منذ أيام، صدّق الكنيست بالقراءة الأولى على مشروع “قانون التجنيد”، الذي أثار جدلًا على مدار عقود داخل المجتمع الإسرائيلي بسبب رفض اليهود الأرثوذكس المتشدددين، أو كما يطلق عليهم “الحريديم”، له؛ إذ يهدف القانون بالأساس إلى زيادة عدد المجندين في صفوف الجيش الإسرائيلي، وتوسيع دائرة التجنيد لكي تشمل أتباع التيار الحريدي.
ومنذ تأسيس الدولة العبرية، يعارض الحريديم في إسرائيل بأغلبية ساحقة أداء الخدمة المدنية الوطنية أو العسكرية، ويرون أن اليهودية تتعارض تمامًا مع الفكر الصهيوني، لذلك يرفضون السياسات الإسرائيلية وينعزلون عن كافة الأمور الدنيوية اعتقادًا، منهم بأن اليهودية تفرض عليهم التفرغ للأمور الدينية، وأنهم كجماعة مسؤولة عن ضمان الحفاظ على الديانة اليهودية من الاندثار داخل إسرائيل، وهي مهمة لا تقل في أهميتها عن الدفاع عن أمن إسرائيل؛ لكن نظرًا لتزايد الاحتجاجات المطالبة بمساواة الحريديم بباقي المواطنين داخل المجتمع الإسرائيلي، ونظرًا للمتغيرات التي تواجهها الدولة على المستويين الداخلي والخارجي، فقد بات من الضروري حسم قضية تجنيد المتدينين التي أثارت الجدل على مدار عقود.
ما هو قانون التجنيد الإلزامي؟
يحدد القانون الأهداف السنوية لعدد الحريديم الذين سيتم تجنيدهم كل عام بدءًا من عام 2022، مع زيادة معدلات التجنيد تدريجيًا، وفي حال عدم تحقيق أهداف التجنيد، يدعو القانون إلى معاقبة المدارس الدينية بتخفيض مخصصاتها في الموازنة العامة للدولة. وينص على تخفيض سن الإعفاء من الخدمة الإلزامية لطلاب المدارس الدينية الحريديم من 24 إلى 21 عامًا، بهدف تحفيزهم على مغادرة المدرسة الدينية والاندماج في القوى العاملة داخل إسرائيل في سن أصغر. فضلًا عن النص على السماح بخدمة نظامية مختصرة إلى جانب المشاركة في التدريب والتأهيل المهني أو الخدمة الوطنية المدنية بدلًا من أداء الخدمة العسكرية.
من وجهة النظر الإسرائيلية، يهدف القانون إلى تقليص عدم المساواة في التجنيد للخدمة النظامية، ودمج المجتمع الحريدي في الخدمة الوطنية-المدنية، وفي الوقت ذاته، العمل على مساهمتهم في تعزيز الاقتصاد من خلال دمجهم في سوق العمل، سواء في المؤسسات العامة أو الخاصة.
وأثناء عرض مشروع القانون، أكد نائب وزير الأمن “ألون شوسطير” أن الهدف الرئيس للقانون هو تعزيز المساواة في الخدمة العسكرية من خلال زيادة عدد الحريديم الذين يخدمون في جيش الدفاع الإسرائيلي، وتوسيع صفوف من يؤدون الخدمة الوطنية-المدنية. وأشار إلى أن الدولة تستهدف بلورة خطة جديدة لأداء الخدمة العسكرية والتي في إطارها سيتم وضع مسارات تسمح لكل شخص بأداء هذه الخدمة. وأضاف أن تلك العملية تتم من منطلق التأكيد على ضرورة أداء الأغلبية المطلقة من الجمهور الإسرائيلي للخدمة العسكرية، وهو ما سيعود بالنفع على المجتمع ككل.
من جانب آخر، قال عضو الكنيست يوآف غالانت: “علينا الاستناد إلى قوات أمن قوية ومستقرة مفعمة بالإيمان ومستعدة لدفع الثمن والتضحية والقيام بمهام الواجب. وبجانب تزايد التحديات الخارجية، يتوجب علينا مواجهة التحديات من الداخل بما يخص الالتزام بالقانون وبالنظام”.
قبل أسابيع، كان مشروع القانون قد أُسقِط بعد عرضه بالكنيست بسبب تعادل الأصوات، إذ دعم القانون 51 عضوًا، في حين عارضه 48 من كتل المعارضة. وقد أسهمت في إسقاطه معارضة النائبة “غيداء ريناوي زعبي” من حزب ميرتس له. وقد أوضحت ريناوي أنها صوتت ضد القانون كخطوة احتجاجية على سلوك الحكومة ضد المواطنين العرب البدو في منطقة النقب.
وقد استمر رفض الحريديم للقانون بصورة قاطعة؛ إذ استنكر عضو الكنيست عن حزب يهدوت هتوراة الحاخام “موشيه غافني” الخطوة في الكنيست بكامل هيئتها، وصرخ “عار! يجب عليك أن تخجل!”، ووصف القانون بأنه “أحد أكثر القوانين المخزية التي عرضت على الكنيست على الإطلاق”. وقال عضو الكنيست “يعقوب آشر” من حزب “يهدوت هتوراة”: “مشروع القانون هذا نفاق، لا أحد يعتقد أن مدرسة دينية واحدة سوف تدخل الجيش بسبب هذا القانون. الهدف الوحيد هو تشويه سمعة الجمهور الحريدي، لزيادة التحريض والكراهية ضدهم “.
في حين كتب رئيس الوزراء “نفتالي بينيت” عبر حسابه على موقع تويتر: “إن دخول الحريديم إلى القوى العاملة سيفيدنا جميعًا. وخفض سن الإعفاء من الخدمة العسكرية للحريديم إلى سن 21 سيسمح للشباب بالدراسة باحتراف في سن معقولة، والعمل في وظائف جيدة مدى الحياة ودعم أسرهم بكرامة”.
الحريديم.. من هم؟ ولماذا يرفضون الانضمام للجيش؟
الحريديم هم جماعة من اليهود المتدينين الأصوليين، يبلغ عددهم قرابة 1.07 مليون شخص، أي ما نسبته 11.5% من مجموع السكّان، و15.6% من السكّان اليهود فقط –وفقًا لمكتب الإحصاء الإسرائيلي عام 2020- ويمارس هؤلاء طقوسًا دينية خاصة بهم، ويعيشون حياتهم اليومية وفقًا للشريعة اليهودية، ويطبقون التوراة حرفيا.
وتعنى كلمة الحريديم “الأتقياء”. ويتميز الحريديم بالتمسك بالشريعة اليهودية الأرثوذكسية “الهالاخاه” بشكل صارم، وهم يفضلون نوعًا خاصًا من المدارس الدينية اليهودية يدعى “اليشيفات” يتعلمون الدين التقليدي والشريعة والتلمود، ويتعلم أبناء الطائفة الحريدية العلوم الدنيوية عند الحاجة فقط، من أجل إنقاذ الحياة أو من أجل كسب الرزق. أما دراسة الأدب، والفلسفة وغيرها، فمرفوضة عندهم.
ويعد الحريديم محافظين متزمتين دينيًا، وقلّما يستخدمون التكنولوجيا وبرامجها مثل التلفزيون، والحاسوب، والهاتف النقال. ودائما ما يعرف اليهود الحريديم بهيئتهم، إذ يرتدون فى العادة معطفًا طويلًا، وقبعة سوداء، يطلقون لحاهم ويسدلون شعر رؤوسهم من خلف آذانهم في خصلات شعر مجدولة، وتتشابه نساء الحريديم في ملابسهن إلى حد كبير جدا مع النساء المسلمات المحافظات، إذ ترتدي الكثيرات منهن لباسا يكاد يطابق البرقع الذي ترتديه النساء المسلمات المحافظات، ولا يتحدثون العبرية لأنها لغة مقدسة، ويفضلون التحدث باللغة “اليديشية”.
تتزايد أعداد الحريديم بشكل مستمر خلال الآونة الأخيرة فى المجتمع الإسرائيلى، وهو ما يقلق الدولة لأنهم لا يعملون، وفي الوقت ذاته يتلقون إعانات من الدولة وتبرعات، وهو ما يستنزف موارد الدولة، حيث يحصل كل شاب يلتحق بالمعاهد الدينية على راتب شهري بواقع 4000 شيكل (1140 دولارا) طيلة مدة دراسته التي قد تصل إلى ثلاثة أعوام، وبعدها تسقط عنه الخدمة الإجبارية.
وهم يتجنبون القيام بالواجبات التى يلتزم بها المواطنون الإسرائيليون، إذ يعتقدون أن مهمتهم في هذه الحياة هي تعلم الدين اليهودي وتكريس حياتهم له. ويتعلم في المدارس الدينية ما يقارب 300 ألف طالب وطالبة، يشكلون ما نسبته 18% من عدد الطلبة اليهود بشكل عام.
منذ نشوء دولة إسرائيل، شكّل اليهود المتدينون الحريديم ظاهرة خاصة داخل المجتمع الإسرائيلي، واختاروا الابتعاد عن الأخذ بالقيم المعاصرة والحديثة والعلمانية لهذا المجتمع، وأصروا على التمسك بنمط الحياة التقليدية لليهود الحريديم كما كانت قائمة في عشرينيات القرن الماضي.
وما رفضهم المشاركة في الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي سوى مظهر من مظاهر رفضهم الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، ودفاعهم عن خصوصيتهم الدينية والاجتماعية. ففي رأيهم أن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق شبابهم هي الانصراف الكامل إلى تعلم التوراة، وحماية الديانة اليهودية من خطر الاندثار. وعلى الرغم من تغير الظروف وتبدل أحوال اليهود، ما زال الحريديم يرون أن مهمة الدفاع عن الديانة اليهودية لا تقل أهمية عن الدفاع عن أمن إسرائيل.
ويعتقد بعض اتباع التيار أن الدولة لم تتأسس في الوقت الصحيح، وكان على السياسيين انتظار مجيء المسيح لإقامة الدولة وبناء الهيكل الثالث، لذا فإن الدولة الحالية بمنظورهم حرام وغير شرعية. ويعتقد هؤلاء أنه لولا صلاتهم ودعواتهم وحبهم للتوراة ما كانت دولة إسرائيل قائمة حتى الآن.
في السياق ذاته، اعتبر الحاخام “إلياهو كوفمان” المحسوب على تيار “الحريديم” أن إقحام العديد من الحاخامات أنفسهم في المشهد السياسي، وتشكل الأحزاب الدينية مثل “شاس” و”يهدوت هتوارة” وخوضها انتخابات الكنيست، قد مهّد لتطوع بعض شباب “الحريديم” في الجيش مع سعيهم للاندماج في المجتمع الإسرائيلي، ورأى أن المتغيرات والتحولات وصراعات القوى السياسية وحلف الأحزاب الدينية غذت السجال أكثر فيما ما يتعلق بالمشروع الصهيوني والخدمة العسكرية، أو دراسة التعاليم الدينية والتوراتية حفاظا على “يهودية الدولة“.
وأشار إلى أن قبول بعض الحاخامات بأمر التجنيد كان خدمة لمصالحهم، فأصدروا فتوى تجيز التطوع في الجيش إلى جانب التعلم بالمعاهد الدينية، وهو ما أسهم في تعديل قانون التجنيد الإلزامي الذي يجبر الحريديم على التجنيد أسوة باليهود العلمانيين والمتدينين من التيار القومي الصهيون.
وشكك “كوفمان” في مزاعم الحكومة السابقة، برئاسة نتنياهو، بأن الجيش بحاجة إلى الحريديم للقتال في صفوفه، وعدّ أن تلك المزاعم تهدف إلى تأجيج الصراع مع العرب والفلسطينيين وإطالة أمده، مؤكدًا أن فرض التجنيد على هذه الطائفة يعكس الوجه الحقيقي للصراع بين التيار العلماني الصهيوني والتيار الديني حول ماهية ومستقبل وهوية نظام الحكم، بين طرف يريدها “دولة يهودية صهيونية” وطرف آخر يريدها “دولة تحكم بتعاليم التوراة حين نزول المسيح المنقذ”، الأمر الذي من شأنه أن يشكل خطرًا وجوديًا على المشروع الصهيوني.
إعفاء الحريديم من التجنيد الإجباري.. عقود من الجدل
تواجه إسرائيل مشكلة تجنيد المتدينين منذ قيامها عام 1948؛ إذ اتبع “ديفيد بن جوريون”، أول رئيس وزراء إسرائيلي، معاملة خاصة لهم كونهم كانوا ضمانة لاستمرار دراسة تعاليم الديانة اليهودية. ففي عام 1977، أرجأ “بن جوريون” الخدمة العسكرية لنحو 400 طالب، حيث ارتفعت الإعفاءات في غضون ذلك إلى أكثر من 11000 سنويًا، ثم تضاعفت الأعداد بمرور الأعوام.
ومن حين لآخر، تُطرح مبادرات في إسرائيل للمطالبة بسن قوانين لفرض الخدمة الإلزامية على اليهود المتدينين، وهو ما يشكل مصدر استفزاز لهؤلاء وينعكس في صورة احتجاجات عنيفة. وفي عام 1998 أقرت محكمة العدل العليا أن وزير الدفاع لم يعد يستطيع إعفاء الحرديم من الخدمة، وتمت المطالبة بترسيخ ذلك في تشريع برلماني في الكنيست، وبناء عليه، تأسست “لجنة طال” من أجل صياغة قانون يعفي الحريديم من الخدمة، ثم تم إلغاء القانون في 2012، بحجة تضاربه مع حقوق الحرية والمساواة.
وفي 2014، تم سن قانون لتجنيد الحريديم، إلا أن أحزاب “شاس” و”يهدوت هتوراة” عادت عام 2015 وأدخلت تغييرات على القانون تمثل أهمها في إلغاء العقوبات. وفي 2017، أصدرت محكمة العدل العليا قرارًا يفرض على الحكومة الإسرائيلية سن قانون تعديل لقانون التجنيد الحريديم تكون فيه عقوبات واضحة على من يرفض التجنيد خلال عام واحد؛ قبل أن يقوم نتنياهو بتمديد الفترة إلى 2019. واستمر الأمر بين انتخابات وموافقة محكمة العدل على التمديد حتى وصل عدد التمديدات التي طلبتها الحكومة من محكمة العدل إلى 11 طلب تمديد، ولم يتم تعديل أو سن قانون يجبر الحريديم على التجنيد كغيرهم من اليهود.
وخلال العقود الماضية تشكلت عدة لجان، وقدمت أكثر من صيغة بهدف إعادة صياغة العلاقة بين اليهود المتدينين والمؤسسة العسكرية، ولم يتوقف طرح مسألة إعفاء الحريديم من الخدمة الإلزامية على النقاش العام في إسرائيل. إلا أن إعادة النظر في القضية الآن من خلال طرح مشروع القانون قد جاء بسبب ما اتخذته المسألة من أبعاد جديدة تتمثل في التزايد الديموغرافي الكبير للحريديم، والذي يمكن أن يؤدي إلى تحولهم إلى أغلبية غير صهيونية داخل الدولة لا يخدم أبناؤها في الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى تزايد المطالبات بالمساواة في تحمل العبء الأمني والاقتصادي بين أبناء المجتمع.
الأبعاد والدوافع
تأتي إعادة النظر في قضية إلزام اليهود المتدينين بالالتحاق بالتجنيد إلزاميًا في وقت تواجه فيه إسرائيل العديد من التحديات والمتغيرات الخارجية والمحلية التي تفرض عليها حسم القضية. وفي هذا السياق يمكن تسليط الضوء على بعض الأبعاد التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمسألة تجنيد الحريديم، ويمكن إيجازها في الآتي:
- التزايد الديموغرافي المستمر للحريديم:
من أهم الأسباب التي أدت إلى إعادة النظر في إعفاء تلاميذ المدارس الدينية من الخدمة الإلزامية، التزايد الديموغرافي الكبير للحريديم وانعكاسه السلبي على عدد المجندين في الجيش. إذ يتوقع رؤوفين غال في كتابه “تجنيد الحريديم في الجيش الإسرائيلي- تعديل قانون طال”، استنادًا إلى الإحصاءات وإلى معدل النمو الديموغرافي لهذه الفئة من المتدينين التي توازي 5٪ سنويًا، أن يشكل الحريديم في سنة 2028 نصف سكان إسرائيل. فالسائد أن الشبان الحريديم يتزوجون في سن مبكرة وينجبون أعدادًا كبيرة من الأبناء.
وفي بحث أجرته جامعة حيفا، توقع أن تكون نسبة “الحريديم” والمتدينين من التيار الديني الصهيوني في العام 2030 في حدود 51% من اجمالي السكان، ما يعني 65% من إجمالي اليهود، بينما يتوقع هذا التقرير ارتفاع نسبة الحريديم في العام 2030 إلى 16% من اجمالي السكان، في حين أن نسبة التيار الديني الصهيوني تكون عادة أكثر بقليل من هذه النسبة.
- تزايد الأعباء الاقتصادية المترتبة على إعفاء الحريديم من التجنيد:
في الأعوام الأخيرة، لم يعد إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية مشكلة قومية تهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل بات يشكل مشكلة اقتصادية أيضًا. إذ إنه نظرًا لعدم التحاق العدد الأكبر من هؤلاء بسوق العمل، سواء لأسباب تتعلق بدراستهم الدينية أو لعدم حصولهم على المؤهلات المطلوبة، فإن نحو 50٪ منهم يعيشون تحت خط الفقر، ويعتمدون بصورة خاصة على المساعدات التي يحصلون عليها من الدولة، أو من التبرعات.
في مقال لرؤوفين غال، المسؤول عن خطة تشجيع الحريديم على الدخول في سوق العمل، أكد، استنادًا إلى تقرير اقتصادي صدر عام 2008، أن تدني نسبة المشاركة في سوق العمل وسط الحريديم يمنع إسرائيل من أن تكون خلال الأعوام العشرين المقبلة من بين أول 15 دولة اقتصاديًا في العالم.
- تأثير إعفاء الحريديم على بنية الجيش الإسرائيلي:
خلال الأعوام المنصرمة، ازداد عدد التلاميذ المتدينين الذين يطالبون بالإعفاء من الخدمة العسكرية بذريعة متابعة تحصيلهم الديني. وقد انعكس إعفاؤهم من الخدمة الإلزامية سلبيًا على بنية الجيش الإسرائيلي نفسه.
وفي هذا الإطار، يشير مراسل صحيفة هآرتس “عاموس هرئيل” في مقال له، إلى أن الجيش الإسرائيلي بدأ يشكو في الأعوام الماضية من تراجع عدد المجندين، وبرزت مخاوف من استمرار هذا التراجع؛ ويقابل ذلك حاجة الجيش الإسرائيلي إلى مزيد من الفرق لتلبية المتطلبات الأمنية التي فرضتها التغيرات الجارية والتهديدات الأمنية.
وفي سبيل ذلك، بدأ الجيش الإسرائيلي منذ عام 2007 في وضع برنامج لتشجيع الحريديم على الخدمة الإلزامية سُمّي برنامج “دمج الحريديم”. فضلًا عن ذلك، يوجد لدى الجيش الإسرائيلي حاليًا فرقًا مخصصة للجنود المتدينين، حيث يوجد في كتيبة خاصة بالحريديم تحمل اسم “ناحل حريدي ليهودا أوشومرون” تابعة لفرقة كفير، وهي تقوم بمهمات الأمن في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من ادعاء المؤسسة العسكرية في إسرائيل رفضها التفرقة بين المواطنين استنادًا إلى الاعتقاد بأن الجيش هو “جيش الشعب”، إلا أن قيادته قد تلجأ إلى إنشاء مزيد من الفرق المخصصة للحريديم بهدف تشجيع الشباب الحريدي على الالتحاق بالخدمة الإلزامية، سواء العسكرية منها أو المدنية، وذلك لتغطية العجز في أعداد المتطوعين في الجيش الآخذة في التراجع.
- حاجة إسرائيل إلى تعزيز المفاهيم الوطنية لدى الحريديم:
يشهد المجتمع الإسرائيلي حالة من الإحباط بسبب تململ فئة الشباب بشكل خاص من استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتفاقم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ذلك في ظل تزايد حالة الانفتاح وفي إطار ما يلحظونه من تناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي على كافة المستويات.
وقد أسهم ذلك في تقلص رغبة المتجندين في تقديم أنفسهم للتطوع في جيش الدفاع الإسرائيلي، ويرجع ذلك إلى انخفاض مكانة الخدمة العسكرية بوصفها تعبيرًا عن الانتماء للدولة، فضلًا عن عدم تحقق الوعود بحسم الحروب التقليدية. وقد دفع ذلك بضرورة دمج الحريديم في المؤسسة العسكرية، خاصة وأنهم فئة ذات ثقل موجودة داخل المجتمع الإسرائيلي وتفتقر إلى المفاهيم الوطنية والأمنية، وهو ما يشكل خطرًا على مستقبل الدولة.
- تزايد الاحتجاجات والخشية من تفتت المجتمع الإسرائيلي:
ساهمت الاحتجاجات الاجتماعية والدعوات إلى تطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة في تحمل العبء الأمني والاقتصادي، في تسليط الضوء مجددًا على العبء الذي يشكله الحريديم، ليس فقط بسبب عدم مشاركتهم في الخدمة الإلزامية، بل أيضًا بسبب عدم اندماجهم في سوق العمل وتحولهم إلى عالة على الدولة.
من زاوية أخرى، أسهم تقوقع الحريديم بمجتمعهم في تزايد التشققات الموجودة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو ما يعزز من تعدد الولاءات داخل المجتمع وبالتالي يؤثر على تماسكه الظاهري، وهو ما قد يمتد إلى الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني أيضًا، خاصة في ظل ما تشهده الدولة من تحديات متصاعدة، وفي إطار تولي حكومة هشة لا تستطيع الثبات لفترة زمنية طويلة، وهو ما قد يسفر عن تصدعات في بنية المجتمع الإسرائيلي لا يمكن مواجهتها.
إذ إن جوانب العنصرية المتنامية داخل إسرائيل، سواء من حيث الدين أو القومية أو اللون أو حتى الخلفيات الثقافية والاجتماعية، متأصلة في المجتمع الإسرائيلي، ويبدو أن آليات الدمج الاجتماعي في المجتمع الإسرائيلي وجيشه عاجزة عن التحول لبوتقة صهر، وبلا شك، فإن ذلك يؤدي إلى ضعف الدولة بكافة مؤسساتها، بما فيها العسكرية.
- تعدد التحديات التي تواجهها إسرائيل:
تلعب التحديات المتزايدة التي تواجهها إسرائيل، سواء خارجيًا أو محليًا، دورًا أساسيًا في الإصرار على دمج الحريديم في المجتمع، فهناك ضرورة ماسة في الوقت الراهن للاستفادة من هؤلاء في سوق العمل لتحريك الاقتصاد الذي يواجه أزمة منذ تفشي وباء كورونا. ومن جانب آخر، فهناك توافق على ضرورة تقوية جيش الدفاع الإسرائيلي ورفع كفاءة المجندين المنضمين إليه في ظل ما يواجهه من تحديات تفرض عليه الجاهزية في أسرع وقت ممكن.
تخشى إسرائيل أيضًا من تدهور الأوضاع داخل الأراضي الفلسطينية، خاصة بعدما أظهره العدوان الأخير على غزة من تطور لقدرات حركة حماس، وما استتبع هذا العدوان من توحيد الرفض الفلسطيني في باقي المناطق وحتى المناطق العربية، وما تزامن مع ذلك من تعدد جبهات القتال بالنسبة لإسرائيل.
وعلى المستوى الخارجي، تواجه إسرائيل التحدي الأكبر المتمثل في مواجهة إيران والخشية من تطوير قدراتها النووية، وهو ما يستوجب عليها الاستعداد لأية مواجهه محتملة في المستقبل القريب. على الصعيد الآخر، يأتي ذلك في إطار التمدد الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن. كل ذلك يدفع إسرائيل إلى التجهز للقيام بعمل عسكري ضد إيران.
إجمالًا، فإن طرح قانون التجنيد الإلزامي هو ضرورة لحكومة نفتالي بينيت، فالائتلاف الحالي يخشى من تفاقم حالة الاستقطاب الموجودة داخل المجتمع بين معسكري المتدينين وغير المتدينين في اسرائيل، والتي تهدد نسيج المجتمع الداخلي. وتدرك حكومة بينيت ما تفرضه التحديات المتعددة من ضرورة تقوية الجيش من خلال رفع أعداد المنضمين له وتعزيز قدراتهم القتالية؛ حتى تتمكن إسرائيل من الصمود في مواجهة المخاطر الخارجية والداخلية. لذا، فإن حسم قضية التجنيد الإلزامي لليهود المتدينين لم يعد خيارًا بل لزامًا على الحكومة الراهنة تفرضها الظروف والتحديات.
.
رابط المصدر: