رسالة أميركية إلى المغرب عبر”الربط الجزائري”؟

كأن التاريخ يعيد نفسه بشكل كاريكاتيري، كما يقول المفكر الألماني كارل ماركس، فتكرار مآسي التاريخ غالبا ما يأتي في قالب المهزلة.

وها نحن نشهد إعادة تصنيف العالم من جديد إلى معسكرين واسعين، أحدهما تابع للولايات المتحدة وقوى الغرب النافذة، والآخر موالٍ لروسيا والصين ضمن القوى العظمى الناهضة والجامحة.

هل هي عودة صريحة للثنائية القطبية، ورجوع مكشوف إلى التنافس التقليدي بين صناع القرار الدولي على مواقع القوة؟

ورغم نهاية الحرب الباردة بسقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الشرقية، وبالرغم من أن الأهداف الاستراتيجية تغيرت مع مرور الزمن، حيث لم يعد العالم اليوم يشبه الفترة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، فما تزال الجارتان المغرب والجزائر عالقتين في مأزق الحرب الباردة، وهي تتكرر بينهما بصيغة متجددة، في مشهد عبثي منبثق من رماد حروب “محيطية” منسية، جعلت الكثيرين يذهبون إلى أن ما نسمعه اليوم من أحاديث عن “تعايش سلمي”، ومن تصريحات عن تكريس لعلاقات الود والتعاون بين دول العالم، ليست إلا مزاعم مجانبة للصواب، ومجرد سراب، تقوي أكثر من مخاوف احتمالات الاقتراب من حرب عالمية جديدة.

على هذا الأساس، وطبقا للتقسيمات القديمة، يستمر ربط المغرب بالغرب بزعامة الولايات المتحدة، فيما يتواصل اعتبار الجزائر حليفة للاتحاد السوفياتي، وبعد أفوله أصبحت موالية لروسيا ثم الصين.

برقية استثنائية

غداة إعادة انتخابه رئيسا للجزائر، في الـسابع من سبتمبر/أيلول 2024، تلقى الرئيس عبد المجيد تبون عددا من رسائل التهنئة من قادة دول العالم. إلا أن تهنئة واحدة بين مجموع تلك الرسائل الدبلوماسية، استأثرت أكثر باهتمام مغربي، تحديدا من بعض المنابر الصحافية المقربة من دوائر القرار في البلاد. وقد جرى تمحيص عبارات التهنئة المعنية، وتحليل الأسلوب الذي استعمل في تحريرها وكتبت به بعناية دقيقة عكست مدى الاهتمام والهدف المبتغى، الكامن بين بياض الكلمات والسطور.

وهي تهنئة وردت من مبنى هارى ترومان، حيث يقع المقر الرئيس لوزارة الخارجية الأميركية، غير بعيد عن مبنى البيت الأبيض.

وقد وصلت التهنئة في صيغة بيان ظهر على الموقع الرسمي للخارجية الأميركية. ومما جاء فيه: “نتطلع إلى مواصلة العمل على تعميق التعاون بين الولايات المتحدة والجزائر والعمل على الدفع من أجل عالم أكثر سلاما وازدهارا في السنوات المقبلة”. وأضافت الخارجية الأميركية: “نريد أن نبني علاقاتنا الثنائية القوية من خلال التعاون الاقتصادي والثقافي والإقليمي”. واختتم البيان بعبارة: “الجزائر شريك قيم في تعزيز السلام والازدهار العالميين”.

وإذا ما عدنا قليلا إلى الوراء، إلى الشهرين الفائتين فقط من هذا العام، فسنجد أن التهنئة الأميركية الموجهة إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لا تختلف في مضمونها عن محتوى تهنئة سابقة، تم نشرها أيضا على موقع وزارة الخارجية الأميركية، كبيان حمل توقيع الوزير أنتوني بلينكن، بمناسبة العيد الوطني الجزائري، المصادف لتاريخ 5 يوليو/تموز 2024، حيث أكد رئيس الدبلوماسية الأميركية أن “احتفال الولايات المتحدة والجزائر بأعيادهما الوطنية بفارق يوم واحد فقط يرمز إلى العلاقات الوثيقة بين بلدينا. وأن التزامنا المشترك بالحرية والاستقلال يدعم علاقاتنا الثنائية التاريخية والمتنامية”.

 

هل هناك علامات تؤشر إلى تغيير ما، متوقع في سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه الأوضاع بمنطقة المغرب العربي؟

 

 

وأضاف الوزير الأميركي: “تتطلع إدارة بايدن إلى مواصلة العمل مع الجزائر لزيادة التجارة وتعزيز التبادلات التعليمية والعلاقات بين الشعبين وتعزيز أهدافنا المشتركة في السلام والاستقرار الإقليميين. وأنا على ثقة من أن تعاوننا سيستمر هذا العام وفي الأعوام القادمة”.
وهو المضمون ذاته، إلى حد ما، الذي اشتملت عليه برقية التهنئة التي بعث بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، حيث أكد الرئيس الروسي عزمه على مواصلة تطوير التعاون الثنائي بين البلدين.
غير أن عبارات بوتين لم يكن لها المعنى والوقع نفسه في المغرب، مثل الذي خلفته عبارات البيان الأميركي في المناسبة ذاتها.

مخاوف مغربية وأسئلة

ومن الأسئلة التي شغلت بال بعض المنابر المغربية بهذا الصدد، السؤال العريض: هل هي علامات تؤشر إلى تغيير ما، متوقع في سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه الأوضاع بمنطقة المغرب العربي، وتحديدا تجاه المملكة المغربية، والدولة الشريكة والحليفة التاريخية لواشنطن؟
وهو تغيير قد يكون- إذا ما حصل فعلا- في مصلحة الجارة الجزائر على حساب المغرب. ليرسخ النزاع المتزايد، حيث تقع الصحراء الغربية في قلب التوترات بين البلدين الجارين، في خلاف طويل الأمد، يقترب اليوم من بلوغ نصف قرن.
إن أي شخص مهتم بتاريخ المغرب العربي يعرف أن المغرب كان أول بلد يعترف بالولايات المتحدة في عام 1787، وأن أقدم معاهدة صداقة تربط الولايات المتحدة بدولة أخرى هي تلك التي وقعتها مع المغرب. ولا أحد يمكنه الجدال في كون المغرب من الدول المعروفة بتعاونها وعلاقاتها الأمنية العميقة مع الولايات المتحدة، وظلت شريكا وثيقا لأميركا أثناء الحرب الباردة، والتزمت بإنفاق مليارات الدولارات على تكنولوجيا الدفاع الأميركية. والواقع أن تعزيز التعاون العسكري المغربي والمناورات المشتركة ليس من باب المصادفة، فالشراكة التي تربط المغرب بالولايات المتحدة وثيقة بالفعل.
وفي المقابل، ولعقود، ساد انعدام الثقة المتبادل بين الجزائر والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، حيث توجهت الجزائر صوب روسيا، في شراكات متعددة، أهمها تنشيط برامج التحديث العسكري.
وبالرغم من ذلك، فطيلة العقود المنصرمة ظلت الولايات المتحدة تتخذ موقفا حياديا مواربا من الصراع الجزائري-المغربي في منطقة الصحراء الغربية، وفق المقاربة الاستراتيجية للبيت الأبيض، حيث تتابع الإدارة الأميركية عن كثب ما يجري في المنطقة، وأحيانا بنصف عين، إذ يجب عدم نسيان أن المغرب اعتمد دائما في التزود بالأسلحة وفي تنشيط برامجه العسكرية على واشنطن.
وتؤكد الأحداث التاريخية- كما نطالع في تقرير لأحد مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية- أنه “كلما لمست المملكة المغربية ترددا في الموقف الأميركي، كانت النتيجة حدوث ضرر في العلاقات الأميركية-المغربية، وتزايد النشاطات المسلحة لجبهة “البوليساريو” وراعيتها الجزائر، مع تراجع النفوذ الأميركي الكفيل بتوجيه كل جانب بعيدا عن العنف”.
إلا أنه في السنوات القليلة الماضية، طرأت تحولات تدريجية في العلاقات الأميركية-الجزائرية، إثر إعلان البلدين توليهما القيام بأدوار استراتيجية في مجالات التعاون في مكافحة الجريمة العابرة للحدود والتطرف والنزاعات، حيث أصبحت الولايات المتحدة تعتمد على الاستخبارات الجزائرية في تحديد هوية مجموعة غامضة من الجماعات الجهادية، وقطاع الطرق في الصحراء، وغيرهم من المتمردين والعصابات الإجرامية.

 

يجب عدم نسيان أن المغرب اعتمد دائما في التزود بالأسلحة وفي تنشيط برامجه العسكرية على واشنطن

 

 

وفي التعاون الاقتصادي شرع الأميركيون في الاستثمار بالجزائر في السكك الحديدية والزراعة والتعليم والتجارة. في وقت زاد فيه اهتمام الشركات البترولية الأميركية الكبرى بالمحروقات في الجزائر. كما شمل التعاون الأميركي- الجزائري مجالات الدفاع والأمن.

“إياك أعني واسمعي يا جارة”

في العدد المؤرخ بـ 13 سبتمبر/أيلول 2024، من “الأسبوع الصحافي”، (صحيفة أسسها الصحافي الراحل مصطفى العلوي المدغري، الذي  عرف بـ”ارتباطاته الرسمية الواسعة”، وورثه في تسييرها الطيب العلوي، نجله الأصغر). نطالع التساؤل المباشر: “هل من رسالة للمغرب في تهنئة أميركا لتبون؟”.
ونقرأ الإجابة المتضمنة في الافتتاحية نفسها، عندما تشير بأصبع الاتهام إلى السيدة كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي حاليا والمرشحة عن الحزب الديمقراطي لخلافة جو بايدن.. “التي تسهر على كل صغيرة وكبيرة.. وكانت من بين أول المباركين (للرئيس عبد المجيد تبون) عبر وزارة الخارجية، عقب النتائج التي خلصت إليها الانتخابات الرئاسية في الجزائر، بعبارات تلمح كلها إلى الانحياز لطرف على حساب الآخر، زيادة على تبني النتائج وإبداء العزم على تقوية ومواصلة العمل مع الرئيس تبون خلال عهدته الثانية”.
وتتابع الافتتاحية أن “عواقب” تلك التهنئة “بدأت تؤثر علينا وعلى غيرنا”. في إشارة إلى إقدام مجموعة كبيرة من البرلمانيين الأوروبيين على مراسلة مفوّض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، منددين بتأييد الرئيس إيمانويل ماكرون في نهاية يوليو/تموز الماضي، لمقترح “خطة الحكم الذاتي” في الصحراء الغربية.
كما أشار محرر الافتتاحية إلى الزيارة المفاجئة التي قامت بها مستشارة الرئيس ماكرون للشرق الأوسط وشمال أفريقيا (آن كلير لوجوندر) إلى الجزائر ولقائها بالرئيس عبد المجيد تبون، من أجل “ترطيب الأمور”. وكي لا تستمر مسألة الصحراء الغربية عاملا للصراع بين فرنسا والجزائر، بعد أن بدا أن نقطة التحول الدبلوماسية هذه ستؤدي إلى تعقيد التقارب الذي استؤنف قبل عامين بين فرنسا والجزائر.
ليخلص المقال إلى تخوف محتمل من تراجع أميركي في الموقف من مغربية الصحراء. لأن الولايات المتحدة- دائما وفق ما جاء في “الأسبوع الصحافي”- “أحيانا تضرب خطا أحمر حتى على مخططاتها السياسية الخارجية التي تصرف من أجلها مليارات الدولارات، وحتى على اعترافاتها التي تدلي بها في واضحة النهار”.

فشل أممي

منذ اندلاع الصراع الصحراوي ضاعفت الأمم المتحدة الجهود لإيجاد حل سياسي متوافق عليه لإنهاء النزاع، وأنشأت بعثتها الأممية في الصحراء الغربية، المعروفة  باسم “مينورسو”، وتوالى على رئاستها عدد من الدبلوماسيين المرموقين، لعل أشهرهم هو الأميركي جيمس بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة أثناء حرب الخليج. وقد انتهى الأمر به إلى تقديم استقالته، بعد سبع سنوات من توليه المنصب الأممي، ليصرح باستحالة حل النزاع في الصحراء الغربية.
وفي خطاب استقالته تحدث بيكر عن ضرورة البحث عن حل آخر بديل. لكن الرباط ستصف بيكر بـ”الوسيط غير النزيه”، الذي “لا يأخذ في أفكاره باعتبارات التاريخ والجغرافيا واستقرار المنطقة”.
هكذا كشفت قضية الصحراء الغربية بوضوح عن فشل الأمم المتحدة.

بايدن مصحح أخطاء ترمب

لكن الوضع سيدخل مرحلة جديدة في نهاية عام 2020، عندما ستنقلب الأمور، في ما اعتبر تحولا يتلاءم مع الاستراتيجية العامة لإدارة الرئيس دونالد ترمب “القائمة على إرباك الوضع الراهن”، وذلك بعد اعتراف ترمب في نهاية ولايته (ديسمبر/كانون الأول 2020) بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية.
وهو الإعلان الرئاسي الأميركي، “الذي أنهى ثلاثة عقود من الدعم الأميركي لتقرير المصير من خلال استفتاء يسمح بتقرير الوضع المستقبلي للصحراء الغربية”. كما ذكرت حينها مجلة “فورين بوليسي”. فيما وصف سفير سابق للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، هو الجمهوري جون بولتون، قرار دونالد ترمب بأنه “يشكل تهديدا لاستقرار المنطقة”. وذهب المستشار السابق لترمب إلى أن “أفضل ما يمكن أن يفعله بايدن هو إلغاء القرار المتعلق بالسيادة المغربية”.
لكن الرئيس جو بايدن، الذي قيل إنه أتى من أجل تصحيح أخطاء ترمب، لم يعلن تراجعه عن الاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وإن جرى وصف سياسته بشأن الصحراء الغربية، بـ”التقاعس والتلكؤ” في تفعيل وتنفيذ القرارات التي صاحبت الإعلان المقترن بالتطبيع المغربي مع تل أبيب، ومن بينها افتتاح واشنطن لقنصلية أميركية بمدينة الداخلة، وضخ تمويلات استثمارية للمساهمة في تنمية المنطقة.
إن دول المنطقة تسعى من وراء علاقتها مع الولايات المتحدة إلى تعزيز مصالحها عن طريق استخدام المصالح الأميركية، في إطار من التبادل الإيجابي بشكل عام.
ومن السابق لأوانه الكلام عن تباين واضح بين هاريس وترمب في السياسة الخارجية. لكن قطعا لن تكون هاريس “جزائرية”، ولن يتحول ترمب إلى مغربي. وسيستمر الاهتمام الجيوستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة المغاربية، وفق الثوابث المرسومة للسياسات الخارجية لواشنطن.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M