رهن السَّلام بالوضع الميداني: التداعيات المحتملة لتعثُّر مباحثات جنيف على مستقبل النزاع السوداني

  • رفض الجيش السوداني المُشاركة في مباحثات جنيف لإدراكه صعوبة التوصُّل لحلول تفاوضية تُلبي توجهاته حيال النزاع، في ظل فقدانه السيطرة على أغلب الولايات السودانية. 
  • حاولت قوات الدعم السريع الاستفادة من مباحثات جنيف لتعزيز صورتها لدى المجتمع الدولي بوصفها قوة داعمة للسلام، كما عملت مع أطراف عملية جنيف من أجل إيجاد آليات لتنسيق وصول المساعدات الإنسانية للسودان. 
  • عززت تحركات طرفيّ الصراع السوداني من فُرص التجميد السياسي النسبي لخريطة النزاع الحالية، وقد يتجه الجيش إلى تصعيد تحركاته القتالية، في حال بدا له أن تعزيز تعاونه العسكري مع روسيا وإيران لن يؤثر في علاقته برعاة منبر جدة التفاوضي.

 

استضافت مدينة جنيف السويسرية، بين يومي 14 و24 أغسطس 2024، مباحثات هدفت إلى وقف إطلاق النار وتحسين الأوضاع الإنسانية في السودان. وأصدرت الأطراف الدولية المُشاركة في المباحثات (الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، وسويسرا، والولايات المتحدة، والسعودية، ومصر، والإمارات) بياناً في نهايتها، أكد نجاحها في تأمين مسارين لإيصال المساعدات الإنسانية للأطراف المتضررة من النزاع السوداني، واقتراح إنشاء آلية لحل النزاع وضمان تنفيذ الالتزامات المتعلقة بحماية المدنيين.

 

ورَحَّبت مجموعة جنيف بمشاركة قوات الدعم السريع في المباحثات، مؤكدين أن غياب ممثلي الجيش قد أعاق مساعي التوصُّل لوقف لإطلاق النار. وقوبل البيان باستنكار قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البُرهان، الذي جدّد رفضه لمسار جنيف، ووصفه بأنه عملية “تبييض وجه” للدعم السريع، مؤكداً استمرار الجيش في القتال.

 

الجيش ومباحثات جنيف

يُمكن اعتبار تراجُع الجيش الميداني في مواجهة الدعم السريع أحد أبرز الأسباب التي دفعته لمقاطعة المباحثات في جنيف، إذ طلب من الوسطاء الضغط على قوات الدعم السريع للخروج من أماكن سيطرتها الحالية، قبل انعقاد المباحثات، عادَّاً هذه المسألة أبرز مخرجات منبر جدة التفاوضي. وتَمَسَّك الجيش بهذا الموقف على رغم تأكيد أطراف عملية جنيف أنها مُكمِّلة لمنبر جدة، الذي رَعتهُ في وقت سابق الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لإنهاء النزاع بين الجيش والدعم السريع.

 

جاءت الدعوة لمباحثات جنيف في ظل خريطة انتشار ميدانية تُرجِّح كفة الوزن التفاوضي للدعم السريع، حيث نجحت خلال الأشهر الأخيرة في توسيع نطاق سيطرتها في وسط السودان وغربه وجنوبه، وتَضَمَّن ذلك بعض المناطق الحدودية مع دول تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بما يسمح لقوات الدعم السريع بتأمين خطوط إمداد قواتها، وضمان القدرة على مواصلة توسعها الميداني، والتي تشمل حالياً محاولة فرض السيطرة على كامل إقليم دارفور، بعد حصار قوات الدعم لمنطقة الفاشر في شمال دارفور.

 

وفي المقابل، تَقَلَّصَت سيطرة الجيش على أغلب المناطق السودانية، باستثناء بعض الولايات في شرق السودان وشماله، ومن بينها البحر الأحمر والولاية الشمالية وبعض مناطق الخرطوم، الأمر الذي يسمح للجيش باستقدام الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، عبر مناطق الحدود البرية والبحرية التي يسيطر عليها.

 

تعززت مخاوف قادة الجيش من المُشاركة في مباحثات جنيف، بعد أن دعا أطرافها إلى عقد اتفاق لوقف الأعمال العدائية بين طرفيّ النزاع، دون أن يتطرقوا إلى بحث قضايا الحل النهائي. وربما عَدَّ قادة الجيش أن مثل هذه الخطوة قد تقود إلى تكريس الوضعية القتالية الحالية، مُفَضِّلين إرجاء التباحث حول إنهاء النزاع إلى ما بعد تحسين وضعيتهم القتالية، وإجراء الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2024، فقد يُمكنهم بعد هذا التوقيت العمل على إيجاد تفاهمات سياسية أكثر قابلية للاستدامة، بمشاركة الإدارة الأمريكية الجديدة.

 

من جهة أخرى، أشار تمسُّك الجيش بدعوته للمشاركة في التفاوض بصفته الممثل الشرعي للحكومة السودانية، إلى اعتقاده بأن مباحثات جنيف قد تُعزِّز الاعتراف الدولي بسُلطة الدعم السريع على المناطق الواقعة تحت سيطرتها، لذا حرص مجلس السيادة على إعلان فتح معبر أدري مع تشاد لمدة ثلاثة أشهر بالتزامن مع انعقاد المباحثات في جنيف، مع أن المعبر يقع عملياً تحت سيطرة الدعم السريع.

 

التراجُع الميداني للجيش السوداني في مواجهة الدعم السريع، من أبرز الأسباب التي دفعته لمقاطعة مباحثات جنيف (AFP)

 

وفي ضوء هذه الحسابات، قادت سيطرة الجيش على ساحل البحر الأحمر السوداني إلى اعتقاد قادته بامتلاكهم هامشاً للمناورة، يسمح بتفادي تبعات عدم الاستجابة للدعوة الأمريكية للمُشاركة في جنيف، وعملوا على التلويح بالانضمام للتحالف الروسي-الإيراني في المنطقة تزامناً مع انعقاد المباحثات، كوسيلة لدفع واشنطن نحو عدم اتخاذ إجراءات حادة تجاههم. وفي هذا السياق، قام وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم بزيارة موسكو في خلال فترة انعقاد المباحثات، كما سُرِّب بعض الأنباء التي تُفيد بتسلُّم الجيش في مطلع أغسطس شُحنة مُسيّرات إيرانية من نوع مهاجر، واستقدامه لـ 7 مقاتلات روسية انضمت إلى عملياته بمنطقة الخرطوم بحري. ولم يَنفِ الجيش صحة ما ورد بهذه التقارير، كما لم ينفِ أنباءً أخرى أشارت إلى وصول 700 جندي روسي إلى ولاية البحر الأحمر، تمهيداً لتنفيذ الاتفاق المتعلق بمنح موسكو قاعدة لوجستية في مياه البحر السودانية.

 

ويبدو أن الجيش قد رمى أيضاً بهذه التحركات إلى ردع قوات الدعم السريع، إلى جانب تأمين انحياز موسكو له في مجلس الأمن الدولي، في حال نَظَر المجلس في تطورات النزاع.

 

السلوك التفاوضي للدعم السريع

حاولت قوات الدعم السريع، من جانبها، الاستفادة من التباينات بين الجيش السوداني والإدارة الأمريكية، وسَعَت عبر مشاركتها في جنيف إلى تعزيز صورتها بوصفها قوة داعمة للسلام، بعد تصاعُد الاتهامات الموجَّهة لها من جانب جهات مختلفة بارتكاب انتهاكات واسعة بحق المدنيين. وعمدت أيضاً إلى تعزيز مصداقية دعمها لوقف إطلاق النار، بعدم فتح جبهات قتالية جديدة في خلال انعقاد المباحثات، بينما سعت إلى ضمان استمرار تَمَتُّعها بأفضلية قتالية، عبر تكثيف القصف المدفعي على مواقع الجيش بمنطقتيّ الفاشر، وأم درمان.

 

وكانت قوات الدعم السريع قد اتجهت قبل انعقاد مباحثات جنيف إلى التماهي مع الأجندة الدولية الرامية لتحسين أوضاع المدنيين في السودان، وقررت تشكيل قوة لحماية المدنيين وموظفي الإغاثة الدوليين، وأكدت أن هذه القوة “ستتوسع تدريجياً”؛ ما أشار إلى وجود اعتقاد لدى قيادة الدعم السريع بصعوبة التوصُّل لتسوية نهائية للنزاع في خلال المستقبل القريب.

 

وعقب رفض الجيش الانضمام لمباحثات جنيف، حاولت قوات الدعم السريع تكثيف الضغوط عليه، بغرض دفعه للاستجابة لمطالبها التفاوضية الخاصة بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، واستبعاد عناصر الحركة الإسلامية منها، وهددت أيضاً بتشكيل حكومة من طرف واحد في أماكن سيطرتها، في حالة عدم استجابة الجيش لدعوات التفاوض. ودُعِّم موقف الدعم السريع سياسياً، بقيام بعض القوى والشخصيات السياسية السودانية، بمن فيهم قيادات تنسيقية تقدُّم، بتحميل الجيش السوداني مسؤولية استمرار الحرب.

 

اقرأ المزيد من تحليلات «سمير رمزي»:

 

موقف أطراف عملية جنيف

في ظل عدم استجابة الجيش لدعوات المشاركة في المباحثات، سعى أطراف عملية جنيف إلى تنويع خياراتهم المستقبلية في التعامل مع تطورات النزاع السوداني، وحرص المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريللو على إبقاء الباب مفتوحاً أمام الجيش للانضمام للمفاوضات، إذ أكَّد أنه سيتواصل مجدداً مع قائد الجيش عبد الفتاح البُرهان، وألمح إلى تسبُّب عناصر الحركة الإسلامية بالسودان في عدم مشاركة الجيش بالمباحثات، مُشيراً إلى تمتُّعها بعلاقة جيدة مع الجيش. واتسقت تصريحات بيريللو مع حرص عدد من أطراف عملية جنيف على عدم توتير العلاقة بين واشنطن والجيش السوداني، فقد عملت القاهرة والرياض في شكل منفصل على تقريب وجهات النظر بين الجانبين، وقوبلت محاولاتهم باستجابة نسبية من جانب الجيش السوداني، الذي أرسل وفداً للسعودية للقاء المبعوث الأمريكي، والتباحُث معه حول الإطار السياسي لمباحثات جنيف. ويبدو أن الرياض قد دَعَّمَت مساعي التقارُب بين الجيش السوداني وواشنطن حرصاً على عدم انهيار منبر جدة التفاوضي، فيما تعذَّر عقد لقاء مماثل في القاهرة لأسباب “بروتوكولية“، وفق ما صرَّح به الجانب الأمريكي. وأشار مجمل هذه التحركات إلى حرص أطراف مجموعة جنيف على الإبقاء على خطوط اتصال مع الجيش السوداني، باعتبارها وسيلة لإثنائه عن تعميق مستوى تقاربه مع كلٍ من موسكو وطهران.

 

بموازاة مساعي استمالة الجيش، حرصت أطراف جنيف على التلويح باستخدام بعض الأوراق ضد الأخير إذا لم يستجب لدعواتها، وأكَّد المبعوث الأمريكي دراسة بلاده دعم خيار حظر توريد السلاح إلى السودان. وارتفعت مصداقية تهديدات بيريللو، بالنظر لاحتواء إطار جنيف على عدد من الأطراف التي تملك الأدوات القانونية والعسكرية الملائمة لتفعيل مثل هذا الخيار، إذ تضم المبادرة منظمة الإيقاد إلى جانب الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وسبق أن اقترح بعض أعضاء الإيقاد تطبيق حظر طيران في السودان لمنع سقوط ضحايا من المدنيين، واتفق هذا المقترح مع مصالح قوات الدعم السريع، بسبب عدم امتلاكها لطائرات حربية، على عكس الجيش. بيد أن التوجهات الأمريكية الرامية إلى استخدام إطار جنيف في الضغط على الجيش السوداني قد تفتقر إلى الدعم الإقليمي الواسع؛ فالرياض تميل للإبقاء على منبر جدة بوصفه إطاراً تفاوضياً، بينما تُفضِّل القاهرة تفادي أي خطوات قد تقود إلى توسيع نفوذ أعضاء منظمة الإيقاد بالسودان، من منطلق أن أديس أبابا تتمتع بنفوذ قوي بداخل المُنظّمة، وتتسم علاقتها الراهنة بالقاهرة بقدرٍ عالٍ من التنافس.

 

سعى أطراف عملية جنيف إلى تنويع خياراتهم المستقبلية في التعامل مع تطورات النزاع السوداني (AFP)

 

آفاق ما بعد جنيف: السيناريوهات المستقبلية للنزاع السوداني

بناء على ما سبق، يُمكن استنتاج ثلاثة عوامل رئيسة قد تؤثر في مستقبل النزاع السوداني: أولها، تطورات المواجهات العسكرية بين الجيش والدعم السريع؛ وثانيها، مستقبل التقارب بين الجيش السوداني وكلٍّ من موسكو وطهران؛ وثالثها، سلوك أطراف عملية جنيف حيال النزاع السوداني. ويمكن في ضوء ذلك استشراف ثلاثة سيناريوهات قد تحكم تطورات النزاع السوداني في خلال المستقبل القريب، وذلك على النحو الآتي:

 

السيناريو الأول: تصاعُد المواجهات العسكرية، وتكريس ازدواجية السُلطة. تشير الحسابات العسكرية لطرفيّ النزاع إلى ارتفاع احتمالات تصاعُد المواجهات المُسلَّحة في خلال المرحلة المقبلة، إذ يملك الجيش رغبة في تعديل خريطة السيطرة الميدانية، بينما يعد في صالح الدعم السريع العمل على فرض السيطرة الكاملة على إقليم دارفور، وحصار مناطق الجيش في ولاية البحر الأحمر، وربما مهاجمة قواعده بالولاية في وقت لاحق.

 

ويُعزز هذا السيناريو من فُرص تحوّل النزاع السوداني إلى نمط الحرب بالوكالة، في ظل تصاعُد حِدة التنافُس بين موسكو وطهران من جهة، وواشنطن من جهة أخرى. كما يفتح هذا السيناريو الباب أمام تكريس حالة من ازدواجية السُلطة في السودان، إذ يُمهِّد لإعلان الدعم السريع حكومة من طرف واحد، قد تلقى قبولاً من جانب واشنطن وأطراف أخرى. ومع أن هذا السيناريو لا يبدو مُرجَّحاً في المستقبل القريب، نظراً للمخاطر العالية التي ينطوي عليها، لكن من غير المُستبعد أن ينزلق إليه السودان نتيجة حدوث حسابات خاطئة من جانب أيٍ من طرفيّ القتال.

 

السيناريو الثاني: توقيع اتفاق وقف للأعمال العدائية بين طرفي النزاع. مع أن الجيش السوداني يرفض في المرحلة الحالية توقيع اتفاق لوقف الأعمال العدائية، فإن موقفه قد يتغير مستقبلاً، لاسيما في حالة حدوث تراجُع نسبي في سيطرته على ولاية البحر الأحمر، أو في حال توصُّله لتوافقات تفاوضية مع قوات الدعم السريع. ويُعزز هذا السيناريو من فرص حلحلة النزاع السوداني، لكن شروط حدوثه مرهونة بنجاح أطراف عملية جنيف في إيجاد صيغة توافقية بين طرفيّ النزاع، تزامناً مع عدم قيام الجيش بتعزيز تعاونه العسكري مع موسكو وطهران.

 

غير أن هذا السيناريو يعد ضعيف الاحتمال حالياً بسبب رغبة الجيش في تحسين وضعيته العسكرية، كما يؤدي قُرب موعد الانتخابات الأمريكية دوراً في تخفيض فُرص التوصُّل لأي تسوية نهائية للنزاع في خلال المستقبل القريب.

 

السيناريو الثالث: التجميد السياسي النسبي للنزاع. ويرتكز هذا السيناريو إلى عمل الأطراف الإقليمية، عضوة مسار جنيف، على تفادي سيناريو التصعيد العسكري والسياسي في السودان، نظراً لما قد ينتج عنه من تداعيات قد تُعَظِّم نفوذ أطراف دولية وإقليمية مُنافِسة لها، وتَضُر بالأمن الإقليمي. ومن جانبه، قد يميل الجيش السوداني إلى محاولة توسيع نطاق سيطرته في الخرطوم، وضمان عدم سقوط الفاشر والبحر الأحمر في أيدي الدعم السريع، لكن مع عدم تعميق تعاونه العسكري مع موسكو وطهران، وذلك بهدف عدم توتير علاقته بواشنطن، وللحيلولة دون دفعها نحو تعزيز علاقتها بقوات الدعم السريع.

 

ويعد هذا السيناريو الأكثر احتمالاً وقابلية للتحقق، إذ إنَّه يحفظ لطرفيّ القتال بعض الأوراق التفاوضية، لحين وصول إدارة أمريكية جديدة إلى البيت الأبيض في يناير 2025. ويسمح أيضاً لأطراف جنيف بمواصلة العمل على تحسين الأوضاع الإنسانية في السودان. وفي ظل هذا السيناريو من المتوقع أن تشهد الخريطة العسكرية للنزاع بعض التغييرات غير الكبيرة، كما قد يتجه الجيش السوداني إلى التصعيد، إذا ما تأكَّد من أن تعزيز تعاونه العسكري مع موسكو وطهران لن يؤثر في علاقته بواشنطن والرياض.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/altadaeiat-almuhtamala-ltethur-mubahathat-jinif-ala-mustaqbal-alnizae-alsuwdani

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M