محمد منصور
تثير التطورات الحالية في الملف الأوكراني بعض التساؤلات على المستوى الاستراتيجي، منها ما يتعلق بإمكانية توسع النزاع ليشمل مواجهة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة بين موسكو وحلف الناتو، والحديث هنا لا يقتصر فقط على مبدأ “الحرب الشاملة” الذي يمكن اعتبار الحربين العالمية الأولى والثانية من أبرز نماذجه، بل الحديث هنا هو عما تمتلكه موسكو من وسائط قتالية قرب مناطق سيطرة حلف الناتو، تسمح لها بهامش من المناورة ضد الحلف، الذي نأى بنفسه عن أي تدخل ميداني على الأرض في أوكرانيا، ولجأ إلى تعزيز وحداته الجوية والبرية في دول بحر البلطيق ودول أخرى مثل بولندا ورومانيا.
وهنا يجب الإشارة إلى أن “الاستهداف القريب” يمكن اعتباره مبدأ من مبادئ الردع، وإن كان غير مرتبط في هذه الحالة بالقدرات العسكرية غير التقليدية، التي يكون لها في حالات الحرب الشاملة دور أساسي، وهذا المبدأ كان بشكل أو بآخر جزءًا من العقيدة العسكرية الروسية المعاصرة، التي وإن حافظت على دور الصواريخ الاستراتيجية والقاذفات الثقيلة في معادلات الردع الخاصة بها، لكنها في الوقت نفسه اتجهت نحو تعزيز القوة البحرية الخفيفة، وتطوير الصواريخ الأسرع من الصوت بأنواعها المختلفة، بحيث تتوفر لقواتها مزايا تكتيكية تسمح بالرد السريع والمؤثر في حالات الضرورة الاستراتيجية.
الجبهة الشرقية للناتو
في هذا الصدد، وبالنظر إلى الوضع الحالي في أوكرانيا، تبرز أهمية منطقة “كالينجراد” الواقعة بين بولندا وليتوانيا على بحر البلطيق، حيث تحتفظ موسكو هناك بتشكيل مهم من الوسائط العسكرية المتنوعة، تتيح لها بشكل آني استهداف قواعد حلف الناتو في نطاق بحر البلطيق “أستونيا – لاتفيا – ليتوانيا”، بجانب دول أخرى مثل بولندا ورومانيا. أهمية هذه المنطقة تكمن أيضًا في أنها تحتوي على ميناء “بالتييسك” البحري، وهو الميناء الروسي “الدافئ” الوحيد، الذي لا تتجمد مياهه في فصل الشتاء، وهو القاعدة الأساسية لأسطول بحر البلطيق الروسي، ويضم هذا الأسطول 19 طرادًا صاروخيًا، منها خمسة تتسلح بصواريخ “كاليبر” الجوالة البالغ مداها 1500 كم. كما تعمل ضمن وحدات هذا الأسطول وحدات حرب إلكترونية متنوعة، يمكن من خلالها التشويش على اتصالات الوحدات التابعة لحلف الناتو، وتتسلح بعض هذه الوحدات بمنظومات الحرب الإلكترونية بعيدة المدى “مورمانسك – بي”.
يضاف إلى هذه الوحدات، تواجد ثلاثة تشكيلات صاروخية روسية في هذه المنطقة، التشكيل الأول هو لواء الصواريخ 152، الذي يتسلح بصواريخ “إسكندر- أم” الباليستية، التي يصل مداها إلى 500 كم، علمًا أنه يمكن تجهيزها برؤوس نووية تبلغ قوتها 50 كيلو طن، ويستطيع هذا اللواء إطلاق نحو 24 صاروخًا من هذا النوع بشكل متزامن. هذا اللواء يتكامل مع لواء الصواريخ الساحلية 45، الذي يتسلح بصواريخ “باستيون” الأسرع من الصوت المضادة للقطع البحرية.
على المستوى الجوي، تمتلك موسكو في هذه المنطقة، فوج الطيران البحري الرابع، المكون من قاذفات سوخوي-24 وسوخوي-30، بجانب فوج المروحيات 396، المكون من المروحيات القتالية مي-24 والمروحيات المضادة للغواصات كا-27، لكن تم تعزيز هذه القوة الجوية مؤخرًا بمقاتلات “ميج-31” المسلحة بصواريخ “كينزال” الأسرع من الصوت، والتي يبلغ مداها الأقصى نحو 2000 كم، وتمثل سلاحًا أساسيًا يمكن من خلاله تهديد قواعد حلف الناتو في شرق أوروبا.
مزيد من التوتر محتمل
عززت روسيا تموضعها القتالي المتحفز في جبهة أخرى قريبة نظريًا لحلف الناتو، ألا وهي جبهة شرق المتوسط – سوريا، حيث قامت موسكو بتعزيز وحداتها العسكرية في سوريا، بوسائط قادرة على تهديد التحركات العسكرية لحلف الناتو في البحر المتوسط، فقد كانت القاعدة البحرية الروسية في طرطوس تضم منظومات “باستيون” المضادة للقطع البحرية، لكن أرسلت موسكو مؤخرًا إلى سوريا عددًا من مقاتلات “ميج-31” الحاملة لصواريخ “كينزال”، وكذلك تمركز هو الثاني من نوعه للقاذفات الاستراتيجية “توبوليف-22 إم3″، التي تتسلح بصواريخ “كي إتش-22”.
هنا لا بد من ذكر أن موسكو بدأت في تفعيل تواجدها في مناطق التواجد الجوي الغربي شرق الفرات في سوريا، بشكل يجعل من اليسير عليها استهداف هذا التواجد، حيث تم رصد تمركز مقاتلة روسية واحدة على الأقل من نوع “سوخوي-35” في مطار القامشلي شمال شرق سوريا للمرة الأولى في أكتوبر الماضي، بعد أن ظل استخدام هذا المطار مقتصرًا على نشاط طائرات النقل والمروحيات الروسية. كذلك شوهدت في يناير الماضي، أربع مقاتلات روسية من نوع “ميج-29” في قاعدة “التيفور” الجوية، وهو أمر لافت بالنظر إلى أن التواجد الجوي الروسي في هذه القاعدة كان يقتصر على قاذفات “سوخوي-25” والمروحيات القتالية.
ويضاف هذا إلى إطلاق سلاح الجو الروسي مؤخرًا للدوريات الجوية المشتركة مع سلاح الجو السوري، وشمول هذه الدوريات التي تضمنت مشاركة مقاتلات “ميج-29″ و”ميج-23” السورية، ومقاتلات “سوخوي-35” وقاذفات “سوخوي-34″، نطاقًا واسعًا بداية من خط فض الاشتباك في الجولان المحتل، وصولًا إلى الحدود الشمالية والجنوبية لسوريا.
وعلى المستوى البحري، يبدو من الموقف الحالي في شرق المتوسط أن التواجد البحري الروسي يبدو مركزًا على بحر آزوف والبحر الأسود -بالنظر إلى التطورات في أوكرانيا- حيث دخل إلى بحر أزوف مؤخرًا عشر قطع بحرية روسية كانت تنفذ مناوراتها في البحر المتوسط، وهي تابعة لأسطول بحر الشمال وبحر البلطيق. لكن ما زالت موسكو في البحر المتوسط -قرب المجموعة البحرية الأمريكية في كرواتيا- بالطراد الصاروخي الثقيل “المارشال أوستينوف”، بجانب غواصتين على الأقل، بجانب طراد ومدمرة تتمركزان في سوريا وتعملان في البحر المتوسط.
القطب الشمالي يبدو في هذا الإطار مسرحًا مهمًا لمعادلة الردع الروسية في مثل هذه الظروف، فقد بدأ الجيش الروسي منذ عام 2013، في تقييم حالة المنشآت العسكرية التابعة له في القطب الشمالي، من أجل تحديثها وإدامة تمركز أسلحة نوعية بها، وقد سرعت موسكو هذه العملية بشكل واضح منذ أوائل العام الماضي، حيث بدأت في إعادة تأهيل المنشآت العسكرية والمطارات والموانئ التي أنشأها الاتحاد السوفيتي السابق في مناطق سيطرته في هذه المنطقة، وأضافت إليها منذ ذلك التوقيت ما يقرب من 16 ميناء ونقطة تمركز بحرية، ونحو 500 موقع عسكري جديد. ومن أهم القدرات العسكرية الروسية الموجودة في هذا النطاق، المقاتلات الاعتراضية “ميج-31″، المتمركزة في قاعدة “روجاتشيفو” الجوية في أرخبيل “نوفايا زيمليا”، وتمركز بطاريات منظومة “إس-400” للدفاع الجوي بعيد المدى داخل نفس القاعدة، التي تعتبر الثالثة في القطب الشمالي، بعد قاعدة “ناغورسكوي” الجوية في جزيرة “ألكسندرا” الواقعة شمال شرق بحر بارنتس، وقاعدة “تيمب” الجوية في جزيرة “كوتيلني”.
هذه التعزيزات تضاف إلى التواجد البحري العسكري متعدد الأوجه الذي ضخته روسيا في هذه المنطقة، منذ أن دشنت عام 2014 مركز قيادة استراتيجية مخصص لإدارة التواجد العسكري الروسي في القطب الشمالي، وفعلت بشكل كبير مواضع لتمركز أسطول بحر الشمال في شبه جزيرة “كولا”، حيث خضعت المنشآت البحرية في شبه الجزيرة لعمليات تحديث مكثفة خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك توسيع قاعدة “جادجييفو” للغواصات، والمرافق التابعة لأسطول الشمال الروسي في خليج “أوكولنايا” ومنطقة “بولشوي”، وقاعدة “سيفرومورسك -1” الجوية، علمًا أن شبه جزيرة كولا تحتضن موقع اختبار للصواريخ الاستراتيجية يسمى “بليستيك”، يحتمل أن تتواجد فيه أعداد غير محددة من الصواريخ الباليستية القابلة للإطلاق.
يضاف إلى ما سبق، نشر موسكو صواريخ مضادة للقطع البحرية من نوع “باستيون” ومنظومات الدفاع الجوي قصير المدى “بانتسير”، في عدة مناطق بالقطب الشمالي، منها أرخبيل “نوفايا زيميليا” وجزيرة “كوتيلني”، بجانب منظومات الرادار “سوبكا-2” التي تم نشرها في جزيرة “رانجلر”، التي تقع على بعد 400 كم من ألاسكا. النقطة الأهم فيما يتعلق بالقدرات العسكرية لروسيا في القطب الشمالي، تتمثل في امتلاك أسطول الشمال الروسي أكبر عدد من كاسحات الجليد -سواء كانت نووية أو غير نووية- على مستوى العالم، حيث يمتلك ما يناهز 40 سفينة، في حين تمتلك كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا نحو عشر سفن فقط، وهو ما يسمح لموسكو بحرية الحركة في الممرات الملاحية المتجمدة للمحيط القطبي الشمالي، خاصة الممر الملاحي الشمالي الغربي، وهذا يحظى بأهمية مضاعفة، في حالة ما إذا وضعنا في الاعتبار أن بعض كاسحات الجليد الروسية، مزودة بمعدات قتالية تشمل صواريخ مضادة للقطع البحرية وأنظمة الحرب الإلكترونية، يمكن من خلالها تهديد أنشطة حلف الناتو في القطب الشمالي.
وفي التقدير وبالنظر إلى أن موسكو أرسلت في نوفمبر الماضي، صواريخ “باستيون” المضادة للقطع البحرية إلى جزيرة “ماتوا” شمال غرب المحيط الهادئ، يمكن القول إن التحرك العسكري الروسي الحالي في شرق أوروبا، يضع في الاعتبار إمكانية الاشتباك في جبهات أخرى مع حلف الناتو، ليس من ضمنها بالضرورة المسرح الأوروبي، وهو ما يزيد من الأهمية الجيواستراتيجية للقواعد والتواجد العسكري الروسي حول العالم. ورغم أن روسيا تدرك أن الحلف لن يشارك بقواته في أوكرانيا؛ فإنها تعزز من قدرتها على الردع وتؤكد أنها لن تتراجع عن أهدافها في أوكرانيا.
.
رابط المصدر: