د. احمد عدنان الميالي
عقد العراق والولايات المتحدة اتفاقيتين الأولى: هي اتفاقية انسحاب القوات الأمريكية المعروفة بـsofa، والتي انتهت مع نهاية عام ٢٠١١ قانونياً وعمليا، والثانية: اتفاقية الإطار الاستراتيجي النافذة، وهي موضع اختلاف في تفسيراتها والتزاماتها وشابها الكثير من الغموض والالتباس من كلا الطرفين إضافة إلى ضعف الآليات المتبعة لتنفيذ الالتزامات وتباين وجهات النظر حول المدة القانونية لها، كما أن هذه الاتفاقية بقيت في إطار التنظير الشكلي أكثر من الأبعاد العملية خاصة في طرق الاحتجاج ببنودها، ولهذا تحتاج أما لإعادة نظر من حيث تعديلها أو تطويرها،
أو استبدالها باتفاقية جديدة في ظل المعطيات والتحولات الجيوسياسية التي استجدت بعد هذه الاتفاقية.
أولا: أهداف الجانب الأمريكي للحوار الاستراتيجي:
هنالك عدة معطيات دفعت الجانب الأمريكي إلى دعوة العراق إلى حوار استراتيجي، حول واقع ومستقبل العلاقة بين الطرفين، من المفترض أن يعقد يوم العاشر من حزيران الجاري.
في مطلع نيسان الماضي قال مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكية: أن الولايات المتحدة ستضطر إلى إعادة تقييم إستراتيجيتها في العراق في ظل الضغط المتزايد لقوات الحشد الشعبي على وجود القوات الأمريكية في العراق، كما المح بومبيو: أنه بالتزامن مع انتشار فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط وتراجع الاقتصاد العراقي، فمن المحتمل جدا أن ينزلق العراق لعدم الاستقرار؛ الأمر الذي من شأنه أن يعزز الانقسامات السياسية الداخلية ويقوي عودة داعش مرة أخرى إلى الواجهة، في الوقت الذي يعزز من النفوذ الإيراني في العراق من جديد عبر إسناد قوات الحشد الشعبي في مهام قتالية تعيد بزوغه للواجهة العراقية من جديد.
لكن الحقيقة أن الدوافع والأهداف المباشرة لواشنطن لإجراء مثل هذا الحوار يرتبط بالأساس بالآتي:
1- مواجهة وتقليص النفوذ الإيراني في العراق، إذ تعتقد إدارة الرئيس ترامب أن هذا النفوذ تعزز وتزايد بعد تشكيل حكومة عادل عبد المهدي رغم استقالتها والضغوط الشعبية والسياسية التي مورست ضدها.
2- البحث عن سلامة التواجد العسكري والدبلوماسي الأمريكي في العراق، والحفاظ على هذا التواجد وفق المقاربة الدبلوماسية المرتبطة بالسياقات الاقتصادية والأمنية.
3- أدركت واشنطن أن سياسة الضغوط القصوى والعقوبات الاقتصادية تجاه إيران لم تكن كافية وناجعة لإرضاخ إيران وتقليص نفوذها المتنامي وخاصة في العراق، كما أنها لا تريد استمرار استهداف المصالح الأمريكية بصواريخ فصائل الحشد الشعبي المقربة من إيران، يدفع بها إلى إجراء هذا الحوار لتأمين سلامة وجودها العسكري والدبلوماسي.
4- لا تريد واشنطن انسحابا كاملا من العراق لأن مثل هذا الانسحاب يعد انتصار استراتيجيا لإيران، ولهذا تبحث عن خيارات البقاء وإعادة الانتشار مع ضمان تحييد النفوذ الإيراني. وهذا يكون عبر التفاهم والحوار والتفاوض مع الحكومة العراقية، التي سيتوقف الدعم الأمريكي لها وفقا لمعطيات ومخرجات هذا الحوار.
5- إحلال توازن عراقي-إيراني في العلاقات والقدرات لا ينعكس سلبا على واشنطن؛ إذ ما تريده واشنطن من العراق يرتكز على استغلال الواقع الاقتصادي المتردي، والانقسام السياسي والفوران الشعبي، وانبثاق تنظيم داعش من جديد، فالمعادلة في هذا الحوار ستكون وفق الرؤية الأمريكية قائمة على تحييد العراق من إيران مقابل تمكينه اقتصاديا وامنيا وسياسيا، والعكس صحيح تماما.
6- لا تريد الولايات المتحدة أي مواجهة مع إيران في العراق، ولهذا ستعمل واشنطن على إدامة زخم تلك الضغوطات على طهران عن طريق تحييد العراق وتمكينه، وجعله يتصرف بنحو غير داعم لإيران بما يعزز نجاح الضغوط القصوى تلك، ويجبر إيران على التعامل وفق هذه المعطيات الجديدة.
ثانيا: أهداف الجانب العراقي للحوار الاستراتيجي:
1- يعد قرار مجلس النواب العراقي في كانون الثاني المنصرم بشأن انسحاب القوات الأجنبية- الأمريكية من العراق، أهم الأهداف التي تدفع الحكومة العراقية الحالية للحوار مع الولايات المتحدة، لأنه يعكس واقع حاجة العراق إلى حماية سيادته وأجواءه وقراره السياسي من جهة، ويعكس وجود انقسام سياسي حول شكل العلاقة مع الولايات المتحدة مكوناتيا، من حيث تعزيز التعاون والبقاء مقابل الانسحاب من جهة أخرى.
2- من أهداف هذا الحوار البحث عن اتفاقية جديدة بديلة عن اتفاقية الإطار الإستراتيجي غير الواضحة وغير العملية، تعكس المصالح المتبادلة بين الطرفين دون ضرر أو انحياز أو ميلان كفة على حساب الكفة الأخرى.
3- الهدف الأمني: تدرك القوى السياسية والحكومة العراقية أن القوات الأمريكية باقية في العراق رغم الانسحاب من عدة قواعد لكنها تمركزت بقواعد أخرى في إقليم كُردستان وقاعدة عين الأسد، كما أنها نصبت منظومة باتريوت المضادة للصواريخ، وهذا يعني يجب التعامل مع هذا التحول وانعكاساته، فمن بين الأهداف لهذا الحوار أن يضمن العراق عدم استخدام هذه القواعد ضد أهداف إقليمية أو مصالح عراقية أو استهداف مصالح مقربة من إيران في العراق، إضافة إلى ضمانات أمريكية لمواجهة تنظيم داعش وعدم التساهل أو التعاون أو الاستغلال والاستثمار في هذا الملف لمعاقبة العراق لأنه لا يصطف مع مصالحها.
٤- الهدف الاقتصادي: يسعى الجانب العراقي، إلى تجنب أي عقوبات اقتصادية أمريكية تطاله نتيجة عدم تفهم رؤية ومصالح واشنطن لمقاربتها في التعامل مع إيران والجماعات المقربة منها، كما يسعى لتعزيز الدعم الاقتصادي بدلا من ذلك لمواجهة تداعيات انخفاض أسعار النفط وانتشار وباء كورونا وأزمة الرواتب وغيرها التي تواجه الحكومة، فواشنطن وعبر الكونغرس خصصت منذ ٢٠١٤، أكثر من ٦.٥ مليار دولار لبرامج التدريب والتجهيز العسكري الأمريكي للعراق، وقدمت ٢.٧ مليار دولار كمساعدات إنسانية، ودفعت أكثر من ٣٦٥ مليون دولار من تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة في العراق فضلا عن برامج إزالة الألغام، وإصلاح الإدارة المالية العامة العراقية، وغيرها من التدفقات المالية.
وتريد بغداد استمرار مثل هذا الدعم في مثل هذا التوقيت، كذلك هنالك ٣٥ مليار دولار للعراق في البنك الفدرالي الأمريكي، تريد الحكومة العراقية الاستفادة منها في ظل هذه الأزمة، فتجميد هذه الأموال أو رفع الحماية عنها كفيل بانهيار الوضع بالكامل في العراق، هذه النقطة بحد ذاتها أهم أهداف هذا الحوار في المنظور الحالي، لكن ضمانات ذلك لن تكون بدون مقابل.
٥- الهدف السياسي: يسعى العراق إلى حصوله على التزام أمريكي بدعم الاستقرار السياسي في العراق، ومحاولة عدم ربط الصراع مع إيران مع هذا الاستقرار. إذ تمتلك واشنطن أوراق عديدة لزعزعة الوضع السياسي العراقي فضلا عن الأمني والاقتصادي الذي أشرنا إليه، منها علاقة واشنطن مع بعض المكونات والقوميات وتواجدها العسكري في إقليم كُردستان، فلهذا تريد بغداد التعاون مع واشنطن على ضمان وحدة العراق وعدم تقسيمه أو تشجيع النزعات الانفصالية والتمرد والبحث عن كيانات موازية، عبر تشجيع ودعم أطراف على حساب أطراف أخرى، إضافة إلى عدم الاستثمار في ملف الاحتجاجات كورقة ضغط ضد بعض الأطراف غير المتخادمة مع المصالح الأمريكية، وهذا يحتاج إلى ضمانات لعدم التدخل في الشأن الداخلي والمحلي العراقي من جميع الأطراف وليس فقط واشنطن.
٦- يستقى العراق أن تكون الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي: القناة الغائبة للاتصال بين واشنطن وطهران، فيما يخص الملف العراقي، ومع تعدد بؤر التوتر الممكنة بينهما فأن تشابك محدود وغير مباشر قد يحصل نتيجة تشابك المصالح والأهداف وتعارضها وهذا لن يخدم العراق، ولهذا لابد من العمل على تحييد الساحة العراقية من هذا التشابك والتوتر، وهذا يحتاج أن يتفاوض العراق مع واشنطن دون وسيط بخصوص التعامل الأمريكي مع إيران في العراق، فإيران لا ترغب بهذا الحوار الاستراتيجي إلا إذا كان حول الإنسحاب الأمريكي، وهذا إن حصل فالارتدادات والمشاكل المشار إليها ستنعكس على العراق، ومع إجراء الحوار دون إدخال المتغير الإيراني فإن جدواه لن تثمر شيء، لأن هذا يعني استمرار فصائل المقاومة في الحشد الشعبي باستهداف القواعد والمصالح الأمريكية وقد يشمل ذلك الفاعلين السياسيين المعارضين لها ولمصالحها، وهذا سيكرس ويعزز الشرخ السياسي واستدامته في النظام السياسي العراقي داخل حتى الأحزاب السياسية ذات الطيف الواحد.
ثالثا: إرشادات للوفد المفاوض العراقي في الحوار الاستراتيجي
١- عدم اقتصار هذا الحوار على الجانب الأمني والعسكري المرتبط بالانسحاب والبقاء بالنسبة للقوات الأمريكية وقضية القواعد العسكرية، بل يجب أن يشمل هذا الحوار المسارات الاقتصادية والسياسية والثقافية والصحية.
2- إبعاد النزعات الشخصية والفردية والفئوية ووجهات النظر الأحادية في هذا الحوار والتفاوض وفقا للمصالح العراقية الوطنية التي تمثل جميع المكونات والأطياف السياسية والاجتماعية.
3- توظيف قدرات ومهارات وصلابة الوفد المفاوض العراقي، في إبراز امتلاكه ضوء أخضر سياسي داعم له في هذا الحوار، وهذا يتطلب الاستماع من الوفد لجميع وجهات النظر واستحصال الدعم السياسي للملفات المطروحة.
4- يجب أن يبني الوفد المفاوض رؤيته للحوار وفقا للمصالح العليا لا المواقف والمطالب المحدودة إذ هنالك فرق كبير بينهما، أن تنجز مصلحة مستدامة معززة للتعاون بدل أن تحقق مطالب آنية قد تعزز الصراع والاختلاف.
٥- أهم ما يمكن أن يتصف به الفريق المفاوض أن يكون واعيا ومدركا لمصالح واهتمامات كل طرف لا أن ينظر لمصالح واهتمامات الطرف الذي يمثله فقط فعليه معرفة مصالح واهتمامات الطرف الآخر، وعند إحراز مكتسبات لصالح العراق يجب أن تضمن ذلك للجانب الأمريكي، ليكون الحوار واقعيا يفضي إلى اتفاق ممكن تطبيقه والاستفادة منه.
6- إذا نجح الوفد المفاوض في التوصل إلى (اتفاق -اتفاقية جديدة) أو تعديل الاتفاقية السابقة، فيجب أن تتصف وتتحلى بالوضوح في البنود والمواد والفقرات دون تحميل أياً منها للتأويل والتفسير المتباين ويجب أن يكون أي اتفاق يعقد: عملياً ومفيدا وقابل للتطبيق وأن توضع آليات ولجان اتصال مباشرة لتنفيذ التعهدات والالتزامات مع طرق ضمانات التنفيذ وماهية السبل القانونية لذلك مع بيان كلف عدم الالتزام بهذا الاتفاق، لكلا الطرفين.
7- الشفافية وهو الأهم في هذا الحوار، فيجب عدم الاتفاق على أي بنود أو التزامات سرية بل كل البنود والفقرات علنية وواضحة، عدا ذلك فإن مصير أي مخرجات لمثل هكذا حوار أو تفاوض ستكون شكلية وعديمة الفائدة.
أخيرا، نقول يجب استثمار عامل التوقيت لإنجاز وإحراز اتفاق-اتفاقية، جديدة أو تعديل الاتفاقية السابقة، تعكس المصالح العراقية ومصالح الطرف الآخر، وعدم تأجيل هذا الحوار وتمديده والاسترخاء في انجاز مخرجاته، لأن التوقيت يخدم الجانب العراقي في ضوء الاحتجاجات الحاصلة في الولايات المتحدة التي ستدفع بإدارة الرئيس ترامب البحث عن مخارج ومنجزات دبلوماسية في ملف العراق ومنطقة الشرق الأوسط، وعدم الانتظار إلى مابعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية لأن إعادة انتخاب ترامب يعني انه سيتخذ مواقف أكثر صلابة تجاه إيران والعراق، بما يعزز سياساته ومقارباته المتبعة سابقا، أما وصول رئيس ديمقراطي جديد فهذا يعني مزيدا من الوقت لتقييم العلاقات مع العراق، ثم الوصول إلى إستراتيجية أو سياسة خارجية تجاه المنطقة ثم التوصل لاتفاق عراقي أمريكي، وهذا منظور زمني طويل في ظل مطالبات بانتخابات مبكرة وافرازاتها أن أجريت، وهذا لا يخدم الجانب العراقي في ظل الظروف الحالية.
رابط المصدر: