من الصعب جدا توقع كيف ستتطور الأمور في لبنان الذي يشهد منذ الاثنين الماضي تصعيدا إسرائيليا غير مسبوق بعد أن أعلنت تل أبيب الدخول في مرحلة جديدة من المواجهة مع “حزب الله”. صحيح أن المبادرة الأميركية والفرنسية المشتركة بشأن هدنة بين إسرائيل و”حزب الله” لمدة 21 يوما بغية “إفساح المجال لتوقيع تسوية ديبلوماسية”، فتحت نافذة للتهدئة ولو لفترة زمنية محددة، لكن الصحيح أكثر أنّ كلا من إسرائيل و”حزب الله” متمسكان بسقف مطالبهما أو مواقفهما. وهذا ما يجعل فرض التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ضئيلة جدا إن لم تكن معدومة في وقت قريب، وهو ما ظهر الخميس بعد الأنباء عن تراجع بنيامين نتنياهو عن “التفاهمات الصامتة” مع واشنطن بشأن التهدئة.
إذا كانت تل أبيب تصر على الفصل بين جبهتي غزة ولبنان فإن “الحزب” يتمسك بالربط بينهما ولم يعط أي إشارة إلى إمكان الفصل بينهما، ولا ريب في أن التصعيد الإسرائيلي الأخير لن يدفعه إلى إسقاط هذا الربط، بل على العكس تماما فهو سيزيد تمسكه به وإلا فقدت المواجهة التي يخوضها عبر الحدود مع إسرائيل منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي جدواها السياسية. بالتالي فإنّ أي قبول من جانبه بهذا الفصل يعدّ تراجعا كبيرا من قبله بل واستسلاما أمام الشروط الإسرائيلية، وهذا ما لا يريده وما لا يستطيع القبول به أيا تكن كلفة عدم التسليم به عليه وعلى لبنان كله.
هذه نقطة أساسية في فهم موقف “حزب الله” الراهن وتقدير مسار التصعيد الإسرائيلي ضد “الحزب” ولبنان لناحية أن استعداد “حزب الله” للتحمل أكثر واستمراره في قصف الداخل الإسرائيلي سيستدعي مزيدا من التصعيد الإسرائيلي والذي يقترب من أن يكون حربا شاملة خصوصا مع تكثيف تل أبيب لتهديداتها بتوغل بري في جنوب لبنان، ولاسيما بعد استدعائها لواءي احتياط إلى “الجبهة الشمالية”.
فرص التوصل إلى هدنة بين تل أبيب و”حزب الله” لا تبدو كبيرة إلا إذا كانت إسرائيل مستعدة للبحث جديا في اتفاق تهدئة مع حركة “حماس”
يدفع هذا إلى التفكير في طبيعة التسوية المعروضة، وفي كيفية دفع طرفي المواجهة إلى التنازل و”النزول عن الشجرة” من دون أن يظهر أي منهما أنه تراجع أمام الطرف الآخر، خصوصا أنّ الهدفين اللذين وضعتهما إسرائيل منذ بدء تصعيدها الأخير ضدّ “حزب الله” ولبنان، وهما الفصل بين جبهتي غزة ولبنان وإعادة المستوطنين إلى “الشمال”، لا يمكنها تحقيقهما بسرعة وبسهولة في ظلّ إبداء “حزب الله” استعداده للذهاب بعيدا في المواجهة وإن كان يفضّل العودة إلى الوضع السابق الذي ساد منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، أي مواجهة مسقوفة ومضبوطة بينه وبين إسرائيل، إلا إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، وهو الشرط الذي يضعه “الحزب” منذ الثامن من أكتوبر لوقف عملياته العسكرية ضدّ إسرائيل.
دبابة تابعة للجيش الإسرائيلي يتم نقلها في شمال إسرائيل، 26 سبتمبر
لذلك لا يمكن الفصل بين التهدئة في لبنان والتهدئة في غزة في سياق المساعي الرامية إلى هدنة أو وقف لإطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”، وهذا ما أشار إليه رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الأربعاء. وفي مطلق الأحوال فإنّ ارتباط الجبهتين هو الآن أكبر من أي وقت مضى منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. بالتالي فإنّ إسرائيل التي تريد فصل الجبهتين المذكورتين تجد نفسها الآن أمام واقع أكثر تعقيدا في ما يخص مطلبها هذا، ولذلك فإنّ فرص التوصل إلى اتفاق تهدئة بين تل أبيب و”حزب الله” لا تبدو كبيرة إلا إذا كانت إسرائيل مستعدة للبحث جديا في اتفاق تهدئة مع حركة “حماس”.
وهذا يعيدنا إلى أصل الأزمة، أي إلى إصرار إسرائيل على مواصلة حربها ضدّ “حماس” للقضاء نهائيا على الحركة الفلسطينية ومنعها من إعادة بناء قدراتها وحكم- أو المشاركة في حكم- القطاع المحاصر. بالتالي ما دامت تل أبيب غير مستعدة لتهدئة في قطاع غزة فإنه لا يمكن التفاؤل كثيرا بإمكان الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بينها وبين “حزب الله”، إلا إذا كان طموح المبادرة الأميركية- الفرنسية هو عودة المواجهة بين الجانبين إلى ما كانت عليه قبل التصعيد الأخير بدءا من الاثنين الماضي. وبذلك تكون إسرائيل قد تراجعت خطوة إلى الوراء أمام “حزب الله” لأنها لم تستطع تحقيق هدفيها المعلنين لتصعيدها الراهن ضدّه. لكن غالب الظن أن اتفاقي التهدئة في لبنان وغزة باتا يسيران معا، فإما يفشلان معا أو ينجحان معا.
من الصعب الجزم بأن التصعيد الحالي بين إسرائيل و”الحزب” لن يتطور إلى حرب شاملة، رغم كل المحاذير الدولية والإقليمية
أيا يكن من أمر فإن مسار التفاوض بين إسرائيل و”حزب الله” ليس مسارا مغلقا وكأنهما يصران على المواجهة العسكرية المفتوحة أو الحرب إصرارا نهائيا، بل إن ما يجري حاليا بينهما يتراوح بين حدين، حدّ المفاوضات الشاقة والمعقدة خصوصا في ظلّ الربط المحكم بين جبهتي غزة ولبنان وحدّ الحرب الصعبة والمكلفة لكلا الجانبين وإن كانت كلفتها على “الحزب” ولبنان أعلى. بالتالي فإنّ جولة التصعيد الراهنة بين إسرائيل و”حزب الله” هي تفاوض مفتوح بالنار بادرت إليه تل أبيب بتوسيع دائرة أهدافها ضد “الحزب”. وهو ما يمكن اعتباره تطورا “طبيعيا” للحرب الدائرة منذ السابع من أكتوبر الماضي. أي إنّ انتقال إسرائيل إلى مرحلة جديدة من قتالها ضدّ “حزب الله” هو نتيجة لمسار حربها على قطاع غزة، باعتبار أن استمرار تلك الحرب وبالتالي استمرار تبادل القصف بين الجيش الإسرائيلي و”الحزب” كان سيؤدي حتما إلى مواجهة أكبر بين الجانبين كما يحصل حاليا.
رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي خلال اجتماع لمجلس الأمن حول موضوع “القيادة من أجل السلام” وإلى جانبه الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، 25 سبتمبر
ولعلّ أقوى الدلالات على أنّ التصعيد الأخير بين إسرائيل و”حزب الله” هو تفاوض بالنار تكمن في أنّ المواجهة بينهما ما زالت تحصل ضمن سقوف معينة، ولو ارتفعت هذه السقوف كثيرا عما كانت عليه طيلة الفترة الماضية منذ الثامن من أكتوبر الماضي. لكن ذلك لا يعني أن المواجهة أصبحت بلا ضوابط وسقوف على نحو كلّي. مع العلم أن إسرائيل التي بادرت إلى التصعيد الأخير ورفعت سقف المواجهة مع “الحزب” تستمر في توسيع دائرة استهدافاتها وتكثيف هجماتها في مناطق لبنانية عدة لم تستهدفها من قبل للضغط على “حزب الله” وتأليب رأي عام ضده وتعميق الانقسام اللبناني في لحظة التصعيد.
والأهم من ذلك أن تل أبيب تريد من خلال الكثافة النارية التي تستخدمها في لبنان إثبات أنها مستعدة للذهاب أبعد في تصعيدها وأن تكلفة هذا التصعيد ستكون عالية جدا على “الحزب” ولبنان في حال لم تحقق أهدافها من المواجهة الحالية، لكن مع ذلك فإن تصعيدها ما يزال دون سقف الحرب الشاملة على غرار حرب صيف 2006 ولو كان بمثابة توطئة لها.
في المقابل فإن “حزب الله” لا يزال يدرس ردوده بدقة وإن كثفها ووسّع مدياتها وارتقى في نوعية الأسلحة المستخدمة فيها لكنه لم يلجأ بعد إلى مخزونه من الصواريخ الدقيقة وطويلة المدى. وحتى عندما أطلق صاروخا باليستيا على تل أبيب الأربعاء فقد وضع ذلك في إطار الرد على تفجيرات أجهزة الاتصال التابعة له واغتيال كبار قادته. بالتالي فهو حاول الفصل بين إطلاق هذا الصاروخ وبين سياق التصعيد الحالي ووتيرته، لكنه في الوقت نفسه أظهر قدرته واستعداده على استخدام “ترسانته الاستراتيجية”.
بيد أنه من الصعب الجزم بأن التصعيد الحالي بين إسرائيل و”الحزب” لن يتطور إلى حرب شاملة، رغم كل المحاذير الدولية والإقليمية، وبالأخص الأميركية، من هذا السيناريو خشية أن يتحول الصراع إلى حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران تضطر واشنطن للانخراط فيها، وهو ما تحاول الإدارة الأميركية تجنبه إذ تفضل أن يبقى حضورها في المنطقة ردعيا لا هجوميا، ولاسيما في ظلّ المرحلة الانتقالية عشية الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ولعلّ المبادرة الإسرائيلية إلى التصعيد في هذا التوقيت بالذات مرتبطة بمحاولة بنيامين نتنياهو الضغط على الإدارة الديمقراطية من خلال إجهاض مساعيها للتهدئة وحرمانها من أي إنجاز ديبلوماسي عشية الانتخابات.
إذا كانت الهدنة بين الطرفين غير مستحيلة وغير مستبعدة تماما فإن “الحرب الشاملة” بينهما غير مستحيلة وغير مستبعدة أيضا، وبين هذين الحدين يرزح لبنان تحت مخاطر وأهوال لا طاقة له على حملها
هنا لا بدّ من التوقف عند الخطين الأحمرين اللذين رسمتهما واشنطن في سياق التصعيد الإسرائيلي الأخير ضدّ “حزب الله”، وهما: عدم تدخل إيران عسكريا في الصراع بين “الحزب” وإسرائيل، وعدم تنفيذ الجيش الإسرائيلي عملية برية داخل الأراضي اللبنانية. والواقع أنّ الخط الأحمر الثاني الذي قيل أن إدارة جو بايدن تضعه أمام تل أبيب ليس نهائيا بالقدر الذي يبدو عليه الخط الأول، أي تحييد إيران عن الصراع والذي نجحت واشنطن في تحقيقه حتى الآن مستفيدة من تطلع إيران إلى أولوياتها الداخلية والتي تدفعها إلى إبداء الاستعداد للبدء في مسار تفاوضي مع الغرب بشأن برنامجها النووي.
ولذلك لم يكن الموقف الإيراني من التصعيد الإسرائيلي الراهن ضد “حزب الله” مفاجئا لناحية عدم مسارعة طهران إلى التلويح بخيارات عسكرية ضدّ إسرائيل لردعها عن توسيع تصعيدها ذاك. وليس قليل الدلالة في هذا السياق قول المرشد علي خامنئي إن “حزب الله” و”حماس” قادران على الانتصار على إسرائيل، وهو ما يعني عمليا أنهما لا يحتاجان إلى تدخل طهران عسكريا إلى جانبهما.
أشخاص فارون من لبنان يصلون إلى الجانب السوري من الحدود في جديدة يابوس في جنوب غرب سوريا في 25 سبتمبر
وفي المحصلة فإن السباق المحموم بين المفاوضات والتصعيد العسكري بين إسرائيل و”حزب الله” سيتواصل ويزداد خطورة ولاسيما على لبنان الذي يعاني من انهيار بناه التحتية والذي تعجز دولته عن مواكبة الأعداد الكبيرة للنازحين بعشرات الآلاف هربا من القصف الإسرائيلي. لكن “حزب الله” الذي يخوض مواجهة “وجودية” بعد الضربات الموجعة التي تلقاها في الأسبوعين الأخيرين لا يستطيع التراجع إلى حدود يظهر معها وكأنه يستسلم وإن كان مستعدا للتراجع خطوة إلى الوراء مقابل تراجع إسرائيل خطوة إلى الوراء أيضا. لكن حتى الآن لا مؤشرات واضحة حول استعداد أي من الطرفين للتراجع، في وقت تواصل فيه إسرائيل غاراتها المكثفة في مناطق لبنانية عدة ولاسيما في الجنوب والبقاع، فيما يواصل “الحزب” قصفه لمناطق شمال إسرائيل.
وإذا كانت الهدنة بين الطرفين غير مستحيلة وغير مستبعدة تماما فإن “الحرب الشاملة” بينهما غير مستحيلة وغير مستبعدة أيضا، وبين هذين الحدين يرزح لبنان تحت مخاطر وأهوال لا طاقة له على حملها لكنها فرضت عليه ولا سبيل أمامه للفكاك منها.