- تُسيطر حالة من اللايقين على الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، مؤسساتٍ ودولاً وشركات، في ظل توقُّع الأوروبيين نهجاً مختلفاً تتبعه إدارة الرئيس دونالد ترمب تجاه العلاقات بين ضفتي الأطلسي، لاسيما على صعيد العلاقات التجارية والتحالف الدفاعي.
- فضلاً عن خروجه عن الإجماع الغربي بشأن الموقف من روسيا في أوكرانيا، فإن التحدي الأساسي بالنسبة للأوروبيين في ظل إدارة ترمب سيكون فرضية الانسحاب الأمريكي من الحماية الدفاعية لأوروبا، وإضعاف قدرة حلف الناتو على الردع.
- يمثل التفكير الاقتصادي الحمائي لدى ترمب الهاجس الأكبر بالنسبة للأوروبيين، حيث يقيس ترمب مكاسب التجارة بحجم الميزان التجاري الأمريكي، وبالتالي فهو يستهدف كل الدول والكيانات التي تتمتع بفوائض تجارية مع الولايات المتحدة، ومن بينها الاتحاد الأوروبي.
- لا تطال التداعيات الجذرية لعودة ترمب العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فقط، ولا التأثيرات المحتملة على الأسواق الأوروبية، وما تخلفه من تداعيات اجتماعية ربما تكون حادةً، ولكنها قد تؤثر في البنية الأساسية للاتحاد الأوروبي نفسه، وتهدد تماسكه الداخلي.
- تُشكِّل السياسات الترمبية فرصة للأوروبيين لتكثيف جهودهم الهادفة إلى الحد من الاعتماد على الولايات المتحدة، وتسريع خطط تعزيز الاستقلال الاستراتيجي، وخاصة في مجال الدفاع والقطاعات الاقتصادية الحيوية.
بعودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، عاد الخوف والترقب بشأن العلاقات بين ضفتي الأطلسي، أمريكا وأوروبا. ولئن حافظ الاتحاد الأوروبي على تماسكه النسبي في خلال العهدة الأولى لترمب بين 2016 و2020، إلا أن المشهد الأوروبي اليوم مختلف على نحو جذري عما كان عليه قبل سنوات، إذ لا تزال الحرب الروسية – الأوكرانية مشتعلةً مع ميل المعطيات الميدانية لصالح موسكو، فيما تحول عدد من الحكومات الأوروبية من تيار الوسط إلى اليمين المتطرف، فضلاً عن الأزمة المديدة التي خلَّفتها صدمة الطاقة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين، وما تركته من خطوط صدعٍ واضحةٍ في تماسك الوحدة الأوروبية.
ومن ثمَّ، فقد أخذت حالة من اللايقين تُسيطر على الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، مؤسساتٍ ودولاً وشركات، في ظل توقُّع الأوروبيين نهجاً مختلفاً تتبعه إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب للعلاقات عبر الأطلسي، لاسيما على صعيد العلاقات التجارية والتحالف الدفاعي.
التداعيات الدفاعية والجيوسياسية لعودة ترمب
تقع الحرب الروسية – الأوكرانية على رأس الأجندة الأمريكية الأوروبية منذ سنتين. وعلى رغم الخلافات التي تعتري علاقة الطرفين، فإنهما كانا متوافقين عموماً في دعم أوكرانيا ضد روسيا من طريق الدعم المالي والعسكري. إلا أن عودة دونالد ترمب إلى السلطة من المحتمل أن تدفع واشنطن لمراجعة هذا النهج. إذ أعرب ترمب بوضوح عن تشككه حول مستوى الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وانتقد المساعدات المالية والعسكرية التي قدمتها إدارة بايدن لكييف. وقد وضع فريقه منذ يونيو الماضي “خطة لإنهاء الحرب، تتضمن وقف المساعدات العسكرية لكييف في حال رفضت الدخول في محادثات السلام”. هذا التحول يمكن أن يضع الحمل الأكبر من تكلفة المساعدات على الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أي اتفاق سلامٍ محتملٍ سيكون في صالح موسكو، التي نجحت في تخطي عقبة العقوبات الغربية للعام الثالث، وفرضت وضعاً جيوسياسياً جديداً في القارة الأوروبية لصالحها. وقد مثَّلت التوترات السياسية في جورجيا، وخيبة أمل دعاة الوحدة الأوروبية في استفتاء مولدوفا، والموقف المجري القريب من موسكو؛ مثَّلت كلها مؤشرات على توسع نفوذ روسيا في القارة بعكس ما كان متصوراً بعد الهبَّة الغربية ضدها في أعقاب دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا.
وفضلاً عن خروجه عن الإجماع الغربي بشأن الموقف من روسيا في أوكرانيا، فإن التحدي الأساسي بالنسبة للأوروبيين في ظل إدارة ترمب سيكون فرضية الانسحاب الأمريكي من الحماية الدفاعية لأوروبا، كما تشكَّلت وفقاً لقواعد التحالف الأطلسي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ ولايته السابقة، انتقد ترمب بشدة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لأن بلاده توفر الجزء الأكبر من الإنفاق الدفاعي داخل الحِلف. وكانت وجهة نظره أن هذا العبء على واشنطن يشجع الانتفاع المجاني بين الأعضاء الآخرين، الذين يستفيدون بالحماية دون أن يدفعوا ثمنها.
وتعكس هذه المعادلة الخلفية المالية الربحية المباشرة التي يتبناها الرئيس الأمريكي في إدارة السياسة الخارجية، وهو ما قد يهدد بتقليص التزامات الولايات المتحدة تجاه الناتو. وبالتالي سيجعل البلدان المتأخرة في الإنفاق الدفاعي، مثل ألمانيا وإيطاليا، تحت ضغوط سياسية ومالية لزيادة الميزانيات العسكرية. ذلك أن إعادة توجيه الأموال إلى الدفاع قد يضغط على الميزانيات الوطنية، ويحوِّل الموارد عن الأولويات مثل البرامج الاجتماعية أو التحولات الخضراء، مما قد يؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي للاتحاد. وقال الأدميرال بيير فاندييه، القائد الأعلى لعمليات التحول في حلف الناتو، إن أوروبا بحاجة إلى “تحمُّل المزيد من المخاطر، وإنفاق المزيد، والعمل بشكل أسرع وخفض البيروقراطية للفوز بسباق التسلح العالمي الجديد”، مشيراً إلى أن 3% من الناتج المحلي الإجمالي “سيكون الهدف المطروح على الطاولة في خلال الأشهر الـ 18 المقبلة”، مما يدفع نحو عودة مستويات الإنفاق العسكري التي شهدها العالم خلال الحرب الباردة، والتي كانت تبلغ بين 4% أو 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وإلى جانب التحدي المالي، تفرض رؤية ترمب الدفاعية تحدياً أمنياً حيوياً، حيث قد يواصل تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، كما حاول في خلال ولايته الأولى. وقد يؤدي هذا إلى إضعاف موقف الردع لدى حلف الناتو، وخاصة في أوروبا الشرقية، مما يزيد من مسؤولية الاتحاد الأوروبي عن أمنه، لاسيما في مواجهة روسيا.
ومع أن انسحاب ترمب من حلف الناتو بشكل مباشر يبدو مُستبعداً، لكنَّه قد يسعى إلى إعادة تشكيل عقيدته التقليدية، التي ولدت في خلال الحرب الباردة، وركَّزت على مواجهة الروس، نحو عقيدة جديدة تركز أكثر على مواجهة الصين. وقد طرحت هذه التوجهات العامة في مقالة نُشرها فبراير 2023 مركز تجديد أمريكا المقرب من ترمب. لكن في المقابل، ربما يكون نهج ترمب، دافعاً في الاتجاه المضاد نحو تعزيز السيادة الدفاعية في الاتحاد الأوروبي. ففي مواجهة الانسحاب النسبي من جانب الولايات المتحدة، قد يعمل الاتحاد الأوروبي على تسريع الجهود الرامية إلى بناء قدراته الدفاعية. وقد يؤدي هذا إلى زيادة التعاون والإنفاق الدفاعيين، وربما يقود إلى نشوء تحالف عسكري أقوى بين دول الاتحاد الأوروبي أو حتى المضي نحو بناء الجيش الأوروبي الموحد. ومع ذلك، فإن هذا قد يستغرق وقتاً وموارد، وقد تتفاوت بشأنه الإرادة السياسية بين دول الاتحاد الأوروبي.
على مستوى التحالفات الجيوسياسية والتأثير العالمي، فإن استعداد ترمب لإعادة النظر في العلاقات مع روسيا، نحو علاقة أقل عدائية، سيؤدي إلى تقويض سياسات الاتحاد الأوروبي التي تحاول الحفاظ على جبهة موحدة ضد موسكو، ليس فقط فيما يتصل بالوضع في أوكرانيا، بل في عموم شرق القارة ومنطقة البلقان، وكذلك فيما يخص الصراعات في مناطق نفوذ خارجية مثل الشرق الأوسط وأفريقيا. أما فيما يخص الصين، فإن الاتحاد الأوروبي مالَ إلى التزام الحذر في تعامله مع بيجين، موازناً بين المصالح التجارية والمخاوف الأمنية. وفي حال تبنَّت الولايات المتحدة بقيادة ترمب نهجاً أكثر انعزالية أو أقل قابلية للتنبؤ تجاه الصين، فإن ذلك قد يضع الاتحاد الأوروبي في موقف صعب بين التحالف مع واشنطن بشأن القيود التكنولوجية أو الحفاظ على علاقاته الاقتصادية مع بيجين. وعلى نحوٍ عامٍ من المرجح أن تؤدي عودة ترمب إلى تقليل تعاون الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي في العديد من قضايا السياسة الخارجية.
التداعيات الاقتصادية
يمثل التفكير الاقتصادي الحمائي لدى ترمب الهاجس الأكبر بالنسبة للأوروبيين، حيث يقيس الرئيس الأمريكي مكاسب التجارة بحجم الميزان التجاري الأمريكي، وبالتالي فهو يستهدف كل الدول والكيانات التي تتمتع بفوائض تجارية مع الولايات المتحدة، ومن بينها الاتحاد الأوروبي، حيث يبلغ العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا إلى نحو 107 مليارات دولار سنوياً، منها 86 مليار دولار مع ألمانيا وحدها. ومن المتوقع أن يسجل هذا العجز رقماً قياسياً جديداً في عام 2024 عند نحو 230 مليار دولار. وبالتالي يريد ترمب فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية لأمريكا لخفض هذا العجز أو تصفيره، في مسعى لتحفيز الاقتصاد المحلي وزيادة تنافسية الشركات الأمريكية وخفض التضخم في الولايات المتحدة، خاصةً أن التضخم شكّل عاملاً أساسياً في التصويت له في الانتخابات الأخيرة، وقوَّض على نحو كبير الدعم الشعبي للديمقراطيين. لذلك فمن المتوقع أن يشرع في فرض حزمة من الرسوم الجمركية على صادرات الدول التي تدير فائضاً تجارياً مع بلاده وعلى رأسها الصين وكندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي، في خلال الشهور الأولى، ذلك أن تنفيذ بعض التدابير قد يكون معقداً إلى حد ما ويحتاج نقاشات حول التشريعات. وفي الوقت نفسه يملك الرئيس الأمريكي عدداً من الأدوات التشريعية والتنفيذية، التي يستطيع استخدامها رسوماً تجارية وجمركية بشكل فردي، حتى من دون اللجوء إلى مجلس النواب والشيوخ، كما أن سيطرة الجمهوريين على الكونغرس قد تسمح له بدفع زيادة التعريفات الجمركية على نطاق واسع وبسرعة. وقد شرعت إدارة ترمب منذ منتصف نوفمبر في التداول بشأن طبيعة وحجم وحدود الرسوم الجمركية التي سيتم فرضها، وتتضمن مقترحات ترمب، التي تهدف إلى تعزيز التصنيع المحلي وتقليل الاعتماد على الدول الأجنبية، رسوماً تصل إلى 20% على جميع السلع الآتية إلى الولايات المتحدة، والتي تبلغ قيمتها 3 تريليون دولار، ورسوماً لا تقل عن 60% على جميع الواردات من الصين، وهو ما يؤثر في البضائع الأوروبية التي تقدر بـ 575 مليار دولار.
هذه الرسوم الجمركية المرتفعة، التي من المحتمل أن تفرض على الشركات الأوروبية، قد تؤدي إلى تعطيل أسواق التصدير الرئيسة لدول الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا، مما يؤدي إلى إضعاف اقتصاداتها. وربما تؤدي إلى انهيار تاريخي في قطاعات أساسية مثل صناعة السيارات الألمانية، التي تكافح من أجل خفض التكاليف بشكل كبير، والتي خصها ترمب بهجوم مباشر. لكن الأكثر خطورةً بالنسبة لأوروبا هو إمكانية تحوُّل الرسوم الجمركية الانتقامية إلى حرب تجارية، مما يؤدي إلى زيادة التكاليف على الشركات والمستهلكين على كلا الجانبين، وخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقاً لدراسةٍ نشرها معهد كيل الألماني للاقتصاد العالمي، فإن تكاليف فرض ترمب رسوماً جمركية في الحد الأدنى بنسبة 10% على الواردات الأوروبية، و60% على الواردات الصينية، قد يؤدي إلى انكماش التجارة العالمية بنسبة 2.5% في البداية، مع انكماشات أكبر إذا ردّ الشركاء التجاريون برسوم انتقامية. وفي حين قد يشهد بعض قطاعات الاتحاد الأوروبي، مثل التكنولوجيا الفائقة، مكاسب قصيرة الأجل في الناتج المحلي الإجمالي بسبب القدرة التنافسية النسبية، فإن الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي سوف يظل في انخفاض، حيث ستواجه ألمانيا خسائر في الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 6 مليارات يورو وتأثيرات كبيرة في قطاعات رئيسة مثل السيارات والأدوية. وفي السيناريو الأكثر تشاؤماً، من شأن انهيار منظمة التجارة العالمية أو تفتُّتها إلى كتل جيوسياسية متنافسة أن يؤدي إلى خسائر اقتصادية عميقة. وقد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة تصل إلى 0.5%، مع انخفاض الناتج الألماني بنسبة 3.2%.
ونظراً للمخاطر العالية، فإن أولوية الاتحاد الأوروبي اليوم هي الحفاظ على نظام التجارة العالمي، حيث أن تكاليف التفتت تفوق بكثير تكاليف النزاع الثنائي مع الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد على نظام كونفدرالي، سوف يواجه تحديات في التفاوض مع الولايات المتحدة على أساس فردي، وخاصة ككتلة ذات مصالح اقتصادية متنوعة. مما سيزيد من حالة عدم اليقين في العلاقات التجارية والتفتت المحتمل لقواعد التجارة العالمية.
أما على مستوى اللوائح التقنية والتجارة الرقمية، فمن المتوقع أن يرفض ترمب اللوائح التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على شركات التكنولوجيا العملاقة في الولايات المتحدة، وربما ينتقم من الضرائب المفروضة على الخدمات الرقمية. وقد ظهر ذلك بوضوح في موقفه من العقوبات المالية الأخيرة التي أصدرها الاتحاد الأوروبي ضد شركة آبل الأمريكية. وكذلك على مستوى العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، حيث من المرجح أن تمارس إدارة ترمب ضغوطًا على الاتحاد الأوروبي لفك الارتباط اقتصادياً بالصين، بما يتماشى مع السياسات الأمريكية. وقد يؤدي هذا التوافق القسري إلى إجهاد العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين وإلحاق الضرر بالصناعات المعتمدة على سلاسل التوريد الصينية، ما يعني بالضرورة خسارة الاتحاد الأوروبي فرصاً اقتصادية في السوق الصينية، في حين سيواجه تحديات في الحفاظ على استقلالية سياساته.
وفيما يخص التحديات التي تواجه التنظيم الرقمي وخصوصية البيانات، قد يتناقض موقف ترمب بشأن تنظيم التكنولوجيا بشكل حاد مع نهج الاتحاد الأوروبي، وخاصة فيما يتعلق بقضايا مثل خصوصية البيانات والضرائب الرقمية. وقد يؤثر التوتر المتجدد في تدفقات البيانات عبر الحدود، وفي التجارة الرقمية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع وقوع الشركات التكنولوجية الأوروبية والأمريكية في المنتصف، حيث من المحتمل أن تتضرر الشركات الأمريكية بشكل أكبر، كونها تستحوذ على حصة واسعة من السوق الأوروبية ذات العوائد العالية مقارنةً ببقية الأسواق. فضلاً عن السياسات المتعارضة في وضع معايير التكنولوجيا، حيث سعى الاتحاد الأوروبي إلى وضع معايير التكنولوجيا المتعلقة بالخصوصية والحماية على مستوى العالم. وإذا قاومت الولايات المتحدة هذه المعايير في عهد ترمب، فقد يؤدي ذلك إلى نشوء أطر متنافسة، مما يُعقِّد الامتثال التنظيمي للشركات، وربما يؤدي إلى تقسيم الأسواق على أسس تنظيمية.
كما قد يؤدي صعود القومية الاقتصادية الأمريكية بقيادة ترمب إلى تكثيف جهود الاتحاد الأوروبي للحد من الاعتماد على الولايات المتحدة وتسريع خطط تعزيز استقلاله الاستراتيجي، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل أشباه الموصلات والتكنولوجيا الخضراء والصناعات الدوائية، مما قد يؤدي إلى تباعد في المعايير والتعاون التكنولوجي.
على مستوى التباين في سياسات الطاقة، من الواضح أن تركيز ترمب على استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة وإنتاج الوقود الأحفوري يتعارض مع أهداف الاتحاد الأوروبي في التحول الأخضر وتنويع مصادر الطاقة. ونظراً للتحديات المستمرة التي تواجهها أوروبا في مجال الطاقة، فقد يؤدي هذا إلى تقليص التعاون مع الولايات المتحدة في مجال أمن الطاقة، وخاصة في مجالات مثل تبادل تكنولوجيا الطاقة المتجددة. فضلاً عن عدم القدرة على التنبؤ بصادرات الطاقة الأمريكية، خاصة إذا تبنَّي ترمب سياسات تحد من صادرات الطاقة الأمريكية، إذ يؤثر ذلك في قدرة أوروبا على الوصول إلى إمدادات الطاقة في وقت تضاعفت فيه واردات الغاز الأوروبية من الولايات المتحدة ثلاث مرات، لتتجاوز 50% من إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال، وهذا أمر مثير للقلق بشكل خاص في ضوء هدف أوروبا المتمثل في الحد من الاعتماد على الطاقة الروسية، وخاصة الغاز الطبيعي.
أما على المستوى المناخي، فمن المحتمل أن يشهد التعاون الأمريكي-الأوروبي قطيعة جذريةً. وفي عهدته السابقة أدى انسحاب ترمب من اتفاقية باريس إلى حدوث خلاف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن سياسة المناخ. وإذا قلَّص ترمب في هذه العهدة مشاركة بلاده في الالتزامات المناخية مرة أخرى، فقد يخسر الاتحاد الأوروبي شريكاً رئيساً في العمل المناخي العالمي، مما قد يؤدي إلى إبطاء الجهود الجماعية لمعالجة تغير المناخ، وهذا يقود إلى خلل بنيوي في ما يتعلق بالعيوب التنافسية للشركات الأوروبية. فمع سعي الاتحاد الأوروبي إلى سياسات خضراء، فإن الولايات المتحدة بقيادة ترمب ستكون أقل اهتماماً بالمناخ، وهذا سيدفع الشركات الأمريكية إلى العمل في ظل قواعد تنظيمية أقل صرامة. وقد يؤدي هذا إلى زيادة قدرة الشركات الأمريكية على المنافسة، مما يزيد الضغوط على صناعات الاتحاد الأوروبي، وربما يخلق توترات بشأن “التعريفات الخضراء” أو تعديلات حدود الكربون لحماية شركات الاتحاد الأوروبي.
التداعيات الهيكلية
إن التداعيات الجذرية لعودة ترمب لا تطال العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فقط، ولا التأثيرات المحتملة على الأسواق الأوروبية، وما تخلفه من تداعيات اجتماعية ربما تكون حادةً، ولكنها تطال البنية الأساسية للاتحاد الأوروبي نفسه. ففي ظل صعود واضح للقوى اليمينية الشعبوية، ذات المشترك الفكري والسياسي مع ترمب، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه منقسماً بشكل غير مسبوق في مواجهة تحدٍ خارجي. ذلك أن عودة ترمب إلى السلطة قد تعطي دفعة قوية للحركات الشعبوية والمشككة في الوحدة الأوروبية. فشعار ترمب “أمريكا أولاً”، الذي يلخص سياسات تركز على إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية على الالتزامات المتعددة الأطراف، يلقى صدى لدى العديد من الحركات المتشككة في أوروبا التي تعطي الأولوية للمصالح الوطنية على الالتزامات الأوروبية. وقد يستخدم زعماء مثل مارين لوبان في فرنسا، وفيكتور أوربان في المجر، وأحزاب مثل حزب الرابطة في إيطاليا وحزب القانون والعدالة في بولندا، خطاب ترمب لدعم الحجج القائلة بأن سياسات الاتحاد الأوروبي تنتهك سيادة بلدانهم. وربما يتجهون للضغط بقوة من أجل الخروج من سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالهجرة، أو المعايير البيئية، أو الإشراف القضائي. حيث يمكن أن تكتسب فكرة نموذج العضوية الأكثر مرونة، والتي تعتمد على اختيارات محددة، شعبية في البلدان التي تحكمها الأحزاب اليمينية، مما يضعف تماسك الاتحاد الأوروبي. وقد يتخذ الزعماء الشعبويون في أوروبا من نجاح ترمب نموذجاً في رسم السياسات الداخلية والخارجية، وتعبئة القواعد الاجتماعية.
وهذا التأثير المتوقع على التماسك الداخلي للاتحاد الأوروبي من المتوقع أن يتجلى في عدة أمور، من بينها الآتي:
أولاً، زيادة المقاومة لسياسات المناخ الأوروبية، فمن طريق التقليل من أهمية العمل المناخي، يمكن لترمب أن يمنح بشكل غير مباشر مصداقية للحركات الأوروبية المعارضة للصفقة الخضراء. ويدعم خطاب الأحزاب اليمينية والشعبوية التي ترى أن السياسات المناخية المتبعة حالياً تُلحِق ضرراً باقتصاداتها، خاصة في المناطق الصناعية والريفية، من طريق فقدان الوظائف أو زيادة تكاليف الطاقة.
ثانياً، دعم سياسات الهجرة المتشددة، والتركيز على الهوية الثقافية ومعاداة العولمة. ذلك أن موقف ترمب من الهجرة، والذي يتميز بفرض رقابة صارمة على الحدود، يتماشى بشكل وثيق مع أجندات العديد من الأحزاب الشعبوية الأوروبية. ويمكن لشخصيات مثل مارين لوبان في فرنسا، وخيرت فيلدرز في هولندا، وجورجيا ميلوني في إيطاليا استخدام نموذج ترمب لدعم الحجج المطالبة بفرض حدود وطنية أقوى، وفرض قيود على سياسات الهجرة في الاتحاد.
ثالثاً، تزايد النفوذ الشعبوي في الانتخابات الأوروبية المقبلة، وطنياً واتحادياً. فقد تعمل عودة ترمب على تنشيط الأحزاب الشعبوية انتخابياً، مما يوفر لها الأرضية الأيديولوجية ويُشجِّع تعبئة الناخبين حول السرديات القومية المناهضة للاتحاد الأوروبي.
رابعاً، الاستجابات المتباينة لسياسات ترمب قد تؤدي إلى الانقسام داخل الاتحاد، خاصة بين الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية التي لديها علاقات أوثق مع الولايات المتحدة. وهذا من شأنه أن يفرض ضغوطاً على وحدة الاتحاد، ويؤثر في قدرته على التصرف بشكل حاسم في القضايا التي تتطلب الدعم بالإجماع.
المواجهة أم التفاوض؟
في خلال عهدته الأولى، كان تأثير ترمب على الاتحاد الأوروبي محدوداً نسبياً، رغم ضرره التجاري. فقد كانت أوروبا حينذاك أكثر تماسكاً مما هي عليه اليوم، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية وخاصة الأمنية. أما اليوم فيعود ترمب إلى السلطة والاتحاد أكثر تفككاً من الناحية السياسية، مع انقسام واضحٍ بين يمين الوسط، الذي يمثل المؤسسة الأوروبية، واليمين المتطرف الذي يمثل الجناح المعادي للمؤسسة؛ وأكثر تدهوراً من الناحية الاقتصادية، بسبب مخلفات أزمة الطاقة؛ وأكثر مخاطراً من الناحية الجيوسياسية بسبب الحرب الأوكرانية التي أعادت الحرب إلى القارة بعد عقودٍ من الاستقرار. فضلاً عن الانقسامات الوطنية بين الدول الأعضاء، لاسيما الانقسام الفرنسي – الألماني، الذي يشكل أحد أبرز التناقضات الأساسية في الأزمة البنيوية التي يعاني منها الاتحاد منذ سنوات. في الوقت الذي تعاني ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في الكتلة، من أزمة سياسية واقتصادية حادة، وتعاني فرنسا، القوة الجيوسياسية الأولى في الكتلة، من أزمة متعددة الأوجه.
وتبدو معضلة الأوروبيين في مواجهة سياسات ترمب في كون التجارة والأمن مرتبطين ارتباطاً وثيقاً في قلب العلاقات عبر الأطلسي. وبالتالي فإنهم من المرجح أن يتبنوا نهجاً متعدد الأوجه لمواجهة التحديات التي تفرضها سياسات التجارة والدفاع التي ينتهجها الرئيس الأمريكي المنتخب. ومن شأن استراتيجياتهم أن توازن بين الاستجابات الحازمة والجهود الرامية إلى الحفاظ على التعاون عبر الأطلسي، مع السعي إلى تحقيق قدر أعظم من الاستقلال في التجارة والدفاع والنفوذ الجيوسياسي. وقد بدا ذلك واضحاً في البيان الذي أصدره المفوض التجاري الأوروبي، فالديس دومبروفسكيس، بعد أول اجتماع لوزراء التجارة في الاتحاد لأول مرة منذ فوز ترمب، والذي قال فيه: “هناك وجهة نظر واسعة النطاق بين الوزراء مفادها أنه يتعين علينا الحفاظ على المشاركة البناءة مع الولايات المتحدة، ولا ينبغي لنا أن نفتح نزاعات تجارية قديمة، وينبغي لنا أن نتجنب النزاعات التجارية الجديدة”. وفي الوقت نفسه أشار المفوض الأوروبي التجاري، إلى أنهم مستعدون للردّ في حال فرضت واشنطن تدابير ضد الشركات الأوروبية. من جانبها أعلنت المملكة المتحدة أنها مستعدة لفرض رسوم جمركية انتقامية على السلع الأمريكية في حال فرض ترمب رسوماً على السلع البريطانية، مع تأكيد الحكومة البريطانية على أنها “تفضل التوصل إلى اتفاق بدلاً من الإجراءات الانتقامية”.
وبدلاً من سياسة المواجهة، يسعى الأوروبيون إلى سياسة التفاوض، والحلول الوسط، التي من شأنها أن تخفف من حجم الخسائر المتوقعة، وذلك من طريق الاستفادة من نزوع ترمب نحو الصفقات، والاستفادة من كونهم لا يمثلون الخصم التجاري الأبرز لواشنطن، وهي الصين. وبالتالي ربما تكون المفاوضات سبيل الأوروبيين إلى تجنُّب الحرب التجارية، من طريق استعمال أوراق تفاوضية من بينها تخفيف الرسوم الجمركية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على السلع الأمريكية، من قبيل التعريفة الجمركية، التي أثارت غضب ترمب لفترة طويلة بنسبة 10% على سيارات الركاب الأمريكية، مقارنة بمعدل التعريفة الجمركية في الولايات المتحدة الذي يبلغ 2.5%. كما يبلغ متوسط التعريفة الجمركية على المنتجات الزراعية في الاتحاد الأوروبي 11.3%، مقارنة بمعدل 4.8% في الولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك، هناك العديد من الحواجز غير الجمركية التي تعوق مبيعات شركات الصناعات الغذائية والزراعية داخل السوق الأوروبية، حيث يمكن للأوروبيين تخفيف هذه الرسوم والحواجز، أو حتى إلغائها، كورقة تفاوض قوية تمنح إدارة ترمب مكاسب مهمة، بدلاً من الدخول في حرب رسوم ليس من الواضح كيف ستكون عواقبها.
أما على مستوى سياسات الدفاع، فلا يملك الأوروبيون من خيار سوى زيادة الإنفاق الدفاعي لتلبية هدف حلف شمال الأطلسي المتمثل في الوصول إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يمثل معالجة لانتقادات ترمب المستمرة. وكذلك العمل على توسيع قدراتهم الدفاعية عبر مبادرات مثل صندوق الدفاع الأوروبي والتعاون الهيكلي الدائم وتعزيز الشراكات مع المملكة المتحدة وكندا وغيرهما من أعضاء حلف الناتو من غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لإيجاد توازن للمشاركة الأمريكية المتراجعة.
الجانب الثاني من سياسات المواجهة يتعلق بالأمدين المتوسط والبعيد، وهو تحقيق قدر واسع من الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي تجارياً ودفاعياً عن الولايات المتحدة، من طريق تعزيز تنويع التجارة، لبناء بناء قنوات تجارية بديلة للتخفيف من تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية أو التدابير الحمائية؛ وتعزيز دور اليورو، والعمل على تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة العالمية، وخاصة فيما يتصل بالطاقة والسلع الأساسية، عبر الترويج لليورو بصفته عملة احتياطية؛ وتعزيز السيادة الاقتصادية وزيادة الاستثمار في الصناعات الاستراتيجية، مثل أشباه الموصلات والتكنولوجيا الخضراء والخدمات الرقمية، وذلك من شأنه أن يقلل الاعتماد على الواردات الأمريكية ويعزز القدرة التنافسية. أما على المستوى الدفاعي، فسيدفع الانسحاب الأمريكي الأوروبيين نحو تعزيز الحلول الدبلوماسية في المجالات التي تتباين فيها السياسات الأمريكية، مثل الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران أو التعامل مع روسيا بشأن ضبط الأسلحة، وزيادة الاستثمار في الدفاع السيبراني والفضائي.
في الوقت نفسه يواجه هذا النهج تحديات كثيرة؛ أبرزها الانقسامات الداخلية، فقد تختلف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في تعاملها مع السياسات الأمريكية، مما يجعل من الصعب تقديم موقف موحد. فضلاً عن الاختلاف بين الاتحاد والمملكة المتحدة. كما أن حاجة لاحتواء مخاطر التصعيد، إذّ قد تؤدي الإجراءات الانتقامية إلى تصعيد الصراعات التجارية، مما يضر بالنمو الاقتصادي على الجانبين. وأخيراً، هناك الضغوط الجيوسياسية، حيث قد تشكل موازنة العلاقات مع الولايات المتحدة والصين والقوى العالمية الأخرى ضغوطاً على دبلوماسية الاتحاد الأوروبي، وتجعل فاعلية سياساته أقل جدوى.
استنتاجات
سيكون لعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مجموعة معقدة من التحديات يتعين على الاتحاد الأوروبي مواجهتها في السنوات الأربع المقبلة، بداية من توجه ترمب إلى خفض المساعدات لأوكرانيا وفرض اتفاق سلام قد يميل لصالح الكرملين، بكل ما يعنيه من اختلال هيكلي لأوروبا في مواجهة روسيا، فضلاً عن توجهه لخفض التزامات بلاده مع حلف الناتو، وما يطرحه ذلك من مخاطر أمنية بالنسبة للأوروبيين. إلى جانب عودة النزاعات التجارية وتداعياتها على الصادرات الأوروبية، وموقف ترمب من السياسات المناخية وتأثيراتها على تنافسية الشركات الأوروبية. كذلك من المتوقع أن تؤدي عودة ترمب إلى تعزيز الحركات والأحزاب اليمينية والشعبوية في مختلف أنحاء القارة، عبر تزويدها بنموذج ناجح للقومية، والحكم المناهض للمؤسسة، وهذا من شأنه أن يشجع بعض القادة الأوروبيين على تبني مواقف مماثلة، الأمر الذي يشكل تحدياً لوحدة الاتحاد الأوروبي وتماسكه، مما يؤثر في استقراره السياسي والاقتصادي على المستويين الإقليمي والعالمي.
في المقابل، يمكن أن تكون السياسة الترمبية فرصة للأوروبيين لتكثيف الجهود للحد من الاعتماد على الولايات المتحدة، وتسريع خطط تعزيز الاستقلال الاستراتيجي، وخاصة في مجال الدفاع والقطاعات الاقتصادية الحيوية. فقد كانت أوروبا في كثير من الأحيان في حاجة إلى أزمة لتعبئة وتوحيد دولها الأعضاء المنقسمة إلى حد ما، وربما تكون معضلة ترمب فرصةً لإعادة إنتاج اتحاد أوروبي أكثر استقلالاً عن واشنطن، سيما أن المشتركات الفكرية بين ترمب والأحزاب اليمينة الشعبوية الأوروبية لا تخفي التناقضات القومية بينهما. لذلك، فإنه بقدر ما سيفرض ترمب تهديدات وجودية للاتحاد الأوروبي، بقدر ما سيزيد ذلك في محو التناقضات الثانوية بين الدول الأعضاء في الاتحاد، نحو التصدي للتناقض الرئيس وهو الولايات المتحدة، خصوصاً في مجالاتٍ حيوية مثل التجارة والدفاع. ومن ثمَّ، فإن عودة ترمب إلى السلطة قد تختبر قدرة الاتحاد الأوروبي على الصمود، وخاصة في جهوده للعمل بوصفه قوة جيوسياسية موحدة.