رؤية تحليلية لمكونات الدولة

محمد عبد الجبار الشبوط

 

بغض النظر عما هو موجود في كتب العلوم السياسية والقانون الدستوري لمكونات الدولة، فاني سوف اقدم في هذه السلسلة من المقالات رؤية تحليلية لمكونات الدولة من وجهة نظر حضارية، تتألف الدولة من اربعة عناصر هي: الناس، الارض، العلاقة (بين الناس ومع الارض)، منظومة القيم العليا الحافّة بعناصر المركب الحضاري الخمسة، وسوف اتحدث عن الان العنصرين الاول والثاني، وهما الناس والأرض، لا يمكن تصور قيام الدولة بدون الناس، او الشعب، او المجتمع، او المواطنين والمقيمين.

وفي بدايات نشوء المجتمع البشري ثم الدول في مرحلتها البدائية في مدن وادي الرافدين قبل الاف السنين “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً”، كما ينص القران الكريم، وتابعه عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والكتاب مثل هوبز وروسو ولوك وفيلمر والطباطائي والصدر وغيرهم. لكن بمرور الزمن ومع تطور الدولة والمجتمع، اخذت المجتمعات البشرية تميل الى الانقسام الى فئتين: فئة الحكام، وفئة المحكومين، كما لاحظ عن حق عالما الاجتماع موسكا (١٨٥٨-١٩٤١) في كتابه The Ruling Class الصادر عام ١٩٣٩، وباريتو (١٨٤٨-١٩٢٣) حيث تشكل فئة الحكام اقلية عددية، فيما تشكل فئة المحكومين اغلبية عددية.

تضم فئة الحكام كلّ من لديه سلطة رسمية على الاخرين فيما يتعلق بشؤون الدولة وادارة البلاد. ويكون هؤلاء على نوعين او درجتين، هما: درجة الحكام السياسيين، وهم رئيس الدولة والوزراء والنواب والمحافظين ومن بمستواهم، ودرجة الحكام الاداريين الذي يشكلون الجسم التنفيذي للدولة ويملكون سلطة بدرجة ما على المواطنين، او يتمتعون بصلاحيات معينة لادارة شؤون البلد، من مدير عام فما دون الى اصغر موظف في جهاز الدولة التنفيذي.

كما ينقسم الناس الى فئتين هما: اقلية تمثلها ما يسميه علماء الاجتماع الصفوة او النخبة من جهة، واكثرية يمثلها عموم الناس من جهة ثانية. وتنقسم الصفوة بدورها الى قسمين، حسب تقسيم باريتو، هما: الصفوة الحاكمة، وهي نفسها فئة الحكام المذكورة اعلاه، والصفوة غير الحاكمة، وهي تشمل المفكرين والكتاب وحملة الشهادات العليا ورجال الاعمال والاقتصاد ومن شابههم، من الذين لا يشاركون في ادارة شؤون البلاد.

وحين تبنت الدول فكرة الانتخاب لتعيين الحكام قسّم القانون الانتخابي الناس الى قسمين هما: القسم الاول، الناخبون، وهم الذين يحق لهم الادلاء باصواتهم في صناديق الاقتراع؛ وغير الناخبين الذين لا يحق لهم ذلك بسبب العمر وغيره من المحددات التي يضعها القانون.

و من وجهة النظر الحضارية، يشكل الناس (او الانسان) العنصر الاول في المركب الحضاري. فالانسان هو صانع الحضارة، وقد يكون هو السبب في انهيارها وسقوطها. وهذا ما اشار اليه القران الكريم في ايتين على الاقل، حيث قال في الاولى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ”؛ ويقول في الثانية: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا”.

اما العنصر الثاني فهو الارض. وايضا لا يمكن تصور قيام الدولة بلا ارض يستقر عليها الناس، حيث اثبت التاريخ المعاصر استحالة ذلك كما بالنسبة لحالة اليهود والفلسطينيين الذين دخلوا في صراع وجود مستميت على ارض فلسطين. “وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ”. وهي تشمل ما يسمى الاقليم الارضي والجوي والبحري اذا كانت تطل على البحر.

والارض هي العنصر الثاني في المركب الحضاري، وسوف اتناول العلاقة بين الناس والارض لاحقا بصورة اكثر تفصيلا، لكني اكتفي الان بالقول ان الاصل في ملكية الارض انها لله، اي مباحة، لكن الله حوّل هذه الملكية الى الانسان، كما في قوله تعالى:”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”. اي الجماعة البشرية كلها.

الارض هي العنصر الثاني في الدولة، وهي ايضا المكون الثاني في المركب الحضاري. وكما قلت، فانه لا يمكن تصور قيام الدولة بلا ارض يستقر عليها الناس.

و الاصل في ملكية الارض انها لله، اي مباحة، لكن الله حوّل هذه الملكية الى الانسان، كما في قوله تعالى:”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”. اي الجماعة البشرية كلها. فالجماعة البشرية بمجموعها، وعلى طول امتدادها التاريخي، هي مالكة الارض، بتخويل من الله. وهذا هو اول اشكال الملكية، ويصح ان نطلق عليه اسم “الملكية الجماعية”. وحينما انتقل الانسان الى الزراعة ظهرت “الملكية الخاصة” للارض المزروعة، وحينما قامت الدول ظهرت “ملكية الدولة”، او “الاستحقاق السياسي” للارض، ومعه ظهرت فكرة الوطن، ومن ثم الوطنية لتكون عنوان العلاقة بين الانسان والارض. والوطن في النظام العالمي هو الارض ذات الحدود السياسية المعترف بها من قبل المجتمع الدولي. واي خلاف او نزاع حدودي يجب حله وتسويته وفق القانون الدولي وفي اطار الامم المتحدة.

وفي الدولة الحضارية الحديثة من الضروري ان يكون تعريف الوطن واضحا وحاسما، في وعي المواطن وثقافته السياسية، بسبب دوره الكبير في تماسك الدولة، وقوتها، وديمومتها. اما تجزئة الارض الى اوطان فرعية او محلية بموجب الهوية الدينية او المذهبية او القومية لسكانها فهذا هو مقدمة لتحلل الدولة وانقسامها الى دويلات اصغر. وهذا من الاخطار التي تهدد الدولة العراقية، الامر الذي جعل العراق يحتل موقعا متقدما في قائمة الدول الهشة.

وهذا لا يتعارض مع شكل الدولة الفيدرالية اذا كان الوطن في وعي المواطن يعني ارض الدولة كلها وليس فقط ارض الاقليم الفيدرالي. واما اذا حصل العكس، فهذا يعني تقليص الوطنية واختزالها بالاقليم فقط.

“العلاقة المعنوية”-والمصطلح للسيد الصدر- بين الانسان واخيه الانسان من جهة. والانسان والارض او الطبيعة بصورة عامة من جهة ثانية، هي العنصر الثالث في تكوين الدولة. ويطلق القران على هذه العلاقة مصطلح “الاستخلاف” المشتق من قوله تعالى:”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”. ولم اجد افضل مما كتبه السيد محمد باقر الصدر في تفسير هذه الاية، حيث قال: “ان الله سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعيا وطبيعيا. وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بنفسها بوصفها خليفة عن الله.”

وانطلاقا من هذا الموقع المتميز للانسان تتحدد طبيعة علاقة الانسان بالانسان (العلاقة الاجتماعية)، وعلاقة الانسان بالطبيعة (العلاقة الطبيعية).

تقوم العلاقة الاجتماعية على اساس المساواة المطلقة وولاية الانسان على نفسه، حيث لا سلطة لاحد على احد الا بسبب متفق عليه، وهذا يحدد اساس العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، حيث لا يحق للفئة الاولى ممارسة سلطة الحكم الا بتخويل وانابة من الفئة الثانية. ويتحقق هذا من خلال الانتخابات.

ورضا المحكومين عن هذه العلاقة هو الاساس في شرعية الحكم، بالمعنى السياسي. وهذا هو جوهر الديمقراطية، او الحكم القائم على مبدأ الاستخلاف، وتحدد منظومةُ القيم العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري ضوابطَ واحكامَ تفاصيل هذه العلاقة كما سوف يتضح في المقال المقبل.

اما العلاقة بين الانسان والطبيعة فتقوم على اساس الاستثمار والاستمتاع بالخيرات والثروات التي تقدمها الارض للانسان. ولا يتحقق ذلك الا بالعلم والعمل. وبذلك تتكامل عناصر المركب الحضاري الخمسة وهي: الانسان والطبيعة والعلم والعمل، وتشتغل هذه العناصر وتتفاعل فيما بينها في ضوء منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري التي تشكل العنصر الرابع في تكوين الدولة.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/25377

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M