاوبًا شعبيًا وتضامنًا واسعًا حول القرارات المُتخذة، غير أن هذا الأمر غير كافٍ بل يتطلب أهمية إيجاد نخبة سياسية بديلة لتلك التي تصدرت الساحة خلال الفترة الماضية بما يُعزز بصورة كبيرة من مسار التحول المستقبلي.
رابط المصدر: