هل وصل العالم إلى حافة المواجهة؟ سؤال بدأ يكبر مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ 24 شباط 2022، حيث بدا الأمر أكثر وضوحًا، تكتلًا ضدّ تكتل، خصوصًا بتعزيز المحور الروسي – الصيني، الذي اقتربت منه إيران إلى حدود كبيرة، مقابل المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، مستنفرةً حلف الناتو والاتحاد الأوروبي…
هل وصل العالم إلى حافة المواجهة؟ سؤال بدأ يكبر مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ 24 شباط / فبراير 2022، حيث بدا الأمر أكثر وضوحًا، تكتلًا ضدّ تكتل، خصوصًا بتعزيز المحور الروسي – الصيني، الذي اقتربت منه إيران إلى حدود كبيرة، مقابل المحور الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، مستنفرةً حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقديم الدعم المادي والمعنوي إلى أوكرانيا، التي وضعها حظّها العاثر في طريق روسيا.
وكان زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ( 1977 – 1981)، كتب «من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تُصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب»، فقد كانت أوكرانيا تاريخيًا جزءًا من المجال الحيوي لروسيا، وترتبط معها بروابط عميقة، لكنها ثاني دولة انسلخت عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991، ومذ حصلت على استقلالها، أصبحت عيناها على الغرب، وأبدت سعيًا حثيثًا للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل روسيا مرتابة من وجوده على حدودها، علمًا بأن واشنطن كانت قد قدمت تعهدات لغورباتشوف بعدم انضمام دول شرق أوروبا إلى الناتو، بعد تفكك حلف وارشو، لكن واشنطن تنصّلت من وعودها، وسعت إلى تطويق روسيا، بل خنقها داخل حدودها.
لهذه الأسباب يمكن تفهم قيام روسيا ببدء الحرب على أوكرانيا، لكن من يستطيع بدء الحرب، لا يمكنه تحديد موعد نهايتها، فثمة عوامل جديدة تتداخل في مجرياتها، فهل غامر الرئيس بوتين، حين أقدم على الاعتراف بجمهورية الدومباس، والتي تبعها شنّ الحرب على أوكرانيا؟ وإذا كان الاعتقاد أن ضمّ مناطق من شرق أوكرانيا إلى روسيا، سيمرّ كما حصل في ضمّ شبه جزيرة القرم (2014)، فإن مثل هذا الاعتقاد كان خاطئًا تمامًا، لأن الأمر مختلف هذه المرّة، فأوكرانيا تمثّل بوابة روسيا إلى الغرب.
صحيح أن وضع منصّات صاروخية من جانب حلف الناتو على حدود روسيا، يعتبر استفزازًا كبيرًا لها، وتهديدًا لأمنها القومي ومصالحها الحيوية، وهو ما حذّرت منه، إلّا أن عواقب شنّ الحرب واستمرارها كانت كارثيةً على الجانبين.
وسبق لبوتين أن اتهم واشنطن بتنظيم انقلاب في أوكرانيا لدعم أنصارها وإقصاء الرئيس المنتخب الموالي لروسيا فيكتور إنيوكوفتش، واستبداله بشخصية موالية للغرب، عبر حركة احتجاج شعبية، تلك التي عُرفت باسم «الثورة الملوّنة» (2014)، التي أوصلت بترو بورشنكو ومن بعده فلاديمير زيلينسكي إلى السلطة.
من يقرأ تاريخ العلاقات الأوكرانية – الروسية، يفاجئ أن هذين البلدين السلافيين الجارين، اللذين يدينان بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ارتبطا منذ ألف عام بتشابك مصيرهما بشكل عضوي، وهو ما يجعل الصراع اليوم أكثر مأساويةً وتعقيدًا، إذْ أن أكثر من 20 بالمئة– من الروس والأوكرانيين، يرتبطون بعلاقات عائلية، حتى أن بعض الأوكرانيين يعتبرون أنفسهم روسيين، وتاريخيًا، حين تكونت أول دولة في كييف، في العصور الوسطى، أطلقت على نفسها اسم روسيا.
حرب عالمية
فقط في الحرب العالمية الأولى أُعلن عن قيام دولة أوكرانيا المستقلة، وهكذا أصبحت حقيقة قائمة، لكنه جرى التحاقها بالاتحاد السوفيتي في العام 1922. وباستثناء فترة قصيرة، أصيب بعض الأوكرانيين بالحيرة، فرحبوا بالنازيين كمحررين، بعد أن شنّ الألمان النازيين الحرب على الاتحاد السوفيتي في 22 حزيران / يونيو 1941، وذلك على أمل تحرير أنفسهم من الهيمنة الروسية والقبضة الشيوعية، ولكن حين شعروا بأن الألمان يستهدفونهم أيضًا، انخرطوا في الدفاع عن الوطن السوفيتي، حيث ساهم الجيش الأحمر في تحريرهم في العام 1945.
وخلال فترة الحكم السوفيتي، وسّعت أوكرانيا حدودها ﺑ 165 ألف كم2 ، وبزيادة سكانية لهذه المناطق بنحو 11 مليون نسمة، مستفيدةً من «دلال» و «كرم» زعيمين تناوبا على قيادة الحزب والدولة، وهما نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجينيف. ولعلّنا نستذكر إقدام خروتشوف على منح شبه جزيرة القرم إليها في العام 1956، لكن بعد 58 عامًا أقدم بوتين على استعادتها وفصلها عن أوكرانيا في محاولة ترميم التاريخ والجغرافيا معًا، على حدّ تعبيره، مما زاد من حساسية الأوكرانيين المرتفعة أصلًا من محاولات «الترويس».
تضم أوكرانيا مجموعات ثقافية عديدة مثل البولونيين والرومانيين والهنغاريين، إضافةً إلى مجموعة عرقية روسية كبيرة، وهو ما حاول بوتين استثماره بذريعة «أكرنتهم» والتمييز ضدّهم بفرض اللغة الأوكرانية عليهم، بما في ذلك في الدونباس وشبه جزيرة القرم، وخصوصًا بتقرّبها من الغرب، وإدارة ظهرها للعلاقات التاريخية الأوكرانية – الروسية. لقد أنهكت واشنطن موسكو خلال الحرب الباردة بسباق التسلّح، وخصوصًا ببرنامج حرب النجوم، في عهد الرئيس رونالد ريغان، والآن تسعى لتوريطها في أفغانستان جديدة، وشعارها التضحية بآخر أوكراني، كما كان شعارها التضحية بآخر أفغاني في مواجهة السوفييت، ردًا على هزيمة فيتنام.
كل هذه الأوضاع عبّر عنها، بحزن وألم، الكاتب والديبلوماسي السابق الروسي – الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، حين كتب يقول «هذه الحرب تمزقني، كانت والدتي روسيةً ووالدي بطلًا أوكرانيًا في الحرب العالمية الثانية…»، ولم يكتف بذلك، بل حذّر من القطيعة النهائية بين روسيا والغرب، ومدى خطورة حصولها، وذلك في كتابه الموسوم «بوتين – أوكرانيا: الأوجه الخفية»، الصادر عن دار النهار، بيروت، 2023.