زلزال سياسي يهز أركان السلطة الأميركية

استيقظ الأميركيون صبيحة السادس من نوفمبر على زلزال سياسي هز أركان المألوف وخالف كل التوقعات والاستطلاعات. فلم يكن في حسابات الديمقراطيين ولا في أحلام الجمهوريين أن يحقق المرشح الجمهوري دونالد ترمب هذا الانتصار الكاسح ولا أن تُمنى منافسته الديمقراطية كامالا هاريس بهذه الهزيمة.

سابقة تاريخية يسجلها هذا الفوز لترمب الذي يعد أول رئيس أميركي يعود إلى البيت الأبيض بعد أن شغله آخر لولاية كاملة. كما أنه أول رئيس يتولى الرئاسة وهو يحمل لقب “مجرم مدان” خضع لتحقيقين بالكونغرس، وأول مرشح رئاسي جمهوري يكتسح الأصوات الشعبية منذ عشرين عاما. كما حقق رقما قياسيا في المجمع الانتخابي الذي حصل فيه على 312 صوتا، من بينها جميع أصوات الولايات المتأرجحة السبع، مقابل 226 لهاريس.

كما حصد الجمهوريون مقعدين إضافيين في مجلس الشيوخ ليضمنوا الأغلبية، فيما يمضون قدما نحو تعزيز أغلبيتهم في مجلس النواب.

ويعكف ترمب حاليا على تشكيل إدارته المؤلفة من 15 وزيرا ستجري في الغالب الموافقة عليهم دون عائق من قبل مجلس الشيوخ الجمهوري الجديد بعد أن يؤدي الرئيس اليمين الدستورية في 20 يناير/كانون الثاني القادم.

 

ذهبت 17 في المئة من أصوات السود لترمب، ومعها 42 في المئة من أصوات ذوي الأصول اللاتينية، علاوة على 55 في المئة من أصوات البيض، و62 في المئة من أصوات قاطني الريف

 

 

ورغم نشوة الانتصار التي يعيشها ترمب والجمهوريون، فإن الصورة ليست مشرقة تماما، إذ لا يزال هناك الكثير من الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الرئيس المنتخب لم تحسم بعد. من بين هذه القضايا دعوى الرشوة الانتخابية التي دفعها ترمب للممثلة الإباحية ستورمي دانيلز وأدين فيها بأربع وثلاثين تهمة. ومن المقرر إصدار الحكم فيها في 26 من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. ويدفع فريق الدفاع عن ترمب بأن الدستور يحول دون اتخاذ أي إجراء يعوق الرئيس عن أداء مهامه ويطالبون بإسقاط كل الاتهامات والدعاوى الموجهة ضده. إلا أن خبراء يتوقعون أن تصدر أحكام قوية ضده على أن يتم إرجاء تنفيذها حتى بعد انتهاء ولايته.

ويرى كثيرون أن فوز ترمب المذهل ليس بفضل قوته بل بسبب ضعف بايدن وتلكؤه في الخروج من السباق حتى يوليو/تموز الماضي مما زاد من صعوبة إقناع الناخب بالمسار الجديد الذي ينتهجه الحزب، الذي أخفق هو الآخر في تجديد أساليب الخطاب. فالأهداف التي وضعها الحزب في صدر أولوياته لم تعد محل جذب للناخب الذي يضع في المقام الأول تحسين أوضاعه المعيشية وإنعاش الاقتصاد، ثم بعد ذلك تأتي القضايا الأخرى من حماية حقوق الإجهاض والديمقراطية وغيرها. فالاقتصاد يرتبط أيضا، حسب خطاب الجمهوريين، بملفات الهجرة والطاقة والتصنيع والرسوم الجمركية. وهذا ما جعل شرائح عديدة اعتادت التحالف مع الديمقراطيين في السابق تصوت هذه المرة للجمهوريين. ومن ثم، ذهبت 17 في المئة من أصوات السود لترمب، ومعها 42 في المئة من أصوات ذوي الأصول اللاتينية، علاوة على 55 في المئة من أصوات البيض، و62 في المئة من أصوات قاطني الريف. في المقابل حصلت هاريس على 83 في المئة من أصوات السود،  مقابل 91 في المئة لبايدن في الانتخابات السابقة التي لم يحرز فيها ترمب أكثر من 8 في المئة من أصواتهم. أما اللاتين فأيدوا هاريس بنسبة 53 في المئة مقابل 63 في المئة لبايدن في الانتخابات السابقة.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال إلقائه خطاب النصر في بالم بيتش بولاية فلوريدا، في 6 نوفمبر 

وفي خطابه الذي تلى إعلان فوزه في بنسلفانيا التي تمثل درة تاج الولايات المتأرجحة، تعهد ترمب بأن يجعل أميركا عظيمة مرة أخرى وأن يعمل على “تضميد جراح الوطن”. ترمب الذي حصد حوالي 73 مليون صوت مقابل 68 مليونا لهاريس، أكد أن “الوقت حان لنبذ الفرقة والخلافات”، في حين حثت هاريس أنصارها في خطاب التسليم بالهزيمة الذي تأخر حتى مساء الأربعاء على عدم اليأس وعلى مواصلة النضال من أجل الأهداف التي كافحوا من أجلها، لاسيما حماية الديمقراطية وحقوق المرأة في الإجهاض.

وفور إعلان فوز ترمب، قفزت أسعار الأسهم إلى مستويات قياسية، وزادت قوة الدولار ومعها قيمة السندات الأميركية بعد أن تنفست الأسواق الصعداء مع انتهاء الانتخابات بسلام واستشراف المستثمرين لمزيد من الإنفاق الحكومي، وتخفيف اللوائح المنظمة للتعاملات وزيادة النمو في ظل إدارة ترمب المزمعة وسيطرة الجمهوريين على الكونغرس.

 

يتبنى ترمب نهجا سلبيا إزاء القضية الفلسطينية يتمثل في الدعم الكامل لإسرائيل مع التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين دون الحديث عن منحهم الحق في إقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية كما يطالبون

 

 

ووفقا لوعود ترمب، فإنه سيبدأ عهده الجديد بترحيل الملايين من المهاجرين غير القانونيين، وهو الأمر الذي تعثر فيه في ولايته الأولى بسبب التشريعات المقيدة لذلك. أما هذه المرة، فسيمكنه، بفضل الأغلبية الجمهورية في مجلسي الشيوخ والنواب، تنفيذ برامجه للتعامل مع أكثر من 11 مليون مهاجر غير شرعي في البلاد، رغم أنه لم يكشف عن خططه في هذ الصدد.

وقد يضطر ترمب إلى اللجوء للأوامر التنفيذية كما فعل في ولايته الأولى للالتفاف على القوانين واللوائح التي تحمي المهاجرين، بل قد يفعل مواد كانت تستخدم في اعتقال اليابانيين والألمان والإيطاليين إبان الحرب العالمية الثانية. كما سيحتاج إلى الاستعانة بأعداد هائلة من الشرطة والحرس الوطني لضبط المهاجرين المخالفين. هذا بالإضافة إلى ما أعلنته حملته من أنه قد يقدم على ترحيل كل المؤيدين لحركة “حماس” ويفرض الأمن والتطهير على حرم الجامعات.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

أنصار ترامب يتفاعلون مع ظهور النتائج في حفل جمهوري بفندق إنجليسايد في بيووكي بولاية ويسكونسن في 6 نوفمبر 

وكان ترمب قد تعهد للعرب الأميركيين في ميشيغان بوقف الحرب في غزة وأوكرانيا، وهو ما أثمر عن حصوله على 42 في المئة من أصواتهم في هذه الولاية مقابل 36 في المئة لهاريس بينما قدر ما حصل عليه بايدن من أصواتهم في انتخابات 2020 بحوالي 70 في المئة.

ويتبنى ترمب نهجا سلبيا إزاء القضية الفلسطينية يتمثل في الدعم الكامل لإسرائيل مع التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين دون الحديث عن منحهم الحق في إقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية كما يطالبون.

وفي ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، تعهد ترمب بوقفها فور توليه وقال إنه لن يلتزم بتقديم مزيد من المساعدات لها بعد أن  حصلت من إدارة بايدن على مساعدات عسكرية تقدر بحوالي 170 مليار دولار. ولهذا سارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إلى الاتصال بترمب حتى قبل الإعلان عن فوزه ببنسلفانيا. وقال زيلنسكي في بيان له إنهما اتفقا على مواصلة الحوار والدفع بمزيد من التعاون، مؤكدا أن القيادة الأميركية القوية ضرورية للعالم وللسلام العادل. وكان ترمب قد أقام علاقات ودية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال ولايته الأولى، إلا أنه فرض عقوبات على موسكو في أعقاب إعلان ضمها إقليم القرم وأعلن انسحابه من معاهدة الصواريخ النووية الموقعة مع روسيا. ويطالب ترمب الدول الأوروبية يزيادة مساهماتها في الدفاع عن أوروبا.

ولم يتلق ترمب اتصالا من قبل الرئيس الروسي لتهنئته رغم تعهده بإنهاء الحرب فور توليه مهام منصبه رسميا، وهو ماقد يتضمن التنازل لروسيا عن أراض أوكرانية تحتلها.

على صعيد التجارة حمل ترمب نظام التجارة العالمية المسؤولية عن العجز التجاري الكبير للولايات المتحدة، والتراجع في التصنيع وتصدير الوظائف الأميركية.

 

فيما يشكل ترمب حكومته، ينكب الديمقراطيون على أنفسهم للنظر في أسباب هذه الهزيمة الساحقة التي يلقي فيها الكثيرون بالمسؤولية على بايدن

 

 

ويتعهد الجمهوريون بجعل الولايات المتحدة أكبر قوة صناعية عظمى. كما وعد ترمب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على الواردات الصينية، وحظر الاستثمار الأميركي في الصين، ومنع الصين من شراء أي أصول أميركية، وإلغاء وضع الأفضلية التجارية الممنوح لبكين. كما هدد بفرض تعريفة جمركية إضافية على الدول التي تحاول البحث عن بديل للدولار. ويعتبر ترمب أن معاهدة التجارة الحرة مع المكسيك وكندا من أسوأ الاتفاقيات التجارية، ووصف منظمة التجارة العالمية بأنها كارثة وتوعد بالانسحاب منها.

وقال ترمب إنه سيعيد تقييم دور واشنطن في حلف “الناتو” وسيبحث تقليص مساهماتها له بشكل كبير. ونقل عنه خلال ولايته الأولى أن “حلف الناتو قد مات”، وهدد مرارًا بالانسحاب منه. ويعترض ترمب على البند الخامس من ميثاق الحلف والذي يقضي بأن أي اعتداء على أي من أعضائه يعد اعتداء على جميع دول الحلف. وزعم أن دول “الناتو” تستغل الولايات المتحدة مالياً من خلال رفضها الوفاء بشرط إنفاق أعضائه ما لا يقل عن اثنين في المئة من إجمالي ناتجهم المحلي على الدفاع.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس يشاهدان عرض الألعاب النارية في ذكرى الاستقلال من البيت الابيض في 4 يوليو 2024 

وفيما يشكل ترمب حكومته، ينكب الديمقراطيون على أنفسهم للنظر في أسباب هذه الهزيمة الساحقة التي يلقي فيها الكثيرون بالمسؤولية على بايدن. بيد أن الأخير أشاد بقوة وشجاعة ونزاهة هاريس، مذكرا بأن الكثير من حكومات العالم قد أطيح بها بسبب تداعيات كوفيد. ومن جهة أخرى يعتقد البعض أن هاريس لم تقدم للناس نموذجا مختلفا عن بايدن، وأنها اختارت خوض حملتها باعتبارها امتدادا له ولأجندته. بيد أن ثمة كثيرين ما زالوا يتساءلون: “كيف لأميركا أن ترفض انتخاب سيدة قوية، وتختار بدلا من ذلك مجرما مدانا ومتهما بالاغتصاب؟”.

وسط هذه التساؤلات، يعاني الحزب الديمقراطي من غياب القيادة بعد أن تمت تنحية بايدن فعليا، وخسرت هاريس الانتخابات، وفقد تشاك شومر أغلبيته في مجلس الشيوخ، ولم تختبر بعد قدرات زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفري. وسيظل الديمقراطيون يتجرعون مرارة الهزيمة، لكنهم بالأحرى في حاجة إلى الشروع في تجديد دماء الحزب والدفع بشبابه إلى الصفوف الأولى، وتخفيف قبضة الحرس القديم وكبح جماح الأجندات المفرطة في ليبراليتها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M