رهانات صعبة: كيف تواجه مصر مُعضلة التغيُّر المناخي؟

لا تُصنَّف مصر من بين الدول الرئيسة الأكثر مُساهمةً في التغير المناخي، حيث تُقدَّر نسبة المساهمة المصرية في إنتاج انبعاثات الغازات المُسبِّبة للاحتباس الحراري بنحو 0,6% من إجمالي الانبعاثات العالمية. لكن الملاحظ أن هذه الانبعاثات اتخذت منحى تصاعدياً في مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فعلى سبيل المثال، ارتفع حجم الانبعاثات بنسبة تفوق 30% بين عامي 2005 و2015. وتسبَّبت قطاعات الطاقة والنقل والصناعة في إنتاج أكثر من 80% من هذه الزيادة. ويمكن إرجاع الزيادة المطردة في الانبعاثات الكربونية في مصر إلى استمرار الاعتماد على مصادر الوقود الحفري بوصفها مصادر أساسية للطاقة، حيث يُشكِّل البترول والغاز الطبيعي مجتمعين أكثر من 90% من مصادر الطاقة المستخدمة بالفعل في مصر، وفق تقديرات عام 2019. ومع ذلك، ظلت مصر تُحرِز تقدماً نسبياً في استخدام مصادر الطاقة المستدامة مقارنة بغيرها من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصةً في ظل ارتفاع معدل الاعتماد على الكهرباء المولَّدة من مصادر الطاقة المتجددة، ووصولها إلى 12% في عام 2021.

 

وإلى جانب التأثير السلبي للانبعاثات المولَّدة محلياً، أثرت التداعيات العالمية لظاهرة التغير المناخي في العديد من القطاعات التنموية والاقتصادية المصرية كالري والزراعة والنمو الاقتصادي والتحول الحضري، ما استدعى تبنِّي الحكومة المصرية العديد من سياسات المواجهة، والتي أحرزت في السنوات الأخيرة قدراً من النجاح، إلا أنها ما فتئت تواجه تحديات صعبة على أكثر من صعيد.

 

تأثُّر مصر بظاهرة تغير المناخ

عانت مصر بالفعل من العديد من الآثار السلبية للتغير المناخي، أبرزها التراجُع المطرد في حجم الأمطار المتساقطة بنسبة بلغت 6% كل ثلاثة عقود، وذلك في الفترة بين عامي 1901 و2013، مع تسارع معدل التراجع الشديد، بنسبة بلغت 22% في الأعوام بين 1983 و2013. إلى جانب اضطراب حجم موجات الأمطار الغزيرة وتوقيتها، ما جعل ظاهرة الفيضانات المفاجئة أكثر تكراراً وحدة. كما تشهد مصر ارتفاعاً مطرداً في درجات الحرارة قُدِّر بنحو 0,53 درجة مئوية خلال كل عقد من العقود الثلاثة الماضية.

 

وتبدو آفاق التغير المناخي في مصر أكثر صعوبة، حيث يتوقَّع تراوح ارتفاع درجات الحرارة بين 1,5 درجة و3 درجات بحلول عام 2050، مع زيادة أكبر في المناطق الداخلية. كما يتوقع أن يتم إضافة 40 يوماً كل عام إلى الأيام شديدة الحرارة، وأن يرتفع مستوى سطح البحر المتوسط إلى نحو 61 سم بحلول عام 2085. ويمكن إجمال أبرز آثار التغير المناخي على مصر في النقاط الآتية:

 

1. تَقلُّب تدفقات مياه نهر النيل

تعد موارد المياه من بين أكثر القطاعات تأثراً بالتغير المناخي في مصر. فنظراً لوقوعها في نطاق جغرافي صحراوي، تعتمد مصر في 97% من احتياجاتها المائية على نهر النيل، الذي يعد من بين أكبر الأنهار الأفريقية العابرة للحدود. وتُظهِر مؤشرات السنوات الأخيرة، بالإضافة للتقديرات المستقبلية، أن مياه نهر النيل باتت عُرضةً للتقلُّبات بسبب التغير المناخي، حيث ينتظر أن ترتفع تقلبات النهر (بالزيادة والنقصان) بنسبة 50% في عام 2100 مقارنة بالوقت الراهن، ما يعني زيادة سنوات الجفاف، وبالمقابل زيادة سنوات التدفق الغزير للمياه، وتكرار الفيضانات المفاجئة. وعلى الرغم من محدودية الاعتماد في مصر على مياه الأمطار بوصفها مورداً ثابتاً للمياه، فإنّ التغير المناخي جعل من السيول الموسمية، وما يصاحبها من أضرار في المدن الساحلية المطلة على البحرين الأحمر والمتوسط، ظاهرةً أكثر تكراراً.

 

2. تراجُع إنتاجية القطاع الزراعي

يُعاني القطاع الزراعي في مصر من تحديات جسيمة ناجمة عن التغير المناخي، فعلى مستوى الفواكه والموالح، عادة ما تتأثر هذه الحاصلات بالتغيرات الطفيفة في درجات الحرارة، وهو ما يؤدي إلى تقلبات متكررة في الإنتاجية، ومن ثم الأسعار. أما على مستوى المحاصيل النقدية كالأرز والذرة، فتؤدي التغيرات المناخية إلى تراجع إنتاجية الفدان، ما قد يدفع إلى استيراد كميات إضافية من هذه الحاصلات من الخارج. وتمتد الآثار الخاصة بالتغير المناخي إلى قطاع الإنتاج الحيواني الذي يشكل بمفرده نحو ربع الناتج المحلي الزراعي في مصر، إذ تضرَّر هذا القطاع بسبب موجات الحر المتعاقبة، التي تؤدي إلى إضعاف الحيوانات وتقليص قدرتها على إنتاج الألبان، بل ونفوق أعداد كبيرة منها في بعض الأحيان.

 

3. الخسائر الاقتصادية والتنموية

يحمل التغير المناخي الكثير من التداعيات الاقتصادية السلبية على التنمية في مصر، حيث يمكن التعامل معه باعتباره مُتغيراً مُستقلاً يضر بالتنمية عبر سلسلة من المتغيرات الوسيطة التي تتضمن التأثير السلبي على الموارد المائية، وتقليص عائدات قطاع السياحة، وتراجُع الإنتاج الزراعي، وتدهور الأوضاع الصحية لنسبة مؤثرة من القوى العاملة، وهي مُتغيرات تُقدَّر الخسائر الاقتصادية الناجمة عنها بحلول عام 2060 بنحو 6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهو رقم يُمثِّل ضعف الخسائر المسجلة في عام 2018.

 

4. ارتفاع منسوب سطح البحر في المناطق الساحلية

تتأثر مدن مصر الساحلية، خاصة تلك المطلة على البحر المتوسط، بمشكلة الارتفاع الكبير في منسوب سطح البحر. فخلال الأعوام بين 1992 و2012، ارتفع منسوب سطح البحر بمعدل 1,8 مليمتر سنوياً، مع توقُّع بلوغ هذه الزيادة 6 مليمترات سنوياً في العقود المقبلة. وقد احتلت مصر المرتبة الخامسة عالمياً من حيث حجم الخسائر الاقتصادية المتوقعة لارتفاع منسوب سطح البحر، بما ينتجه ذلك من آثار ضارة أبرزها تعرُّض المناطق الزراعية في شمال دلتا نهر النيل للغمْر، وتسرُّب المياه المالحة، وتآكل التربة. إلى جانب الأضرار التي ستتركز في التجمعات الحضرية الساحلية الكبيرة، وعلى رأسها مدينة الإسكندرية.

 

5. الإخلال بمعايير الاستدامة في التجمعات الحضرية

مما يزيد من حدة تأثير التغير المناخي في مصر، التوزيع الجغرافي غير المتوازن لمراكز إنتاج الانبعاثات الكربونية، والتي يأتي 80% منها من المدن والمراكز الحضرية، بعد أن شهدت زيادة بأكثر من عشرة أضعاف خلال خمسين عاماً، ارتفع خلالها إنتاج المدن المصرية من مكافئ ثاني أكسيد الكربون من 18 مليون طن متري إلى 182 طناً مترياً، وهي زيادة جاءت نتيجة التوسع المطرد في النمو الحضري، وما يصاحبه من تحولات كبيرة في أنماط الاستهلاك، وارتفاع الطلب على مواد البناء، واتساع رقعة العمران، ما ضاعف الطلب على وسائل النقل، فضلاً عن تعقُّد عمليات إدارة النفايات. كما جاء هذا التمدد الحضري على حساب مساحة الأرض الزراعية، التي شهدت تراجعاً قُدِّر بنحو 8,6% بين عامي 2000 و2015، بلغت ذروتها في مدن مثل أسيوط وأسوان، والتي بلغ حجم التراجع فيها 30%. ويُسهِم هذا التراجع في مساحة الأرض الزراعية في تسريع وتيرة عمليات التصحر، وارتفاع نسبة الانبعاثات.

 

سياسة الدولة المصرية تجاه التغير المناخي

يمكن رصد مضامين السياسة المصرية للتعامل مع قضية التغير المناخي من خلال مستويين مستقلين من الإعلانات والوثائق الرسمية، يتعلق أولهما بالسياسات الموجهة للداخل، والتي تضع أهداف وأولويات العمل المناخي للمؤسسات المصرية كافة. أما المستوى الثاني، والأكثر تحديداً وأهمية، فهو المتعلق بالسياسات المقدمة للآليات الدولية المعنية باستقبال التقارير الطوعية للعمل المناخي المعروفة باسم “المساهمات المحددة وطنياً”.

 

أ. تطور السياسات والاستراتيجيات الرسمية

على مستوى الوثائق الرسمية، أصدرت مصر في عام 2011 الاستراتيجية الوطنية الأولى للتكيُّف مع تغير المناخ والحد من مخاطر الكوارث، وأعقبها توقيع استراتيجية التنمية منخفضة الانبعاثات في عام 2018. وفي عام 2019 أُعلِنَ عن تطوير تشكيل المجلس الوطني للتغيرات المناخية مع ترقية مستوى عضويته، بحيث يرأسه رئيس مجلس الوزراء، بعد أن رأسه وزير البيئة في إطار تشكيليه الأول (1997)، والثاني (2015)، مع توسيع صلاحياته لتشمل وضع الاستراتيجية العامة للدولة في مجال التعامل مع تغير المناخ، وتنسيق الاستراتيجيات الوطنية والسياسات التنموية الأخرى مع هذه الأهداف. وفي عام 2022 أُعلِنَ عن الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050، والتي يُمكِن عَدّها خريطة طريق شاملة لضمان التصدي الفعال لآثار التغير المناخي وتداعياته في البلاد.

 

وقد تبنَّت الاستراتيجية خمسة أهداف رئيسة، تفرَّع عنها أكثر من عشرين هدفاً ثانوياً، تمثلت في الآتي:

  1. تحقيق نمو اقتصادي مستدام ومنخفض الانبعاثات في مختلف القطاعات.
  2. بناء المرونة والقدرة على التكيف مع تغير المناخ، وتخفيف الآثار السلبية المرتبطة بتغير المناخ.
  3. تحسين حوكمة وإدارة العمل في مجال تغير المناخ.
  4. تحسين البنية التحتية لتمويل الأنشطة المناخية.
  5. تعزيز البحث العلمي ونقل التكنولوجيا وإدارة المعرفة، ورفع الوعي لمكافحة تغير المناخ.

 

وتضمَّنت الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ تقديراً دقيقاً لتكلفة برامج التخفيف المعنية بقطاعات الصناعة والكهرباء والبترول والنقل والطيران والإٍسكان وإدارة المخلفات بنحو 211 مليار دولار، كما قدّرت تكلفة برامج التكيف المعنية بقطاعات الزراعة والنقل والطيران والري والتنوع الحيوي بنحو 113 مليار دولار، إلا أن هذه التكلفة تظل قابلة للزيادة في ظل اقتصار التقديرات في بعض القطاعات على عام 2030.

 

ب. تقارير المساهمات المحددة وطنياً

بموجب توقيع مصر على اتفاقية باريس خلال أعمال مؤتمر الأطراف (كوب 21) المنعقد عام 2015، بدأت الحكومة المصرية في الإعلان عن المساهمات المحددة وطنياً Nationally Determined Contributions (NDC)، وتبيين التزاماتها الطوعية بشأن تنفيذ السياسات التي من شأنها الوفاء بهدف قصر ارتفاع درجات الحرارة عالمياً على معدل 1,5 درجة. وأعلنت مصر أولى مساهماتها المحددة وطنياً عام 2017، مع تجديد الالتزام بتحديثها كل خمس سنوات. وعلى رغم أهمية النسخة الأولى التي أعلنتها مصر حول مساهماتها المحددة وطنياً، فإنّها جاءت على قدر كبير من العمومية، والتركيز على الغايات لا الوسائل.

 

وقد تَجنَّبت النسخة الثانية الصادرة عام 2022 ما عاب النسخة الأولى من غياب للآليات المحددة التي من خلالها تستطيع الحكومة المصرية ضمان الحد من الانبعاثات الغازات المُسبِّبة للاحتباس الحراري. إذ قدَّرت النسخة الثانية من المساهمات المصرية المحددة وطنياً الاحتياجات المالية للالتزام بأهداف اتفاقية باريس بنحو خمسين مليار دولار حتى عام 2030، وهو ما يوازي 1,6% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي. كما شهدت النسخة الثانية من المساهمات المحددة وطنياً مراجعة إجراءات التخفيف وتوسيعها لتشمل مختلف القطاعات، بهدف تحقيق مستوى أعلى من التنسيق بين الجهود التنموية والالتزامات المناخية في مصر. وقد وضعت نسخة 2022 من المساهمات المحددة وطنياً أهدافاً مرحلية واضحة يتم مراقبتها بشفافية للحد من الانبعاثات الكربونية، وذلك بالتركيز على القطاعات الثلاثة الأكثر إنتاجاً لغازات الاحتباس الحراري، بحيث تُقلَّص انبعاثات قطاع الكهرباء بنسبة 33%، وقطاع النفط والغاز بنسبة 65%، وقطاع النقل بنسبة 7%، وهو ما قُدِّرَت تكلفته بنحو 196 مليار دولار.

 

التحديات أمام التوجهات المناخية الراهنة في مصر

وفقاً لمؤشر أداء التغير المناخي Climate Change Performance Index (CCPI) الصادر عام 2023 احتلت مصر المرتبة 20 عالمياً من بين 62 دولة شملها المؤشر، وهو ما وضعها في أفضل مراكز فئة الدول ذات الأداء المتوسط في التعامل مع تغير المناخ. ونتج هذا التقييم عن الجمع بين أربعة مؤشرات فرعية، حيث احتلت مصر المرتبة الثامنة عالمياً في الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والمرتبة الخامسة والخمسين في التوسُّع في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، والمرتبة الخامسة في مؤشر استخدامات الطاقة، والمرتبة الخامسة والعشرين في مؤشر السياسات المناخية.

 

وتتمثل أبرز التحديات التي تواجه سياسات العمل المناخي في مصر، بالآتي:

 

1. تحدي تنسيق السياسات البيئية: في عام 1994 أسَّست مصر للمرة الأولى جهازاً لشؤون البيئة، كما اُستُحدِثَت وزارة البيئة عام 1997، وهو العام ذاته الذي شُكِّل فيه المجلس الوطني للتغيرات المناخية المعني بتنسيق السياسات بين جميع الأطراف المعنية. لكن بحكم تشابك قضايا البيئة وتداخلها من ناحية، وتعقُّد بنية الإدارة العامة المصرية من ناحية أخرى، فإن عمليات تنسيق السياسات البيئية شكَّلت تحدياً رئيساً أمام مساعي تنفيذ السياسات المقررة لمعالجة قضايا التغير المناخي. ويعكس تشكيل المجلس الوطني للتغيرات المناخية هذا الوضع المعقد، حيث يضم في لجنته العليا التي يرأسها رئيس الوزراء، وزراء البيئة والخارجية والتعاون الدولية والموارد المائية والتخطيط والزراعة والمالية، أخذاً في الاعتبار أن الوزارات والهيئات المشاركة في المكتب التنفيذي ومجموعات العمل الفنية التابعة للمجلس تتسع لممثلي أكثر من عشرين وزارة وهيئة مختلفة. ويزداد الأمر تعقيداً بالنظر لاستهداف الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050 تعزيز دور القطاع الخاص في العمل المناخي، ما يعني الحاجة للمزيد من الجهود التنسيقية لضمان تكامل أدوار الأطراف المعنية وتجنُّب تعارضها.

 

2. تحدي قياس التغيُّر المناخي، ومتابعة تنفيذ سياسات مجابهته: يرتهن نجاح سياسات مكافحة التغيرات المناخية بمدى توافر آليات القياس والرصد ودقتها، والمتابعة للمؤشرات المتعددة المتعلقة بالتغير المناخي. وقد كشف التقريران المقدمان من جانب مصر بشأن المساهمات المحددة وطنياً لعامي 2017 و2022 عن الحاجة لتعزيز القدرات في القياس والمتابعة، والتي تشمل أكثر من مجال فرعي، وتتضمن قياس التغير الكمي والنوعي في غازات الاحتباس الحراري، والإجراءات المعنية بالحد من الكوارث الطبيعية، ورصد التغير في حجم المساعدات والدعم للمجتمعات الأكثر هشاشة وتضرراً من التغيرات المناخية، فضلاً عن قياس أثر سياسات التكيُّف. ويشير البنك الدولي إلى أن مصر بدأت بالفعل في المرحلة الثانية من إعداد الخريطة التفاعلية لمخاطر المناخ التي تعتمد على ربط النماذج الرياضية بقاعدة البيانات الجغرافية من أجل التحديد الدقيق لأكثر المواقع عُرضة للتضرُّر من تغير المناخ، لكن لا يزال هذا المجال يمثِّل تحدياً رئيساً يتعين تجاوزه.

 

3. تحدي التمويل: كغيرها من الدول النامية، تواجه مصر تحدياً جوهرياً يتعلق بصعوبة وضع قضايا التغير المناخي على قائمة الأولويات التنموية، إلى جانب استمرار الحاجة للتوسع في عدد من الأنشطة الاقتصادية التي قد تحمل آثاراً ضارة تزيد من تأثيرات التغير المناخي، بما تتضمنه من عمليات توسُّع في استغلال مصادر الطاقة المتاحة، وعلى رأسها الوقود الحفري. وقد قدَّرت مصر في وثيقة المساهمات المحددة وطنياً لعام 2022 احتياجها لاستثمارات تبلغ قرابة 246 مليار دولار لدعم سياسات التخفيف والتكيف مع التغير المناخي بحلول عام 2030، في الوقت الذي اقتصر فيه التمويل المقدَّم من صندوق المناخ الأخضر لمصر على دعم أربعة مشروعات بأقل من 300 مليون دولار. وتعكس هذه الأرقام الحجم الكبير للفجوة التمويلية للمشروعات المتعلقة بالتغير المناخي في مصر. وقد اتخذت الحكومة المصرية مجموعة من الإجراءات التي من شأنها سد الفجوة التمويلية، في مقدمتها إصدار السندات السيادية الخضراء عام 2020، والتي بلغت حصيلتها 750 مليون دولار. لكن تظل مشكلات التمويل تمثل إحدى أبرز التحديات التي تواجه إدارة العمل المناخي في مصر.

 

4. تحدي توفير بدائل نظيفة لمصادر الطاقة: تُسهِم العديد من العوامل في خلق طلبٍ متزايدٍ على الطاقة في مصر، تتضمن الزيادة المطردة في عدد السكان، والخطط التنموية الطموحة التي يسعى كلٌّ من الحكومة والقطاع الخاص لتنفيذها بأسرع وقت. وتتركز التحديات المتعلقة بالطاقة في ثلاثة قطاعات رئيسة، أولها قطاع توليد الكهرباء، الذي شهد زيادة كبيرة في السنوات العشر الأخيرة اعتماداً على المحطات الحرارية التي تعمل بالغاز الطبيعي. وعلى الرغم من توجيه قدر ملموس من الدعم لمشروعات توليد الطاقة من المصادر المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لا يزال الاعتماد الأكبر منصباً على توليد الكهرباء من محطات تعمل بالغاز الطبيعي. ولا تقتصر تحديات قطاع الكهرباء على مصادر توليد الطاقة، وإنما تمتد للمشكلات المترتبة على الهدر في عمليات النقل والتوزيع، والتي تعد مسؤولة عن نسبة كبيرة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

 

وثاني القطاعات التي تشكل تحديات كبيرة للعمل المصري لمواجهة تغير المناخ، هو القطاع الصناعي، حيث لا تزال الأدوات التشريعية والإجرائية لمراقبة تأثير نشاط الشركات الصناعية على التغير المناخي بحاجة للمزيد من التطوير. أما ثالث تلك القطاعات، فهو قطاع النقل، حيث تشير التوقعات المستقبلية إلى استمرار زيادة الانبعاثات الكربونية من هذا القطاع، بالتوازي مع اتساع الرقعة الجغرافية المأهولة.

 

تطور مقاربة القاهرة المناخية عبر قمم الأطراف

بدأت مؤتمرات الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ عام 1995 بداية متواضعة من حيث جدول الأعمال وحجم المشاركة، إلا أن النسخة الثالثة COP3 التي عقدت في مدينة كيوتو اليابانية عام 1997 مثلت نقطة تحول، حيث شهد المؤتمر طرح بروتوكول كيوتو على الدول المشاركة. واستمرت الوظيفة الأساسية لمؤتمراتالأطراف السنوية تتمحور حول متابعة التقدم في توقيع وتنفيذ بروتوكول كيوتو، وصفه إطاراً دولياً مُلزماً لمجابهة التغير المناخي، حتى انعقاد مؤتمر COP11 عام 2005 في مدينة مونتريال الكندية، والذي شهد دخول البروتوكول حيز النفاذ بعد بلوغ نصاب الحد الأدنى من الدول الموقعة. وقد وقَّعت مصر على بروتوكول كيوتو رسمياً عام 1999، ولم تُصادِق عليه إلا في عام 2005.

 

ومثَّل مؤتمر COP21 المنعقد في باريس، في ديسمبر 2015، نقطة تحول في طبيعة المشاركات المصرية في مؤتمرات التغير المناخي، حيث ترأس الوفد المصري الرئيس عبد الفتاح السيسي، وشهد المؤتمر نشاطاً مكثفاً للوفد المصري، عزَّزه تمثيل القاهرة المبادرة الأفريقية للمناخ African Climate Initiative، حيث طالبت مصر خلال المؤتمر بحشد الدعم الدولي لتفعيل سياسات المناخ في القارة الأفريقية لمواجهة التداعيات السلبية للتغير المناخي، خاصة مع ما توفره المبادرة الأفريقية للمناخ من إطار عمل شامل بهذا الخصوص. كما شهد المؤتمر مطالبة مصر بتوفير الدعم الذي سبق إقراره بقيمة 100 مليار دولار سنوياً لتلبية الاحتياجات العاجلة للدول النامية في مجال السياسات المناخية. وكانت مصر من بين الدول التي أيَّدت اتفاقية باريس للمناخ التي طرحت خلال المؤتمر، والتي تُلزِم دول العالم بعدد من الإجراءات التي من شأنها ضمان عدم تجاوز ارتفاع درجات الحرارة سقف الدرجتين، حيث وقَّعت مصر رسمياً على الاتفاقية في أبريل 2016، قبل أن تُصادِق عليها في يونيو 2017.

 

وفي مؤتمر COP22 المنعقد في مدينة مراكش المغربية في نوفمبر 2016، رأس الوفد المصري، وزير البيئة السابق خالد فهمي، الذي ركز جهوده خلال المؤتمر على عدد من المسارات، مجدداً التأكيد على أهمية الالتزام بتلبية احتياجات الدول النامية المقدرة بنحو 100 مليار دولار سنوياً. كما طرحت مصر مبادرة أفريقيا للطاقة المتجددة Africa Renewable Energy Initiative (AREI)، بوصفها إحدى الآليات القارية التي تستهدف الحد من مساهمة دول القارة في التغير المناخي العالمي. وعلى هامش المؤتمر أعلنت مصر عن إطلاق المنتدى الأفريقي للشراكة المناخية African Forum for Environment Partnership، الذي يستهدف التحول لمنصة مستدامة لتنسيق العمل المناخي على مستوى القارة الأفريقية، فضلاً عن تنسيق التعاون مع الشركاء الدوليين.

 

وفي مؤتمر COP23 استمرت المشاركة المصرية على المستوى الوزاري برئاسة وزير البيئة، حيث شهد المؤتمر استكمال الجهود المصرية في بناء موقف موحد لدول مجموعة الدول السبع والسبعين والصين G77+China من آليات تنفيذ اتفاقية باريس للمناخ، واستكمال بنودها. وفي مؤتمر COP24 الذي استضافته مدينة كاتوفيتسه البولندية عام 2018، أوكلت رئاسة المؤتمر مهمة تسوية الخلافات بين الدول النامية والمتقدمة بشأن قضايا التمويل المناخي إلى وفدي مصر وألمانيا، بعد أن هدَّد استمرار التبايُن الحاد في الرؤى فرص التوافق حول الآليات التنفيذية لاتفاقية باريس للمناخ.واستمر تركيز الوفد المصري على قضايا التمويل المناخي بذات المنطق في مؤتمر COP25 الذي عقد في مدريد، في ديسمبر 2019.

 

وشهد مؤتمر COP26، الذي استضافته جلاسجو الأسكتلندية في نوفمبر 2021، مشاركةً مصريةً رفيعة المستوى بحضور رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي. وركز الوفد المصري على عدد من القضايا الرئيسة، أبرزها توفير التمويل للمشروعات الخضراء، وبحث آليات تكثيف الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وإيجاد آليات تنفيذية أكثر كفاءة لدعم جهود الدول الأفريقية في مساري التخفيف والتكيف. لكن الإنجاز الأبرز الذي حققته مصر في هذا المؤتمر هو إعلان مدينة شرم الشيخ مقراً لاستضافة النسخة التالية من المؤتمر.

 

وفي عام 2022 سعت مصر لتحقيق أكبر قدر من الفاعلية لمؤتمر COP27 باعتبارها الدولة المستضيفة، وهو ما تجسَّد في أكبر نجاحات المؤتمر، وهو إطلاق صندوق الخسائر والأضرار المناخية باعتباره آليةً مستدامةً لتعويض الدول الأكثر تضرراً من التغير المناخي. كما شهد المؤتمر إطلاق بوابة شرم الشيخ الإلكترونية التي تسعى لضمان تحقيق أهداف الأمن الغذائي والقضاء على الجوع بالتكامل مع مكافحة التغير المناخي، حيث أُطلِقَت مبادرة فاست بالشراكة بين رئاسة المؤتمر ومنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة FAO.

 

خلاصة واستنتاجات

عكس تطور السياسات المناخية للدولة المصرية اهتماماً متصاعداً بالعمل المناخي وبمكافحة آثار التغير المناخي والاحتباس الحراري، لاسيما في ظل تزايد مؤشرات معاناة مصر من الآثار السلبية للتغيرات المناخية. ولهذا، أصدرت الحكومة المصرية الاستراتيجية الوطنية الأولى للتكيُّف مع تغير المناخ عام 2011، وأعقبها توقيع استراتيجية التنمية منخفضة الانبعاثات في عام 2018. وفي عام 2019 أُعلِنَ عن تطوير تشكيل المجلس الوطني للتغيرات المناخية برئاسة رئيس الوزراء. وفي عام 2022 أُعلِنَ عن الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050. ودولياً، بدأت مصر في الإعلان عن المساهمات المحددة وطنياً عام 2017، والتي حُدِّثَت عام 2022، وضُمِّنَت أهدافاً مرحلية للحد من الانبعاثات بالتركيز على قطاعات الكهرباء والنفط والغاز والنقل.

 

وعلى رغم أن مؤشر أداء التغير المناخي الصادر عام 2023، أظهر تحسُّناً في الإدارة المصرية للعمل المناخي، فإنّ العمل المناخي في مصر لا يزال يواجه تحديات صعبة، من أبرزها: تحدي تحسين التنسيق والتكامل بين الجهات المعنيَّة بالسياسات البيئية؛ والتحدي المرتبط ببناء أنظمة دقيقة لقياس مؤشرات تغيُّر المناخ ومتابعة تنفيذ سياسات مجابهته؛ وتحدي تأمين التمويل الكافي لتنفيذ السياسات المناخية؛ إضافة إلى التحدي المتصل بتوفير بدائل نظيفة لمصادر الطاقة.

 

مع هذا، يمكن القول إن التجربة المصرية في التعامل مع قضايا التغير المناخي تُمثِّل تجربة مهمة من تجارب الدول النامية، في ظل الحجم الكبير للتأثيرات السلبية لتغير المناخ في قطاعات متعددة، وفي ظل الاستجابة النشطة والمبكرة نسبياً على مستوى إصدار السياسات الوطنية وتنفيذها، وكذلك على مستوى التفاعل مع الاتجاهات الدولية الهادفة للحد من التغير المناخي وتأثيراته العالمية الضارة.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/rihanat-saaba-kayf-tuajih-misr-muedlt-altghyur-almunakhi

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M