{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}.
هو واحدٌ من أَسباب المشاكل المُستدامة في الجماعةِ والتي تسبِّب النِّزاعات التي تنتهي بالإِنشقاقات.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَعِ الْمِرَاءَ} و {فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ}.
ينبغي أَن ننتبهَ إِلى حقيقةٍ في غايةِ الأَهميَّة وهي؛ أَنَّ بعض الخِلافات تحتاجُ إِلى وقتٍ لحلِّها، وهذا طبعاً يختلفُ عن التَّرحيل {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ} فبينما تعني الحالةِ الأُولى السَّعي بهدوءٍ ورويَّة لإِيجادِ الحلُولِ المُمكنة لخلافٍ ما تعني الحالة الثَّانية الهرُوب منها إِلى الأَمام كما يقولُونَ {حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ}.
إِنَّ الإِستعجال أَحياناً في التَّعامُل مع خلافٍ ما يتسبَّب بتفاقمهِ ورُبَّما بانفجارهِ نِزاعاً لا يُحمَدُ عقباه.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {مِنَ الْخُرْقِ الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، وَالْأَنَاةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ}.
فقد يحتاجُ الحل إِلى التكتُّم على بعضِ الأَسرار، أَو إِلى الإِستشارةِ من خارجِ الجماعة أَو إِلى عواملَ مُساعدة تُساهم في إِيجادِ الحلِّ {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} أَو إِلى تنازُلٍ لا يستوعب ضرورتهُ البعض أَو يفهمهُ هزيمةً [مثلما حصلَ لحظة توقيع صُلح الحُديبيَّة وعَودة رسول الله (ص) والمسلمين إِلى مكَّة ولم يحجُّوا البيت العتيق في ذلكَ العام] وهذا أَمرٌ خطيرٌ يحرِّض على العَناد والتمسُّك بالموقفِ من دونِ التَّفكير بإِمكانيَّة اللِّقاء في مُنتصف الطَّريق كحلٍّ للخلافِ.
وهكذا.
وكلُّ هذا يحتاجُ إِلى وقتٍ قد لا يستوعب أَهميَّتهُ كثيرُون.
إِنَّ اللَّجاجة والمُلاحاة والسُّؤَال في غيرِ وقتهِ والإِستعجال كُلُّها أَسباب تُدمِّر مساعي الحلُول المُتأَنِّية، ولذلكَ حذَّر منها ونبَّهَ لها القُرآن الكريم بقولهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
فليسَ كُلُّ النَّاسِ قدُراتهُم في الإِستيعابِ والفَهمِ واحدة.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ}.
أَكثرُ من هذا فهُناكَ خلافاتٌ قد لا تجدَ لها حلّاً في الدُّنيا أَبداً كالخلافاتِ الدينيَّةِ والمذهبيَّةِ والتاريخيَّةِ، فالإِلحاحُ عليها بطريقةٍ تعسُّفيَّةٍ يُدمِّرُ المُجتمع ويُمزِّقهُ طرائِقَ قِدَداً.
ولعلَّ نظرةً مُتأَنِّيةً لحالِ مُجتمعاتِنا تُنبِّئكَ عن ذلكَ!.
أَمَّا القُرآن الكريم فيقولُ {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ}.
وبالعودةِ إِلى الآيةِ الكريمةِ التي صدَّرنا بها المقال فإِنَّها تُنبِّهنا إِلى أَمرٍ يلزم أَن لا نغفلَ عنهُ أَبداً أَلا وهوَ؛ أَنَّ [الشَّياطين] هُم الذين يحرِّضونَ على الإِستعجال في حلِّ بعض الخِلافات المُعقَّدة من خلالِ التَّحريضِ على [الجِدال] [الإِلحاح] ليتصيَّدونَ بالماءِ العكِر، فيستغلُّونَ الفَجوة الفكريَّة والعاطفيَّة التي يُحدثها الإِلحاح والإِستعجال عادةً.
كُلُّنا يُصادف الكثير من النَّاس الذين يندمُونَ على قرارِ إِنهاءِ خلافاتهِم [علاقاتهِم] مع الشَّريك بسببِ لحظةِ عصبيَّة [تافِهة] أَو إِلحاحٍ واستعجالٍ زائدٍ عن اللَّازم، ويقولُون؛ لَو منحنا أَنفُسنا المزيد من الوقتِ لما حصلَ الذي حصلَ من نزاعٍ وتفرُّقٍ وتمزُّق.
خاصَّةً على الصَّعيدِ الأُسَري والعائلي، فالكثير من حالاتِ الطَّلاق تقعُ بسببِ العجلةِ والإِلحاحِ في إِيجادِ الحلولِ وأَحيانا بما يخصُّ خلافاتٍ تافهةٍ، كان يمكنُ أَن يجِدا لها حلًّا إِذا تأَنَّيا ومنحا أَنفسهُما بعضَ الوقتِ أَو أَجازا لآخرين التدخُّل بتأَنِّي وإِيجابيَّة للبحثِ في الحلولِ.
يلزم أَن نتعلَّم فن التَّهدئة عندما نقع في خلافٍ ونُبعد العناصر التي تتبنَّى التَّصعيد بذريعةِ الإِستعجال في حلِّ الخلافِ، فكما قُلنا فليس كلَّ خلافٍ يُمكنُ حلَّهُ بسُرعةٍ وسهولةٍ، فلكلِّ خلافٍ طريقةٌ لحلِّه، ومدىً زمنيٍّ يستغرقهُ.
وفي ظلِّ مثلِ هذا النَّوع من الخِلافات تتشكَّل العِصابات الوصوليَّة التي تتحلَّق حول الزَّعيم، لضمانِ مصالحهِم الشخصيَّة.
ومن طبيعةِ هذه العِصابات أَنَّها تُحرِّض على الإِستعجال في حلِّ خلافٍ ما إِذا كانَ ذلكَ يحمي مصالحها، لإِثارةِ الأَزمات التي تجد نفسها فيها! والعكس هو الصَّحيح، فإِذا كان الحلُّ يُعرِّض مصالحها للخطرِ تراها تُشجِّع على التَّعايُش مع الخلافِ إِلى إِشعارٍ آخر.
إِنَّها تُحرِّض في الإِتِّجاهَين حسب الحاجةِ الخاصَّة ليس حُبّاً بوحدةِ الجماعة وخَوفاً على مصالحِها، وإِنَّما لحمايةِ مصالحِها الخاصَّة.
فإِذا كانَ الحلُّ يضرُّها [غلَّست] وكأَنَّها لم تسمع شيئاً {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٍۢ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ۚ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ}.
أَدواتهُم الخَوض في الخلافاتِ بالطَّريقةِ التي تُحقِّق مآربهُم فقط {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلْخَآئِضِينَ}.
روح الجماعة وعقليَّة الفريق
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
إِذا جمعنا هذهِ الآية المُباركة مع قولهِ تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} وقولهِ تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} فقد ترسمُ لنا الآيات ملامح أَحد أَخطر أَسباب الخلافات والنِّزاعات داخل الجماعة الواحِدة.
إِنَّهم نوعيَّة من النَّاس مُستعدُّون لحرقِ كلِّ شيءٍ وتدميرِ كُلِّ شيءٍ [النَّجاحات والإِنجازات والبناء] من أَجلِ حمايةِ [آلهتهِم] والمقصودُ بها [مصالحهم القائِمة على أَساس أَهواءهِم].
فإِذا لم يكُن هوَ فلا يكُونُ أَحدٌ! وإِذا لم يكُن [العجلُ] حاكُماً فليذهب كُلَّ شيءٍ إِلى لجحيمِ على قاعدةِ [أُقتلني ومالك] أَو [عليَّ وعلى أَعدائي] حتَّى إِذا اضطرَّ إِلى تدميرِ [٤ دُول] مثلاً لحمايةِ سُلطانهِ، فهو لا يرى أَيَّ إِشكالٍ شرعيٍّ أَو أَخلاقيٍّ أَو إِنسانيٍّ إِذا تخندقَ في سواترِ الآخرين فدمَّرها ليحمي طُغيانهُ!.
أَمَّا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فيقُولُ {وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ وَلَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي}.
وإِنَّ عِلَّة هذا النَّوع من النَّاس تتَّقد في نفُوسهِم عندما تتضخَّم المصالح الخاصَّة على حسابِ المصالحِ العامَّة للجماعة فتبدأ الخِلافات القاتِلة تدبُّ في الوسط.
ومن علاماتِ ذلك ما تصفهُ الآية المُباركة {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}.
إِنَّهم الذين يُوظِّفون الجماعة لتحقيقِ مصالحهِم وليس العكسَ.
والسَّببُ في ذلكَ هو انعدامِ روحِ الجماعة والفَريق وتغوُّل ظاهرةِ الأَنانيَّة التي تُميتُ الإِنصافَ وبالتَّالي يفقد المرء دينهُ وأَخلاقهُ وإِنسانيَّةُ من أَجل مصالحهِ الضيِّقةِ.
وتلكَ التي حذَّر منها أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في عهدِهِ للأَشترِ عندما ولَّاهُ مِصر {أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ،فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ أو يَتُوبَ}.
فإِذا كانت روح الجماعة وعقليَّة الفريق تُشجِّعُ على تسجيلِ النَّجاحات باسمِ المجموعة من دونِ أَن يعني ذلكَ بخسَ دَور الفرد في تحقيقهِا {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} فإِنَّ الأَنانيَّة تُصادر أَيَّ دَورٍ للآخرين مهما كبُر.
وفي أَحيانٍ كثيرةٍ يُصادِرُ [الزَّعيم] مُساهمات الآخرين ويسجِّلها باسمهِ ليُضخِّم دورهُ {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
وبالمُناسبةِ فإِنَّ هذا نفسهُ الذي يتحايل بكُلِّ الأَساليب لسرقةِ جهودِ وأَدوارِ الآخرين، هو نفسهُ يُغيِّب نفسهُ إِذا أُصيبت الجماعة بنكسةٍ أَو هزيمةٍ أَو فشل، إِذ يبدأ فوراً وبمُساعدةِ ذيولهِ وأَبواقهِ وذُبابهِ الأَليكتروني بالبحثِ عن كبشِ فداءٍ لتحميلهِ المسؤُوليَّة {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
إِنَّ تغوُّل حب الزَّعامة عند الأَشخاص يُنتجُ ذلكَ فإِذا صفَّقَ لهُ إِثنان ومدحهُ ثلاثة بما ليسَ فيهِ و [هوَّسَ] لهُ [مِهوال] [علي وياك علي] صدَّقَ بنفسهِ أَنَّهُ الزَّعيم الأَوحد والقائد الضَّرورة الذي لا تعيشُ الأُمَّة من دونهِ وأَنَّ [الدِّين] أَو [المذهب] في خطر إِذا غابَ هوَ عن المسرحِ قائلاً {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}.
لذلكَ يقترحُ استنساخهُ إِذا هلكَ حتى لا تخلو الأَرض من [عبقريَّتهِ] و [حكمتهِ]!.
واعتقدُ أَنَّنا لَو فكَّرنا بطريقةٍ أُخرى فسنتجاوز هذا المرض القاتل، فلو انشغلنا في البحثِ عن الأَساليبِ التي تُفجِّر وتصقل قُدُراتنا على تحقيقِ التَّأثيرِ والتَّغييرِ بنَّوعيَّة الجُهد المبذول والعمل المُنجز وليسَ بالكميَّة، وبطبيعةِ العمل وجوهرهِ الذي هو أَهم من عنوانهِ بِلا شكٍّ {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} لكانَ ذلكَ أَسلم.
يلزم أَن يُعطي المرء قيمةً لحياتهِ ليس بالمساحةِ التي يشغلها فقد تكونُ بالظُّلم والتعدِّي والتَّجاوز والمُصادرة، أَو قد تكُونُ وهميَّةً بالدِّعايةِ والإِعلام! وإِنَّما بالنَّجاحات والإِنجازات التي يلمسها المُجتمع أَثراً في تحسينِ حياتهِم ومعيشتهِم اليوميَّة.
ويلمسها [الوطن] إِستقراراً وتنميةً وتطوُّراً.
رابط المصدر: