وهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره، مع كونها أولى. والغضب إفراط في تلك الحركة، فله ضدية للغضب باعتبار، وللتهور باعتبار آخر. وعلى الاعتبارين هو في طرف التفريط من المهلكات العظيمة، ويلزمه من الأعراض الذميمة: مهانة نفس، والذلة، وسوء العيش، وطمع الناس فيما يملكه…
المقام الثاني فيما يتعلق بالقوة الغضبية من الرذائل والفضائل وكيفية العلاج:
التهور
كما علم، وهو من طرف الإفراط: أي الإقدام على ما لا ينبغي والخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف. ولا ريب في أنه من المهلكات في الدنيا والآخرة. ويدل على ذمه كل ما ورد في وجوب محافظة النفس وفي المنع عن إلقائها في المهالك، كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة 195.
وغير ذلك من الآيات والأخبار، والحق أن من لا يحافظ نفسه عما يحكم العقل بلزوم المحافظة عنه فهو غير خال عن شائبة من الجنون، وكيف يستحق اسم العقل من ألقى نفسه من الجبال الشاهقة ولم يبال بالسيوف الشاهرة، أو وقع في الشطوط الغامرة الجارية ولم يحذر من السباع الضارية. كيف ومن ألقى نفسه فيما يظن به العطب، فهلك، كان قاتل نفسه بحكم الشريعة، وهو يوجب الهلاكة الأبدية والشقاوة السرمدية.
وعلاجه -بعد تذكر مفاسده في الدنيا والآخرة- أن يقدم التروي في كل فعل يريد الخوض فيه، فإن جوزه العقل والشرع ولم يحكما بالحذر عنه ارتكبه، وإلا تركه ولم يقدم عليه. وربما احتاج في معالجته أن يلزم نفسه الحذر والاجتناب عن بعض ما يحكم العقل بعدم الحذر عنه، حتى يقع في طرف التفريط، وإذا علم من نفسه زوال التهور تركه وأخذ بالوسط الذي هو الشجاعة. وثانيهما:
الجبن
وهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره، مع كونها أولى. والغضب إفراط في تلك الحركة، فله ضدية للغضب باعتبار، وللتهور باعتبار آخر. وعلى الاعتبارين هو في طرف التفريط من المهلكات العظيمة، ويلزمه من الأعراض الذميمة: مهانة نفس، والذلة، وسوء العيش، وطمع الناس فيما يملكه، وقلة ثباته في الأمور، والكسل، وحب الراحة، وهو يوجب الحرمان عن السعادات بأسرها وتمكين الظالمين من الظلم عليه، وتحمله للفضائح في نفسه وأهله، واستماع القبائح من الشتم والقذف، وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة والعار، وتعطيل مقاصده ومهماته.
ولذلك ورد في ذمه من الشريعة ما ورد قال رسول الله (ص): لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلا ولا جبانا، وقال (ص): اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر.
وعلاجه -بعد تنبيه نفسه عن نقصانها وهلاكها- أن يحرك الدواعي الغضبية فيما يحصل به الجبن، فإن القوة الغضبية موجودة في كل أحد، ولكنها تضعف وتنقص في بعض الناس فيحدث فيهم الجبن، وإذا حركت وهيجت على التواتر تقوى وتزيد، كما أن النار الضعيفة تتوقد وتلتهب بالتحريك المتواتر.
وقد نقل عن الحكماء أنهم يلقون أنفسهم في المخاطرات الشديدة والمخاوف العظيمة دفعا لهذه الرذيلة. ومما ينفع من المعالجات أن يكلف نفسه على المخاصمة مع من يأمن غوائله، تحريكا لقوة الغضب، وإذا وجد من نفسه حصول ملكة الشجاعة فليحافظ نفسه لئلا يتجاوز ويقع في طرف الإفراط.
الشجاعة
قد عرفت أن ضد هذين الجنسين هو (الشجاعة)، فتذكر مدحها وشرافتها، وكلف نفسك المواظبة على آثارها ولوازمها، حتى يصير ما تكلفته طبعا وملكة، فترتفع عنك آثار الضدين بالكلية. وقد عرفت أن الشجاعة طاعة قوة الغضب للعاقلة في الإقدام على الأمور الهائلة وعدم اضطرابها بالخوض في ما يقتضيه رأيها.
ولا ريب في أنها أشرف الملكات النفسية وأفضل الصفات الكمالية، والفاقد لها برئ عن الفحلية والرجولية، وهو بالحقيقة من النسوان دون الرجال، وقد وصف الله خيار الصحابة بها في قوله: (أشداء على الكفار) الفتح 29. وأمر الله نبيه بها بقوله: (وأغلظ عليهم) التوبة 73. إذ الشدة والغلظة من لوازمها وآثارها، والأخبار مصرحة باتصاف المؤمن بها. قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المؤمن: (نفسه أصلب من الصلد). وقال الصادق عليه السلام: (المؤمن أصلب من الجبل إذ الجبل يستفل منه والمؤمن لا يستفل من دينه). (الفل: الثلم).
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ethics/39067