مرتضى معاش
(أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَالْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ)
نستثمر الذكرى العطرة للمولد النبوي الشريف، بالتأمل في شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) وانبعاثه للبشرية، من خلال رؤية الإمام علي (عليه السلام)، فالمبعث النبوي نعمة كبيرة ومقياس حق عظيم، وحركة كبيرة في التاريخ، أحدثت تحولا كبيرا في منظومة القيم العليا لتغيير الواقع البشري، من الأسوء والسيّئ إلى الجيد والصالح.
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) نفس واحدة، ففي ذكرى البعثة النبوية يُستحب زيارة الإمام علي (عليه السلام) وهناك زيارة مخصوصة، لأنهما نفس واحدة، وقد قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) آل عمران 61.
فخط الإمام علي (عليه السلام) هو استمرار لخط الرسول، والولاية هي استمرار لخط الرسالة، وأهل بيت النبي (عليهم السلام) هم استمرار للمنهج النبوي، واستمرار لمنهج البعثة.
لذلك من المؤكَّد بأن أعظم من وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه كان أقرب الناس إليه، وإلى منهجه ورسالته وطريقته في الحياة وأخلاقه العظيمة، فهو (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله).
عندما نقرأ كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، نعرف شخصية الرسول ونعرف الهدف من البعثة النبوية، وهنا سوف أطرح كلمات من بين كلمات كثيرة وكبيرة جدا تتطلب أشهراً للبحث فيها.
من الظلام الى النور
إن أهم ما وصفه أمير المؤمنين (علي السلام) في المبعث الشريف، بأنه نعمة عظيمة، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخرج البشرية من الظلام إلى النور، ومن الحضيض إلى العلو، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجوع والخوف إلى الأمان، وإلى الازدهار وإلى الحياة السعيدة. بعد أن كانوا أذلاء وعبيدا، وكانوا يعيشون في حالة جدب.
وقد جاء في كلمة للإمام علي (عليه السلام): (فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَتَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَيُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَلَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ).
إن أهم نقطة نلاحظها في المقطوعة أعلاه، أن الرسالة والبعثة النبوية ألَّفت بين قلوب الناس، (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، لأن المشكلة التي لاحظناها عبر التاريخ، تؤكد بأن كل الأزمات والمعاناة تنشأ من الصراعات والفتن بين الناس، وهذه الصراعات والفتن تستنزف كل الموارد الإنسانية، وتجعل الإنسان في حالة عدمية من اليأس والإحباط والبؤس، لذلك فإن تآلف القلوب هو الطريق الذي يقود البشرية نحو العزة والكرامة، ونحو السعادة والأمل والقدرة على الحياة.
تكاملية القيم
لو توقفنا قليلا عند بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد كان المجتمع جاهليا ولا يرتقي للإنسانية، نعم ربما هناك بعض القيم موجودة كالشجاعة والكرم وغير ذلك، لكن هذه القيم لم تكن قادرة على تطوير المجتمع، بل من أجل إظهارها أمام الملأ والتفاخر بها، كأن يقول أنا شجاع أو أنا كريم.
بينما عندما جاء الرسول (صلى الله عليه وآله) جعل هذه القيم تكاملية، بإمكان الإنسان أن يرتقي ويسمو بها، وقد استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) توظيف هذه الأخلاق والمكارم وجعْلها في إطار المسار الإلهي والرحمة الشاملة.
إن أهم نقطة في منظومة القيم، وأساس الهرم ومنبع الشلال والماء الزلال الطاهر، هي الرحمة العظيمة التي هي أساس الأخلاق الانسانية، ولذلك يقول القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ لانفضوا من حولك) آل عمران 159. وهذا هو الأساس الذي تنبعث منه كل القيم الأخرى ولا يمكن تجزئة قيمة عن قيمة أخرى، فلابد أن تكون هناك رحمة تؤطّر هذه القيم.
ما فائدة الكرم إذا لم تكن هناك رحمة؟، الكرم لابد أن يكون مؤطَّرا بإطار الرحمة، فقد يكون أحدهم عنيفا وقاسي القلب ويقتل الناس لكنه كريم!!، هذا تناقض، إذ لا يمكن أن يكون هناك كرم بلا رحمة، الكرم منبعث ومنبثق من الرحمة الإلهية الكبيرة.
لذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء بالأساس، أي بالبنية التحتية التي لا بد أن يعيش في ظلها البشر وهي الرحمة، والأخلاق تعد المعجزة الخالدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذه رسالة لنا نحن، إذا أردنا أن نعيش حياة صالحة، لابد أن تكون أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي الطريق الذي نسير فيه، ونذهب نحوه، ولا يمكن لنا التغيير من دون السير في هذا الطريق.
مفاتيح النهضة والتقدم
لقد تطرقنا في مقالاتنا السابقة عن مفاتيح النهضة والتقدم، وهي تكمن في الأخلاق العظيمة، ولذلك يقول (عليه السلام) حين بعث إليهم رسولا (فعقد بملته طاعتهم) وموضوع العقد طويل لكننا نركز هنا على الأساسيات، (وجمع على دعوته ألفتهم) أي محبتهم وألفتهم واجتماعهم، وكل هذا أدى بالنتيجة إلى أن الرحمة (نشرت عليهم جناح كرامتها)، فعادت للإنسان كرامته بعد أن كان ذليلا (وأسالت لهم جداول نعيمها) لأن الاستقرار والسلم والتصافي والتآلف والتسامح يؤدي إلى الازدهار، فتثمر الحياة ويكثر الانتاج، فكل هذه القيم مفاتيح للخير.
الرحمة تُخرج الإنسان من الاستبداد والقهر، وبالتالي فهذه النعمة الإلهية أنقذت الإنسان (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
تاريخ جديد للبشرية
إن النقطة الأساسية الثانية في قضية البعثة، أن مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان تاريخا جديدا في حياة البشرية، لأنه يوجد لدينا تحولان عظيمان في التاريخ، تحول أحدثه المبعث النبوي، وتاريخ آخر سوف يأتي في المستقبل، وهو ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، هذان التاريخان يحدثان تحولا كبيرا في تاريخ البشرية.
وقد رأينا بالفعل كيف تغيرت البشرية وكيف حدث التحول الكبير، والثورة الحقيقية التي حدثت في تاريخ البشرية بفضل بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو استقاموا على طريقة الإمام علي (عليه السلام)، لما وقعوا في هذه الأزمات والمشاكل التي تعاني منها البشرية الآن، لأن الرسالة الإسلامية تحمل كل المبادئ والأسس والقيم التي تؤسس لبنية تحتية وبنية فوقية متكاملة لسعادة وازدهار البشرية.
لكن للأسف الشديد لا نزال نلاحظ الانحراف الذي يحصل في الأمة، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، هذه القاعدة خرجت عنها الأمة وذهبت نحو الاستبداد والجاهلية والعنف والظلم والاستئثار.
الرسالة النبوية وفلسفة التاريخ
إن رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) النقية الطاهرة موجودة ولا تحتاج إلى استخراج، ولكن لابد أن تُتَّبع، فعندما تقرأ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، سوف تلاحظ وجود أعظم معاني فلسفة التاريخ، لأنه يتكلم عن العِبرة والاعتبار والاتعاظ، والتجارب التي لابد أن نتعظ بها لتغيير أنفسنا، وأن تقوم مجتمعاتنا بتغيير أوضاعها.
إن قوانين فلسفة التاريخ مهمة جدا، وقد أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام)، ذلك في كلمات كثيرة من حيث المبدأ ومن الاستمرار ومن حيث المنتهى، وكل هذه الأمور تلاحظ ماذا حدث في الماضي وتعتبر منها، ولابد ان تنتبه إلى منتهاك، فهناك نهاية لابد أن تسير نحوها ولديك كل القيم التي تحرك التاريخ حركة صحيحة سليمة.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصف الحركة التاريخية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ وَانْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَاغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ وَدِثَارُهَا السَّيْفُ).
الهجعة هي النوم الطويل، أي أن الأمم نائمة وساكنة وراكدة وجامدة، فالهجعة هي أسوأ أنوع الجمود والركود التي تعيشها الأمم، (واعتزاما من الفتن)، الاعتزام هو الاستخدام العنيف للفتنة، والإصرار على خوض الفتنة، والتلاعب واستخدام الفتنة كوسيلة لإدارة الصراعات، لذلك هي من أسوأ الفترات والقضايا التي تعيشها الأمم حين تكون الفتن فيها متأججة بسبب الإصرار عليها، (وانتشارا من الأمور وتلظٍّ من الحروب)، أي حروب مستعرة.
لذلك أن الأمم كانت تعيش أجواء الفتن والحروب (والدنيا كاتمة النور) أي تعيش في ظلام، لأن الفتن تولّد الظلام، بسبب ظاهرة الغرور والإصرار على خوض الحرام وارتكاب المعاصي والجرائم، (على حين اصفرار ورقها)، أمر طبيعي عندما تكون الحياة هكذا فإن الدنيا تحترق، كما نلاحظ اليوم كل شيء يحترق الغابات والمزارع بسبب التغيّر المناخي وبسبب استخدام الأسلحة الفتاكة والفساد.
بالنتيجة أن الإمام علي (عليه السلام) يصف الهدف التاريخي وفلسفة التاريخ في بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله)، والهدف من ذلك هو تغيير حياة البشرية، لينقلها من الظلام إلى النور، ومن الاحتراق إلى البرد، ومن الظلام الذي يخلّفه العنف إلى النور الذي تحتاجه البشرية للاستقرار والأمن، فيقول (عليه السلام): (لقد درست منار الهدى)، بمعنى لم يبق أي علامة للهدى، منارة أو ضوء، (وظهرت أعلام الردى) والهلاك والموت، لذلك يشعر كل الناس اليوم بالقلق الوجودي واليأس المزمن.
الأيديولوجيات دعوة للفتن والحروب
إن الإطار الذي تخرج به الأيديولوجيات اليوم، ودعوات الدول والأمم، كلها عبارة عن دعوات للفتن والحروب والصدامات، فكل أمة (تغني على ليلاها)، وتريد أن تحتكر وتسيطر وتفكر بطريقتها الخاصة، دون أن تنظر إلى ما يجب أن تعيش فيه البشرية جمعاء، فالسلام كلي وشامل ولا يمكن تحقيقه في مكان وعدم تحقيقه في مكان آخر.
إذا كانت هناك حرب في مكان ثانٍ فإنها سوف تصل إلى كل العالم، لذلك حين نتكلم عن قواعد وسنن التاريخ، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام): يقدم فلسفة للتاريخ، أي كيف تعيش وتنهض الأمم، وكيف تموت الأمم، ويحدث موت الأمم من خلال الإصرار على خوض الحروب وصناعة الفتن.
صناعة الفتن تؤدي إلى انتهاء كل شيء، ويصبح لا بركة فيه كما قلنا في الرواية السابقة: (والتفّت الملة بهم في عوائد بركتها)، ففي الحديث الأول طرحنا الجانب الإيجابي وكيف تزدهر الأمم، وفي الحديث الثاني طرحنا كيف كانت الأمة قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث كانت تعيش تلك المعاناة والمأساة الكبيرة، (فهي متجهمة لأهلها عابسة في وجه طالبها ثمرها الفتنة. وطعامها الجيفة. وشعارها الخوف ودثارها السيف). بمعنى أن الإنسان الذي يثير الفتنة سوف يغرق في نتائجها ويحترق بعواقبها.
على ماذا تقوم فلسفة التاريخ؟
إنها قائمة على نظام الأسباب والمسببات، فإذا تحقق السبب تحقَّق المسبب، هنا سنن، فإذا أردت السلام عليك أن تدخل في السلام، (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، أما إذا أردت الحرب فسوف تدخل الحرب والفتنة، وللأسف الشديد أن الإنسان الشرير عندما تتلاعب به أهوائه وأفكاره وأوهامه تنشأ الحروب والفتن ولا يفكر بالآخرين مهما كان عدد الضحايا.
لذلك يقول (عليه السلام): (ثمرها الفتنة وطعامها الجيفة)، أما الطعام والأكل الطيب فيكون في إطار الراحة النفسية، فإذا كان الإنسان مرتاحا نفسيا يكون طعامه هنيئا، أما إذا كان يعيش الخوف والقلق فمهما يأكل لن يشعر بلذة الطعام، (وشعارها الخوف ودثارها السيف) أي أنه يحمل سيفه بشكل دائم، فهو متلبس بالعنف والقتل، بسبب فقدان الأمن.
هذا هو جوهر فلسفة التاريخ، فإذا أردنا التغيير حسب منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، لابد أن نذهب نحو طريق التآلف، وصناعة الألفة، وإذا أردنا أن نذهب وراء الحرب والموت، فسوف نبقى في إطار صناعة الفتنة وانتاجها.
إن الكلام الذي ذكرناه سابقا حول وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن وصف المبعث النبوي الشريف، يعطينا رؤية حول مفاتيح النهضة والتقدم التي يذكرها الإمام علي (عليه السلام)، وهي مفاتيح النهضة التي تغيّر الأمم وتنهض بها نحو الأحسن.
في كلام آخر يقول (عليه السلام) في رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَكَلَامُهُ الْفَصْلُ وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ)، هذه الثنائية (القصد و الرشد) ثنائية تتكرر كثيرا في كلام الإمام (عليه السلام)، وهي من أجمل النقاط التي يمكن أن نستنبطها من كلماته (عليه السلام).
الرشد وبناء العقلانية
الرشد مفردة ربما جاءت لوصفه بالاعتدال، والسلوك المعتدل والاستقامة، ولكن القصد في أساسه (الغاية) أو بلوغ الغاية، ولا يمكن أن تسير في حياتك دونما غاية، فسيرته القصد تعني أنه لابد من السير إلى النهاية أو المنتهى، وهذه نقطة مهمة إذ لا يمكن أن تسير عشوائيا أو سيرة ارتجالية، وإنما سيرة فيها خطة مدروسة نحو غاية أساسية منهجية.
وسيرته الرشد، بمعنى سيرته النمو، فالغاية مع الرشد تتطور في عملية تنمية أو نمو وصولا إلى الكمال وإلى الهدف المنشود، القصد مع الرشد، يتكاملان أو متكاملان، لأن الرشد هو البناء العقلي أو النضج العقلاني والنفسي للإنسان، وهذا النضج النفسي يحتاج إلى عملية تراكم متعقلنة أو عقلانية، حتى تصل إلى عملية النضج والكمال المطلوب في الإنسان.
الغباء والكسل وتخلف الامم
ثم يصل الإمام علي (عليه السلام) إلى كلمة مهمة جدا، (وهفوة عن العمل وغباوة من الأمم)، هفوة عن العمل تعني الكسل والتكاسل والتراخي البطالة وعدم الانتاج، والأكل بلا مقابل، والعيش على الريع، كل هذه الأمور تجعل الأمم متخلفة، فالإنسان الحقيقي هو الإنسان المنتِج، المفكر والعامل.
الإمام علي (عليه السلام) يحب العمل كثيرا، والإسلام يحث على العمل، لأن قيمة الإنسان بعملة المنتِج، والمركز والنابع من علم.
(وهفوة عن العمل) أي أنه في كسل دائم وهذا يقود الأمم إلى السقوط، (وغباوة من الأمم) والغباء واضح لأن الأمة المتخلفة وتعيش حروب وفتن وكسل وتراخٍ وجمود، هذه أمة غبية، وغير فطنة، والغباء في مقابل الفطنة، وهذا لا يشمل الأمة العربية والإسلامية وحدها بل هي قواعد وسنن فلسفة التاريخ، فالأمة التي لا تعمل بطريقة صحيحة تكون أمة غبية.
الأمة الجامدة غير منتِجة
الأمة المتخلفة الجامدة الراكدة الكسولة، تكون غير منتجة دائما، بل مستهلكة، وهي غير عاملة وغير عالمة وغير متحركة وغير متفكرة، بالنتيجة سوف تسقط هذه الأمة، لذا جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) لينقذ الناس من العيش الغبي والسيّئ، وهو العيش الذي لا يكون عن تفكير وتخطيط جيد، وهذه نقطة مهمة جدا لابد أن نقرأها في الرسالة الإسلامية.
الرسول المنقذ
من النقاط الأخرى في وصف الإمام علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنه أخرج الناس من حالة الضلالة والحيرة، وهي من أشد الأمراض خطرا على الإنسان، فعنه (عليه السلام): (بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ وَبَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ فَبَالَغَ (ص) فِي النَّصِيحَةِ وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
هذا الكلام كما نلاحظ يعطينا الخلاصة الكاملة للبعثة النبوية وللإسلام، وهي خلاصة الإسلام كله، فكانوا ضلّال ولا يعرفون بذلك، وهذا هو الجهل المركَّب، بسبب كثرة الضلال الذي يعيشون فيه، ومن الجيد أن نطبق هذا المعنى على ما يجري في عصرنا الحالي.
فقد قرأت الكثير من المقالات التي كتبها بعض الكتاب الغربيين، فوجدتُ لديهم مفردة مهمة جدا، وقد ذكروها مع أنهم من جهات مختلفة، فهؤلاء يسمون هذا العصر (عصر عدم اليقين)، لماذا هذه التسمية لهذا العصر؟، لأننا لا نعلم إلى أين نتّجه!!، وحسب تحليلنا نحن، أن العالم اليوم يعيش في ضلال، وهو مصرّ على الضلال والإضلال، أي أن الناس ضالين ومضلّين ويصرون على ذلك ويعتبرون أن منهجهم هو الصحيح.
لكن هذا خطأ كبير لأنه يقودهم نحو الشك والقلق، والخوف، لماذا يعيش العالم اليوم بالشك والقلق والخوف؟، فأية حرب تشتعل في مكان ما من العالم، فإن العالم كله يخاف من الأسلحة النووية، لأنه عصر الضَلال والمضلين، هؤلاء الذين يتاجرون بالحروب، ويستخدمون أو يضعون الأسلحة النووية كسلاح ردع ويتصارعون على حافة الهاوية، تماما مثل اثنين يقفان على حافة الجبل ويتصارعان، فإنهما في أية لحظة قد يسقطان معا من حافة الهاوية.
تحطيب الفتن
كذلك الأمر مع عالم اليوم، فإنه يتصارع على حافة الهاوية، وهذا هو قمة الضلال والإضلال، والغرور والإصرار على الحروب والفتن، يقول الإمام علي (عليه السلام): (والناس ضلّال في حيرة وحاطبون في فتنة) فكلهم مشاركون في إشعال النار، كما يُقال (حشر مع الناس عيد)، والسبب ليس هناك عاقل بينهم، فكلهم يحملون الحطب ويضعونه في نار الفتنة.
(فهل أنا وأنت حاطبون في هذه الفتنة؟)، كل إنسان يجب أن يسأل نفسه، في أية فتنة تقع اليوم، هل أنا حاطب في هذه الفتنة، أم لا أحاول أن أمشي وأسير في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهذا الكلام بالنتيجة (ومضى على الطريقة ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة)، هذا هو منهج البعثة النبوية (الحكمة والموعظة الحسنة).
الرسول المؤلف للقلوب
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هو رسول الوحدة والتسامح والمحبة والأخوة الإنسانية والإيمانية، فعنه (عليه السلام): (دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ كَلَامُهُ بَيَانٌ وَصَمْتُهُ لِسَانٌ).
فالهدف هو بناء البشرية الواحدة، وهذا لا يعني إلغاء التعددية، إنما يجب أن تكون حياتنا قائمة على التسامح والتآلف والتفاهم، وكلٌ له رأيه، فلا نستخدم القوة والقسوة ضد الآخر ولا الحرب والنزاع، ويكون هناك غرور، فالغرور خطير جدا.
الرسول المعز للبشرية
فرسول الله (صلى الله عليه وآله) كما عنه (عليه السلام):
(أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَالْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ).
الرسول الاسوة
ولنحصد النجاة ونأمن من الهلاك فليكن رسولنا (صلى الله عليه وآله) كما يقول الامام علي (عليه السلام):
(فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (ص) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى.. وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً.. وَلَقَدْ كَانَ (ص) يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ.. فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ وَإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ..).
.
رابط المصدر: