النسخة الرقمية لعناصر التركيب الاجتماعي ونشاطه وتفاعلاته، المنبثَّة في فَلَك الويب، نسخة بات يرصدها الجميع ويشارك في تجلياتها المختلفة وسط حالةٍ من التواقت المثير، المُحْدِثَةِ للاستقطاب. لقد عزَّزت هذه الوضعية من تجذُّر البنية التكنوثقافية للمجتمع السيبراني الذي تزايد عدد المستخدمين فيه للإنترنت، بدوافع مختلفة تُجسِّم ما كان يردده رولان بارت (Roland Barthes) في سبعينات القرن الماضي من أنه سواء أحب ذلك أم لا، فإنه يسير في دائرة تبادل وتواصل (1). كما أحدثت هذه الوضعية نوعًا من الإدمان الإلكتروني في عديد الأوساط الاجتماعية يُعرف بإدمان الإنترنت (Internet Addiction Disorder) (2 والذي تسبَّب في ظهور حالات مرضية واضطرابات سلوكية أصبحت منتشرة بمختلف المجتمعات في العالم. ويُشبِه هذا الإدمان إلى حدٍّ كبير الإدمان على الكحول والمخدرات، بل إنه يلوح أكثر خطورة من ذلك إذا أخذنا في الاعتبار تنامي نسبة المستخدمين للإنترنت التي بلغت مع نهاية 2017 ما يزيد عن أربعة مليارات مستخدم (3). ومكامن الخطورة في الموضوع يتبيَّنها الدارس والملاحظ في وفرة منصات التعارف ومنتديات الحوار وإنتاج التجارب الشخصية والسير الذاتية وبرامج الإثارة واللهو والجنس والجريمة، المتدفقة بقوة في الفضاء السيبراني بما يؤدي إلى بناء منعكسات شرطية لدى الكثير من المستخدمين تُغرِق أصحابها في دوامة الإقبال غير الإرادي على هذه المواقع. وقد يصعب الانسلاخ، بمرور الوقت، من منابع المتعة السيبرانية حيث استحالة التحكُّم في السلوك الهادف لإنتاج المتعة حسب تعبير أفيال جودمان (Aviel Goodman) (4 الذي يرى أن السعي لتحقيق المتعة إنما يسبقه شعور باستحالة مقاومة النبضات التي تقود إلى القيام بهذا السلوك، وإحساس بزيادة التوتر.
وبمقتضى الأطر الجديدة لهذه البيئة التكنوثقافية التي تغيرت فيها هندسة المجال العمومي الميدياتيكي، تحولت العقلانية التكنولوجية من أداة للسيطرة على الطبيعة إلى أداة للسيطرة على الإنسان بدل تحريره، ليظل ما يُسمِّيه هربرت ماركوز (Herbert Marcuse) بـ”القمع” مُسلَّطًا على الإنسان، لا على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فحسب، بل كذلك على المستوى النفسي. والواضح هنا، هو أن العقلانية التكنولوجية التي تَبيَّنها المفكرون العلميُّون مثل رينيه ديكارت (René Descartes) على أنها أداة الإنسان ليكون “سيد الطبيعة ومالكها” (5)، “انحرفت” عن وظيفتها لتتحول إلى معضلة في حياة الإنسان يلخصها هانز جوناس (Hans Jonas) في سَجعٍ بليغ يوضح فيه كيف أضحت العقلانية التكنولوجية تهديدًا حين تحولت من وَعدٍ (Promesse) إلى وعِيد (Menace) (6. ويُفسِّر جوناس هذا الوضع غير المسبوق بوجود سببين رئيسين: أما الأول فهو ديمغرافي ويرتبط بالنمو السريع لحاجات الإنسان البيولوجية الذي قد يؤدى إلى الكارثة، وأما الثاني فيتمثَّل في التطور النوعي لقدرات الإنسان العلمية والتكنولوجية حيث توغلت فتوحاته العلمية والتقنية لتطأ المستويات الخلوية والجزيئية. وبذلك أصبح الإنسان يمثِّل تهديدًا ليس فقط لنفسه بل للمحيط الحيوي بأكمله(7).
لقد نمت داخل هذه الأطر الجديدة أشكال من القبلية والعشائرية الإلكترونية، المحكومة ببارادايم العيش مع المثيل والشبيه، أشكال يحركها الميول والمشاعر المشتركة والرغبة في الانتماء إلى أكثر من مجموعة عاطفية. كما نمت ظاهرة الهويات الرقمية، المصطنعة والحقيقية، لتظل الممارسات التواصلية في الفضاء السيبراني تتحقَّق من وراء أقنعة، وقائمة على الصراع من أجل تحقيق الذات وصناعة الواقع. ولا يعدو أن يكون الصراع من أجل صناعة الواقع صراعًا لتشكيل الرأي العام حيث الحضور البارز لقوى الهيمنة في المجتمع التي أعادت إنتاج نسخ جديدة من الذباب الاجتماعي الذي ساد انتشاره أواخر القرن السابع عشر في نظام الملكية المطلقة لاحتواء الفكر المضاد وتوجيه الرأي العام بما يناسب الفاعلين في السلطة.
1. العشائر الإلكترونية
عندما كان جاك دريدا (Jacques Derrida) منغمسًا في البحث عن أدوات فكرية جديدة تقود إلى التحرر من التعارضات الثنائية التقليدية، لم يكن يَعلم أنه سيصبح رائدًا لمدرسة جديدة شعارها “التفكيكية” (Deconstructionism). وفي الوقت الذي توصل فيه دريدا إلى تطوير تقنية يمكن تطبيقها كوسيلة جديدة لقراءة النصوص كان جون فرانسوا ليوتار (Jean-Francois Lyotard)، قد أعلن نهاية السرديات الكبرى (les Grands Recits)، مثل الماركسية والفرويدية والوضعية والفينومينولوجيا والبنيوية(8)… لحساب تعدُّد “أيديولوجيات صغيرة” وصفها ميشال مافيزولي (Michel Maffesoli) بـ”العشائرية أو القبلية”(9)، ذلك أن العالم، في نظره، أصبحت تحكمه قيم جديدة قائمة على “نقض مفهوم التقدم التاريخي”، وعلى تشظِّي مُثُل العقلانية والليبرالية، المنبثَّة في العلم والسياسة والفن. وعلى حين بدأ خطاب النهايات يزدهر، في غضون عقد السبعينات من القرن الماضي، مبشِّرًا بفكر جديد يعمل لاحتواء ما يعتبره التفكيكيون تلوثًا تُحدثه التعارضات الثنائية(10) في مجالات الفن والفكر والثقافة، كان جان بودريار (Jean Boudrillard) يَصدَح بنهاية العالم الحديث، مقوِّضًا بذلك ركنًا أساسيًّا من أركان الفلسفة الماركسية، لأن بودريار يرى في مجال الاستهلاك(11) المجال المولِّد للاغتراب والتشيؤ خلافًا لما قام عليه الفكر الماركسي الذي يعتبر الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاتجاه الوحيد للتفسير الاجتماعي، والقوة المحرِّكة للتاريخ. ومجال الاستهلاك كما يتبيِّنه بودريار يسير جنبًا إلى جنب مع انتشار العلامات بل إنه مندمج كليًّا وعائم في محيطها.
ويمكن اعتبار نهاية “المركز” التي أعلنها دريدا، في بنائه الفلسفي لفلسفة التفكيك، من أهم ما ورد في خطاب النهايات، ومن أبرز الأعمال المعرفية التي تلخص ملامح الاتجاهات الفكرية لما بعد الحداثة، لأن التفكيكية، حسب قول دريدا(12)، تنشغل بما يُسمِّيه النصوص الكبرى. فنهاية المركز عند دريدا، بقدر ما هي، في الأصل، تقويض للتمركز وأشكال الترسُّب المستبد، لأن المركز عند دريدا، هو غير التمركز، فهو العنصر الإيجابي والنواة الحقيقية التي تتشكَّل من وجودها دينامية اختلاف المعنى، فإنها في نهاية المطاف خلخلة للبنى والأنساق والمفاهيم التي تعمل بمبدأ الوضوح والتوافق والحقيقة الدائمة. فالحديث عن المركز هو حينئذ حديث عن الهيمنة، مما حدا بـدريدا إلى “هدم” كل المراكز لِوَأد النظم والأنساق المنتجة للهيمنة، إقرارًا بأن التفكيك هو الآلية المنتجة للاختلاف.
وانطلاقًا من هذه النزعة الفكرية الفلسفية، التي باتت تُعرف بالحركة التفكيكية (Deconstructionist movement)، “أصبح كل شيء قابلًا للتأويل والنقد والتفكيك، وأصبحت المعرفة العلمية نفسها عبارة عن خطاب يتعيَّن استنطاق مكوناته وطبيعة علاقاته مع السلطة، وتفكيك الأطر المرجعية التي تمنح للسلطة مشروعيتها وتوفر لها شروط خلق التوازن وضبط النظام(13). وبرزت ضمن هذا السياق، ظاهرة تمركز الفرد على ذاته كعلامة مميزة لمجتمع ما بعد الحداثة، محدثة حالة من الانفصال والتفكك في المرجعيات، عزَّزتها تطورات متسارعة لوسائط الإعلام والاتصال خصوصًا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي(14).
في مطارح أخرى غير بعيدة عن الفلسفة، كان جان كلوتيي (Jean Cloutier) يتحدث عن الميديا الذاتية (Self-Media) كشكل من أشكال الحد من هيمنة وسائل الإعلام الجماهيري على صناعة الواقع وتوجيه الرأي العام(15). ولم يكن كلوتيي يَعلم، هو الآخر، أنه سيصبح رائد الفكر الذي استشرف مرحلة الميديا الفردية الجماهيرية على النحو الذي بيَّنه مانويل كاستلز (Manuel Castells) لاحقًا، في مداخلة ضمن مؤتمر حول “الميديا بين السلطة والمواطن”(16).
لقد انشغل جان كلوتيي بداية من سبعينات القرن الماضي ببناء نموذج لتحليل الاتصال يختلف في هندسته عن النماذج الخطية والنموذج السيبرنتيكي للاتصال، المنبثقة جميعها من رحم الأسئلة الخمس التقليدية التي وضعها هارولد لازويل (Harold Lasswel): (من؟ يقول ماذا؟ لمن؟ بأية وسيلة؟ وبأي تأثير؟). وقد توصل كلوتيي إلى تحديد نموذج تواصلي نَسَقي ينطوي على نوع من الدمج بين السؤالين: [من، و، لمن] لأنه في تقديره، آنذاك، بات الفصل بين المرسل والمتلقي لا معنى له في حضور وسائط جديدة، وإن كانت بمقاييس فترتنا الحالية بسيطة، وسائط تتيح للمرسِل أن يكون، في الآن ذاته، مرسِلًا ومتلقيًا. فالعملية الاتصالية لم تعد في نهاية الأمر عملية خطية محورها النقل (Transmission)، نقل المعلومات، كما وصفها جيل من المهندسين وعلماء الاجتماع أواخر النصف الأول من القرن العشرين(17)، وهي أيضًا ليست عملية سيبرنتيكية محورها التعديل (Regulation) وتحقيق الأهداف (Objectif) مثلما ورد وصفها في المقاربة الفيزيائية-الرياضية التي قدَّمها نوربرت وينر (Norbert Wiener) حين كان يَدرُس مع مساعديه، أرتورو روزنبلوث (Arturo Rosenblueth) وجوليان بيغلو (Julian Bigelow)، سلوك المدفعيات المضادة للطائرات(18). إنها، وفق نموذج كلوتيي، النسقي، عملية مفتوحة تعمل فيها المعلومات على تحويل النظام العلائقي إلى نظام تفاعلي. جان كلوتيي هو أول من اعتبر الفوتوغرافيا، ثم في مرحلة ثانية الآلة الراقنة/الكاتبة، المصحوبة بأنظمة النسخ البسيطة، الصيغة الأولى للميديا الفردية الجماهيرية(19)، ولكن ظهور آلة تصوير الفيديو المحمولة، مطلع سبعينات القرن الماضي، يُعَدُّ في نظره ثورة تكنولوجية حقيقية أحدثت تحولًا عميقًا، لا في المشهد الإعلامي السمعي المرئي فحسب بل في منظومة الصناعة الإعلامية برمتها حيث أضحى بناء الواقع عملية فردية-جماهيرية، يَقدِر عليها الأفراد الاجتماعيون بعد أن كان صناعة تحتكرها وسائل الإعلام الجماهيري المتمركزة في مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني.
وعلى حين استمر الانشغال في الحقول الأدبية والفلسفية بالتفكيك كاستراتيجية متحركة تعمل على خلخلة المركز (Center) والتحرر من الطرح البنيوي وثبات المعنى في السرديات الكبرى، بدأ يتشكَّل في ساحة علوم الإعلام والاتصال خطاب متجدِّد، مستلهم من التراث الفكري والفلسفي لمدرسة فرانكفورت يمنح التفاعل الاجتماعي أهمية فائقة كبعد أساسي للتطور السوسيوثقافي، ويُعيد للإنسان وللذات الدور الكبير في التغيُّر وصنع التاريخ. ويُعَدُّ يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) من أبرز المبشِّرين بهذا الخطاب الذي أحدث حالة انفصال واضحة عن إعلام الضبط المتدفِّق من منابع السلطة السياسية والاقتصادية، حالة قادت فيما بعد إلى ظهور نمط جديد من السرد الإعلامي. وهي مرحلة ميَّزها تطور الميكرو معلوماتية وظهور الحاسب الشخصي الذي لقي انتشارًا واسعًا ثمانينات القرن الماضي، تلتها مرحلة ثانية شهدت تحولًا حاسمًا في الإعلام والاتصال تمثَّل في الترابط بين الحواسب، أفضى إلى اندلاع ثورة كبيرة في مجال نقل المعلومات وتبادلها عبر شبكة الإنترنت(20).
ضمن هذا السياق المزدحم بالصياغات الأنيقة لفكر ما بعد الحداثة، المصحوب بتطور تكنولوجي فائق، كان الخطاب الفلسفي والسوسيولوجي المبشِّر بعودة القَبَلِيَّة (Tribalism) يسري بعمق في بيئة تكنوثقافية لعالم يقول عنه تيري إيغلتون (Terry Eagleton) إنه “سريع التبدُّل والزوال بعيد عن التمركز، انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات على المصنع التقليدي وأخذت فيه السياسات الطبقية الكلاسيكية الميدان لسلسلة واسعة من (السياسات المرتبطة بقضية الهوية)”(21). إنه العالم الذي تفكَّك فيه المركز ليطفو على السطح الاجتماعي والثقافي سديمٌ من “المراكز” الجديدة، المتشكِّلة في هيئة كيانات محلية صغرى يحكمها الشعور القوي بالانتماء إلى المثيل. ويصور لنا الفيلسوف والمنظِّر السياسي الأميركي، مايكل والزر (Michael Walzer)، فصلًا من هذا المشهد الذي يختزل العودة المتفاقمة للروابط الاجتماعية القديمة المؤسَّسة على القيم العرقية والعاطفية، وذلك عبر عَرضِه لحالة من حالات التبدُّل السياسي والاجتماعي بأوروبا الشرقية بعد تفكُّك إمبراطورية الاتحاد السوفيتي، فيقول: “إن الرجال والنساء، في كل مكان في العالم اليوم، يعملون على تأكيد خصوصياتهم المحلية وهوياتهم القومية أو العرقية أو الدينية، خاصة في أوروبا الشرقية، حيث تكون هذه المظاهر مثيرة للاهتمام والحيرة في الآن ذاته. عصر القبائل يعود من جديد بشكل مثير للغاية وفي المواطن التي يشتدُّ فيها القمع. ويبدو الآن أن الطاقات الشعبية التي حُشدت ضد الأنظمة الشمولية، وكذلك المقاومة (…) التي هزت الأنظمة الستالينية من الداخل قد تغذَّت، في جزء كبير منها، من العواطف والولاءات القبلية”(22).
مايكل والزر، من المنظِّرين الذين اهتموا بدراسة عودة القَبَلِيَّة كنموذج لمسار اجتماعي يختزل قيم ما بعد الحداثية، ومن خلاله تتضح الهندسة الجديدة للرابط الاجتماعي في الجدلية القائمة بين بارادايم التضامن الآلي وبارادايم التضامن العضوي بالمعنى الوارد في سوسيولوجية إيميل دوركايم (Emile Durkheim)، وقد شرحه ضمن أحد أهم نصوصه المنهجية في علم الاجتماع، حين كان يَدرُس “تقسيم العمل الاجتماعي”(23). وثنائية “الآلي” و”العضوي” المتجلية بعمق في أعمال دوركايم حول تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي، وظَّفها المفكر الفرنسي، ميشال مافيزولي، في “زمن القبائل”(24) لتحديد بنيتين متقابلتين: بنية آلية داخل مسار الحداثة، حيث إن لكل فرد وظيفة يقوم بها في حدود التنظيم الاقتصادي والسياسي للمجتمع، وبنية عضوية عائمة في فلك ما بعد الحداثة، محكومة بلعبة الأدوار المتقاسمة بين أفراد ضمن مجموعات صغرى مؤسَّسة على صنف من الروابط القوية المتشكلة انطلاقًا من ميول وأحاسيس واتجاهات مشتركة، يعبِّر عنها مافيزولي بالقبلية الجديدة(25)، وهي في نظره “جزء من المشهد الحضري (…) تنِمُّ بشكل جيد عن تماثل المجموعات وتطابقها”(26) وعن الرغبة القوية في العيش مع الشبيه بمقتضى أن قيمة الفرد أضحت لا تتجسَّد إلا في صلب المجموعة. يتحدث جيلبار دوران (Gilbert Durand) في هذا الصدد عن قوة اللاشخصية/اللافردية(27) كتعبير عن صعود لافت لقبلية جديدة يتجسد من خلالها ذوبان الفرد في ذات جماعية.
إن الصعود اللافت للقبلية الجديدة، أواخر النصف الثاني من القرن العشرين، والذي أثار اهتمام العديد من الباحثين والمفكرين من حيث انشغالهم بدراسة الجماعات والانتماءات وتعدد الهويات والثقافات(28)، وجد له مرتعًا خصبًا في البنية التحتية لشبكة الإنترنت. وقد عزَّز هذا الوضع من انتشار “المجتمعية المثلية” واتساع دوائرها لتظل بعدًا تواصليًّا يتحقق عبر “سلسلة متوالية من الأجواء (Atmosphere) والأحاسيس والعواطف”(29)، لأن القاعدة الأساسية للتشكُّل القبلي الجديد تكمن، قبل كل شيء، في إعلان الانتماء وإذاعة “صيته” على نطاق واسع في مجتمع جماهيري مُتذرِّر، حلَّ فيه الإحساس والعاطفة مكان العقل. ومن المهم، يَذكر مافيزولي، ملاحظة “أن مفهوم “أجواء” (Stimmung Atmosphere) الخاص بالرومانسية الألمانية، يفيد أكثر فأكثر في وصف الصلات السائدة داخل المجموعات الاجتماعية الصغيرة”(30)، في إشارة إلى نجاعة الطبيعة الاجتماعية للعواطف، التي شدَّد عليها دوركايم، مبرزًا قوتها في تشكُّل المجموعات الصغرى وتماسكها، لأننا، مثلما يقول، نسعى، إلى صحبة من يفكِّرون ويحسون مثلنا(31).
ولكن البنية التحتية للإنترنت، وهي بنية تتطور باطِّراد، ليست مجرد إنجاز تكنولوجي خالٍ من روح اجتماعية، إنها نمط عيش وطَّد من امتداد القبلية الجديدة في الزمن، زمن لا ماضي له، وجذَّر حقيقتها في كل الثقافات غير أن هذا النمط سرعان ما بدأ يتموَّج مع الفتوحات الرقمية المتسارعة، راسمًا جغرافيا جديدة للقبائل بكيفية زادت من تذرُّر المجتمع الجماهيري بتذرُّر القبائل ذاتها وتجزُّئها إلى ما نسمِّيه بـ”العشائر الإلكترونية”، دائمًا في اتجاه البحث عن المثيل والشبيه. والأهم من ذلك، حاجة الأفراد للانتماء إلى العديد من المجموعات في وقت واحد، بدوافع المصالح والقيم والسمات العاطفية المشتركة. وتُقدِّم لنا منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وإنستغرام وفيسبوك ويوتيوب وسناب شات وريديت وغيرها، ترجمة سوسيوثقافية، مثيرة، لجغرافيا العشائر الإلكترونية المتناثرة في الفضاء السيبراني.
تتميز العشائر الإلكترونية بالتواجد المكثف في الزمن وليس في المكان، وكذلك بمرونة نزوح الأفراد من عشيرة إلى أخرى، أو بالانتماء إلى عشائر عديدة مختلفة في آن واحد. فالإقليم المشترك للعشائر الإلكترونية ليس الأرض التي يسكنونها، إنما هو المصلحة المشتركة في الزمن. والنَّسَبُ الذي ينتمون إليه لا يعود إلى جَدٍّ أعلى، بل يرجع إلى تقابل الميول والأحاسيس. والثقافة التي تجمعهم، ثقافات، بعكس العشيرة التقليدية ذات البعد الثقافي الواحد المشترك. وتنسجم هذه الملامح مع ما ذهبت إليه باربرا روزنواين (Barbara Rosenwein) في مقاربتها للجماعات العاطفية (Emotional Community)، وهي المقاربة التي أزالت فيها القيود البنيوية المتمثلة في الأنماط التقليدية والكاريزمية المهيمنة على “أجواء” الجماعات. فالجماعات العاطفية، من منظورها، إنما تمثِّل بيئة مفتوحة لاستيعاب الشبيه والمثيل بحيث يتحدد التفكير في التغيير انطلاقًا من “العاطفي” (émotif-emotional). ويمثِّل “العاطفي” قيمة بارزة ومفيدة في فكر روزنواين؛ بارزة لأنها تعتبر أن القراءات الجدلية للتاريخ قد أخلت المشاعر كموضوع في التاريخ، ومفيدة لكون المجتمع العاطفي يتيح التفكير في التحول التاريخي من بوابة الإحساس والانفعال(32).
تستمد العشائر الإلكترونية أسباب تماسكها وتذرُّرها في آن واحد من الرغبة في التطابق والعيش مع الشبيه في حدود بيئة تواصلية تميزها روابط وصلات متزامنة لفضاءات مختلفة وكائنات بشرية وشبكات إلكترونية معقدة ومتمددة بكثافة مما يجعل الاحتكام إلى الأحاسيس والمشاعر السمة البارزة للمناخ العشائري المتفسخ من قيم الاحتكام إلى العقل. فالأجواء العشائرية هي حينئذ أجواء تمنح القيم العاطفية مرتبة تفوق مرتبة العقل في مقاربة الواقع الاجتماعي. إنها أجواء مفعومة بالانفعال، موغلة في التعددية وازدراء القيم الكبرى، ولا تعدو أن تكون أجواءً رومانسية بامتياز، متحرِّرة من ضوابط التعبير اللسانية والأخلاقية، فهي، من هذه الزاوية، شبيهة بالأجواء الرومانسية التي اكتسحت مجالات الأدب والسياسة والفن أواخر القرن الثامن عشر. وإذا نظرنا إلى العوامل المحيطة بظهور هذه النزعة “لوجدنا أنها لا تختلف، من حيث الدلالة، عن التي أولدت الرومانسية في ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا، وجعلت منها مذهبًا فنيًّا وفكريًّا يخترق مجالات الفن، والفلسفة، والسياسة، والاجتماع، ويشملها بتشكيل يتضمن الرفض للأساليب الفكرية والتعبيرية السائدة آنذاك. وإذا تمعنَّا في خصائصها العامة المكونة لذاتها، لألفينا أنها من طبيعة مشتركة مع التي هي الأصل لذات المذهب الرومانسي. وكأنَّ ضرورة “رومنسة” (Romanticize) العالم التي دعا إليها نوفاليس (Novalis)(33) أواخر القرن الثامن عشر، تعود لتتحقق، وتحط بثقلها، مرة أخرى، في (بيئة تكنوثقافية) تملي فيها التقنية سيطرتها على التفاعلات الاجتماعية(34). والرومانسية، مثلما يعرِّفها روادها، هي مذهب الانطلاق، والتحرر من قيود العقل والمكان لاعتبار الإنسان كائنًا شعوريًّا تسكنه الوحشة والأحزان والقلق والخوف… ولابد لكي يتحرر، ويحقق ذاته، من أن يطلق النفس على سجيتها والعنان لأحاسيسه، للتعبير عن وجدانه، وتجاربه الذاتية، وروح مجتمعه، والعصر الذي يعيش فيه، بدل الرضوخ إلى القيود العقلية التي تعطِّل رؤية الوجود الحقيقية(35).
وعندما نتحدث عن الرومانسية كنزعة فكرية سلوكية أرخت بظلالها على أرضية العشائر الإلكترونية، فنحن نشير هنا إلى موضوع الذات والتذاوت، لا من الناحية الفلسفية، لأن الموضوع “شَغَلَ الفلسفة بشكل عام، والفلسفة الألمانية على وجه الخصوص على امتداد قرن تقريبًا، بدءًا من إيمانويل كانط (Immanuel Kant) الذي يعتبرها مركز الوجود، مرورًا بيوهان غوتليب فيخت (Johann Gottlieb Fichte) وفريدريك شيلينغ (friedrich Schelling) اللذين انطلقا من ثنائية كانط القاضية بوجود الشيء في ذاته من ناحية، والعقل البشري المؤلِّف للظواهر والحقائق من ناحية أخرى، ليعيد كل منهما، على شاكلته، تركيب ثنائية الذات والموضوع بما يقتضيه نهج التفكير الفلسفي لكليهما(36)، فالذات عند فيخت هي كل شيء في الوجود، ويظل، عند شيلينغ، كل شيء هو الذات. ويتغيِّر كل شيء عندما نصل إلى هيجل. فالذات في المفهوم الهيجلي لا وجود لها خارج جدلية الاعتراف (…)، إنها وجود رمزي أكثر مما هي حقيقة في ذاتها مستقلة بذاتها (…). غير أنه يجب أن نشير إلى أن الفلسفة الألمانية لم تهتم في أطروحاتها المختلفة بالذات الفردية كالتي يعبِّر عنها فرانسوا رينيه شاتوبريان (François-René de Chateaubriand) في قوله عن نفسه: “أريد أن أكون شاتوبريان أو ألا أكون”، بقدر ما كان المشروع في خطه الفلسفي، مقاربةً للذات الجماعية وموضوعًا للهوية، مما جعل من هذه الفلسفة، فلسفة الذات والهوية، الحامل الأيديولوجي للجرمانية (Pangermanisme)، والحامل الجوهري للرومانسية السياسية التي غذَّت حلم هتلر بأن يرى ألمانيا تحكم العالم”(37).
نحن نشير إلى موضوع الذات والتذاوت بوصفه آلية (Mechanism) اجتماعية مولِّدة لأسباب تماسك العشائر الإلكترونية لأن هذه العشائر في نهاية المطاف مؤلَّفة من ذوات مختلفة عرقيًّا وجنسيًّا وثقافيًّا، ذوات تتذاوت في ما بينها مُنتجة لإنشاءات أيديولوجية وفنية لها مرجعية جماعية تسلك فيها الأفكار والآراء الشخصية منحى الأفكار الجماعية، وإن ما يلوح من تمركز حول الذات، كسلوك ميَّز خصائص الإعلام الشبكي وأفرز صنفًا جديدًا من السير الذاتية، والمذكرات، والروايات، وسرد التجارب الشخصية، واليوميات الخاصة ومقاربة الواقع الاجتماعي عبر مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الويب، مرجعه إلى فكرة المركز المهيمنة أولًا، المركز السياسي والأيديولوجي، والمركز الثقافي، ثم إلى العنف الاقتصادي والإعلامي والثقافي، المنتج للإقصاء والاستبعاد. وكنَّا قد أوضحنا في مناقشتنا لجدلية النظام والفوضى في الإعلام الجديد(38) كيف أن التمركز حول الذات هو الحركة الأساسية التي يتحول بمقتضاها الفرد إلى مركز بذاته منتجًا للتعدد والاختلاف. فالعشائر الإلكترونية هي عناقيد من المراكز المتناثرة في فضاء الويب. فكل مركز يتمثَّل، في الوقت الذي يرى فيه الأشياء، الطريقة التي يمكن للآخرين (لعشيرته) رؤيتها، وهكذا نفهم كيف تتخذ الآراء والأفكار الشخصية هوية جماعية. يُثير موريس هالبواكس (Maurice Halbwachs) قضية التَّمثُّلات الفردية في مؤلَّفه “الأطر الاجتماعية للذاكرة”(39) مبيِّنًا أن تَمَثُّلات الفرد واستخلاصاته إنما تنشأ وتتم بما يتوافق على ما هو متعارف عليه في المجموعة. يستخدم ميشال مافيزولي في “زمن القبائل” عبارة “الذاكرة الجمعية”، في سياق التنظير الذي وضعه هالبواكس للذاكرة بوصفها ظاهرة مجتمعية، وذلك لشرح كيف أن الفردانيات والهويات والقدرات تنصهر جميعها في روح جمعية(40).
لقد شكَّلت العشائر الإلكترونية مراكز استقطاب مثيرة من حيث الخصوبة الفائقة لدى أفرادها في إنتاج المعنى والتي ظلت تنبع منها إشكاليات المجتمع واهتمامات الأفراد. ومن الممكن القول: إن هذا الإنتاج، بغزارته وتنوعه وتشظِّيه، هو، من الناحية السوسيولوجية، تعبير عن فشل الإعلام الجماهيري المُمَأْسَس في استقطاب فئات المجتمع المختلفة من خلال ما يبثه من مضامين مغالية لدور الرموز الفاعلة في المجتمع والضابطة لسلوكياته، ثقافيًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا. وهو، من الناحية الفلسفية، تعبير عن وعي الذات، وإيمانها بالاختلاف والتواصل المتكافئ. ونجده، من الناحية الفنية والسيكولوجية، وهذا أبرز ما يميز موجة الإعلام الشبكي، تعبير بليغ عن نزعة رومانسية، كنا أشرنا إليها، نزعة تجتاح المشهد الإعلامي العالمي، فاتحة بذلك مرحلة جديدة في التواصل والاستقطاب. وإنها لنزعة شبيهة بالتي عصفت بالأدب وسائر الفنون الأخرى في أوروبا نهاية القرن الثامن عشر(41). ومما يعنينا فيها أن بروز هذا الشكل الجديد في إنتاج المعنى ومقاربة الظواهر الاجتماعية، فنيًّا وأدبيًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، القائم على سهولة في التعبير، وحرية فائقة في عرض القضايا المتصلة بالشأن العام والخاص، ومناقشتها، ظلت اللغة آليته الجوهرية وقد تجلت على شاكلة تضمنت خصائص الأساليب والسجلات اللغوية الرومانسية حيث تدفق الطلاقة التعبيرية، والتضادات اللفظية، قابلت فيها الفصحى العامية، والمفردات اللغوية العربية الألفاظ والعبارات الأجنبية، والتعبيرُ الفظ المستقيمَ الرفيع من الكلام.
ومن المهم في مضمارنا استحضار ما كتبناه في هذا الباب، لمّا كنا ندرس جدلية الضبط والاستقطاب، لفهم كيف أضحت اللغة، في فلك الويب، الملاذ الأول والأساسي لعامة الناس وللمستبعدين والمهمشين بالخصوص: “لقد غمرت هذه اللغة “السهلة” مساحات التدوين والمواقع الإخبارية (ومواقع التواصل الاجتماعي) التي استقطبت جيلًا بأسره، ونراها لا تختلف في عموميتها وبنيتها المبسطة، عن لغة الأدب الرومانسي المتميزة بالشاعرية المطلقة، وبسهولة التعبير والخالية من الأساليب المتأنقة، كالتي نطالعها في أشعار شارل بودلير (Charles Baudelaire) أو ألفريد دو موساي (Alfred de Musset) أو أشعار وروايات فيكتور هيجو (Victor Hugo). فمن يقرأ ديوان أزهار الشر، على سبيل المثال، يكتشف، أولًا أصالة العبارة وصدقها، كصفة مميزة للأدب الرومانسي، وهي التي اعتمدها بودلير لتصوير الخطيئة ونزعة الشر في الأثر المذكور، كما يكتشف السجلات اللغوية المتحررة، والمتنوعة، والجامعة بين الدارج والغريب، والراقي، والفظِّ من الألفاظ، ومن ينظر في البؤساء تشده لعبة الاختلافات والتضاد اللفظي والأسلوبي في الرواية، مما حدا بشاعر مثل ألفونس دي لامارتين (Alphonse de Lamartine) إلى اعتبار البؤساء أثرًا مزدوج الخطورة، فهو من ناحية، يبث الهلع في السعداء، ويزرع، من ناحية ثانية، الأمل في البؤساء (…). إن في اللغة أفقًا واسعًا للتعبير الحر، فالفاعلية التواصلية والتفاهم يتحققان في صلب اللغة (…). فاللغة [ليست مجرد وسيلة أو مطية تركبها الرسالة الدلالية الجامعة بين شخصين على أقل التقديرات العددية](42)، إنها أكثر من وسيلة، إنها كما يراها إدوارد سابير (Edward Sapir) لا تقتصر وظيفتها على التوصيل، بل تتعدى ذلك إلى ترميز العالم الذي تمثِّله، فهي حينئذ [سلطة تصورية تمارس تأثيرها على متكلمي تلك اللغة](43)، إنها أيضًا الفضاء الذي تتحدد فيه التوجهات الثقافية والفكرية والأيديولوجية، وهي في الديمقراطيات الليبرالية، الموجه الحقيقي للحياة السياسية، لذلك نجد التعبير الحر، في الأنظمة الشمولية، بوصفه ممارسة لغوية في المقام الأول، يكتسي طابعًا “سريًّا”، يدفع بالأنا الباطني إلى الظهور والتجسد في الأنا الاجتماعي وفق عبارة هنري بارقسون (Henri Bergson)(44). ومنه حديثنا عن الهويات الرقمية والذباب الإلكتروني كظاهرة مستفحلة في التدوين الشبكي وإدارة مواقع التواصل الاجتماعي للتعبئة والتوجيه والتضليل.
2. الهويات الرقمية والذباب الإلكتروني
التغير الذي حدث في هندسة المجال العمومي الميدياتيكي بفعل تطورات الشبكة العنكبوتية المتمثلة في التحول من الويب 0.1 إلى الويب 0.4 لم يترك المعارف السابقة المتصلة بنظريات الإعلام وأدبياته على حالها، ذلك، مثلما يقول عبد الكريم سروش، “لأن عناصر المعرفة المختلفة من العلوم الإنسانية والطبيعية والفلسفية والدينية والعرفانية كلها مترابطة معًا ومتآلفة تسير دائمًا باتجاه واحد، فإذا ما حدث تغيُّر في إحداها، فإنه سيصب في العلوم الأخرى”(45). إن حالة التشظي والتفكُّك للمجال العمومي الميدياتيكي الناجمة بالخصوص عن فك ارتباطه بالمكان قد أدى إلى ظهور نسخة جديدة لوظائف الإعلام ولحارس البوابة، وتشكيلة جديدة لقادة الرأي وقوى الضغط في المجتمع، وتيار من المفاهيم الجديدة لنظريات التحرر والمسؤولية الاجتماعية، ودوامة الصمت، والاستخدام والإشباع، والتأثير والتأثر. كما أدى إلى ظهور سجلات بلاغية جديدة أدت فيها اللهجات العامية دورًا مركزيًّا في التواصل وظلت بمثابة الحامل الفكري والأيديولوجي لجيل بأسره من المدونين ومستخدمي الشبكة بشكل عام. والحاصل هو أن التحرك في المجال العمومي الميدياتيكي الجديد بات قدرة عامة ازدهرت بمقتضاها صناعة الاستقطاب بعد أن كانت صناعة الضبط هي البارادايم السائد في توجيه الأحداث وبناء الرأي.
وحالة الاستقطاب في مضمارنا، وقد أوضحنا أساليبها وشرحنا أبعادها في دراستنا للمصانع الجديدة للرأي العام(46)، هي حالة صراع من أجل تقرير الواقع. صراع يدور في حلبة من الاستفهامات المستعصية من قبيل من يكسب شرعية بناء الواقع، ومن يرسم حدوده، ومن يعترف به، ومن لا يعترف به. وهو صراع معقَّد، مُوازٍ لدرجة تعقُّد مستويات التواصل والتفاعل السارية في فلك الويب، وبحجم الأطراف الفاعلة في الصراع. ويتخذ أشكالًا متفاوتة الأهمية في التمدد والتقلص حسب حدة الاستقطاب التي وضعنا معادلتها الرياضية انطلاقًا من معادلة التأثير وعنصري التفاعل والسرعة(47). ولمّا كان أمر الحسم في تقرير الواقع غاية يصعب إدراكها بل غاية لا تُدرك لاعتبار جوهر الواقع مسألة خلافية شغلت الفلسفة من أفلاطون إلى مارتن هايدغر (Martin Heidegger) إلى بودريار وميشال سار (Michel Serres)(48)، كان أمر بنائه محور صراع مستمر عبر التاريخ، فالفرد الاجتماعي يفسر العالم من حوله بناء على رؤيته الذاتية وانطلاقًا من سجلاته التفسيرية والتأويلية، مع اعتبار أن بيئة الفرد الاجتماعية عامل مؤثر في عملية البناء. يرى جان بياجيه (Jean Piaget)(49) أن البيئة تعمل على تشكيل الفرد كما يعمل الفرد، في المقابل، على تشكيلها؛ وهذا ما يجعل عملية البناء عملية اجتماعية محضة. تعتمد النظرية البنائية هذا المفهوم، مفهوم أن الواقع و”المعرفة” بهذا الواقع إنما هو عمل اجتماعي مرتبط باللغة(50). وهكذا، فإن البنائية تدرك الواقع كجوهر ذاتي يتم بناؤه اجتماعيًّا من خلال نشاط تواصلي له سياقاته الزمنية والمكانية والثقافية ويختلف باختلاف التوافقات الحاصلة في المجتمع(51). يشدِّد ليف فيجوتسكي (Lev Vygotsky) على أهمية السياق الاجتماعي والثقافي في التأثير على الإدراك.
وأمر السياق، سواء تعلق الأمر بالسياق اللغوي أو السياق المقامي، مهم جدًّا في مقاربة موضوع الهويات الرقمية. وقد كان لعلماء اللغة والمؤرخين وعلماء الاجتماع والنفس وعلماء الدين والنقاد والإبستمولوجيين والأصوليين… عناية واسعة بعلم السياق لكونه المحدِّد الرئيس للقصد الاتصالي، ونجد أن اللساني، رومان جاكوبسون (Roman Jakobson)، يمنحه أهمية فائقة في نظرية التواصل اللغوي لاعتبار صور المعاني لا تتجلى إلا من خلال الفعل الاتصالي، أي من خلال السياق التواصلي. والسياق هو المرشد والمرجع في إقرار الأحكام الشرعية؛ يقول ابن القيم: “مَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضَلَّ وأَضَلَّ، وكانت جنايته على الدِّين أعظم من جناية مَنْ طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم”(52).
ويعمل السياق بمنزلة الكاشف عن أغوار القضايا الإبستمولوجية وارتباطاتها كإنتاج العلوم وتصنيفها والخوض في تجاورها وبَيْنيَّتها. وتُعَدُّ أعمال برينو لاتور (Bruno Latour) وميشال كالون (Michel Callon) في هذا الخصوص، من أبرز الأعمال التي طبعت الأدبيات الإبستمولوجية في علاقتها بالأداء التقني والاجتماعي أواخر القرن العشرين(53). والسياق أيضًا هو المنبِّه والمشير الحقيقي إلى دلالة الحدث وتتابعه. يُقر ابن خلدون بأن معرفة طبيعة الحادثة وطبيعة المجتمع ضروريتان في تدوين التاريخ، فيقول: “الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل ولم تُحكَّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني (…) فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلَّة القدم عن جادة الصدق؛ وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سَبَروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فَضَلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط”(54).
استحضار السياق في موضوعنا حينئذ إجراء ضروري لفهم كيف ولماذا تنامت ما نُسمِّيها بـ”تقنية التخفي الاجتماعي” لتظل ظاهرة عالمية مُفرزةً أطيافًا من الهويات المصطنعة وأسرابًا من الذباب الإلكتروني المُؤَدْلَج، تمارس ألعابها البلاغية المثيرة في فلك الويب، ساعية لاستقطاب الرأي وتوجيه الأحداث وبناء الواقع وفق ما تمليه أجندة قوى الضغط والفاعلين في السياسة والاقتصاد والثقافة. والسبيل إلى التخفي، كلما تعلق الأمر بالممارسات التواصلية، نجدُ هرم الاحتياجات المختلفة على النحو الذي حدده ماسلو، يجعل من الممكن تقديم سرد لمساره. من ذلك، حاجة الفرد للسلامة والأمان، وهي من أهم الحاجات التي يسعى إلى تحقيقها كالسلامة الشخصية وسلامة الممتلكات والأمن النفسي والوظيفي وأمن الموارد، فضلًا عن احتياجاته الأخرى كحاجاته للتعبير والمعرفة والانتماء. ولمّا كان أمر الخوض في قضايا الشأن العام منظَّمًا ومسيَّرًا ومُراقبًا من قبل أجهزة الدولة في الأنظمة الشمولية وحتى في “الديمقراطيات الناشئة”، كان اللجوء إلى استعارة الأسماء المصطنعة ونحت الهويات الافتراضية والعشائرية الحل الآمن المناسب للتعبير الحر عن تمثُّلات الأفراد المتباينة للواقع والتصدي لبارادايم عدم الاعتراف بالاختلاف. فالميديا الجماهيرية، في الفضاءات المغلقة(55) هي الكيان المحتكر للصراع من أجل تقرير الواقع والمحدد الوحيد لإطار الأخلاق التي تحكم الممارسة السياسية. والواقع الذي يصنعه إعلام الدولة، بما فيه من تحريف وتضليل، هو الذي ينبغي أن يروق للمجتمع ليكون المرجع في إضفاء الشرعية على القرارات الحاسمة، والناطق بملحمة الازدهار الفكري والاقتصادي.
وهكذا، يتحول احتكار الدولة للمجال العمومي من مجرد الانفراد بالرأي والهيمنة على آليات إنتاج الخطاب المتعلق بقضايا الشأن العام، إلى مولِّد لإنتاج الخوف واستفحال مظاهر الاستبداد. فحين تُقدم أجهزة الدولة السياسية والأيديولوجية على هدم جدلية الاختلاف والائتلاف في المجتمع، يكون الفضاء السيبراني الجديد مجالًا عموميًّا ملائمًا لإعادة بناء الواقع الاجتماعي عبر عمل تفكيكي مستمر يقوم به الأفراد والعشائر الإلكترونية من وراء أقنعتهم البلاغية، داخل هويات افتراضية متطابقة وغير متطابقة مع الدلالات الحقيقية للمستخدمين(56). فوتيرة التخفي وراء الهويات البديلة والأسماء المستعارة، وإن تعددت أسبابها، فإنها ترتفع كلما اتسع طيف مصادرة الحريات وتعاظمت أمواج العنف الفكري المسلَّط على الأجيال. لذلك، نجد ظاهرة الهويات المزدوجة مسترسلة عبر العصور ومنتشرة في الأوساط الفنية والأدبية بالخصوص، مُعربة عن حالة من الانقسام التي تصيب الذات العميقة نتيجة ضغوط ثقافية وسياسية مختلفة لتنشطر إلى مستويين، مستوى الأنا الحقيقي ومستوى الأنا الاجتماعي. يُميِّز مارسيل بروست (Marcel Proust) بين الأنا الحقيقي والأنا الاجتماعي معتبرًا هذا الأخير الجزء من الفرد الذي يقدِّم نفسه للعالم.
هذا الكلام يفترض أن الأنا الاجتماعي يتشكَّل بمثابة الدرع الواقية للذات العميقة، مانعًا بذلك تسرُّب ما يمكن أن يُصيبها من ضرر أو ضيق أو خسارة. ولأن الفضاء الاجتماعي، وحتى السيبراني، مدجَّج بالعنف الفكري واللفظي وبشتى أنواع المخاطر الأمنية والقانونية والأخلاقية وغيرها، فإن التحرك في الفضاء العام السيبراني يقتضي عمومًا، كما يرى برجسون، وجود جزء فاعل وجزء منفعل. والجزء الفاعل في مضمارنا، هو الأنا الاجتماعي الذي قد “يَمْتَثِل لضغط المجتمع أو قد يعمل على تجاوز حدود الجماعة”(57). ثم إن التربة السيبرانية تربة صالحة للتخفي لما تتيحه الأنظمة والتطبيقات والمنصات والبوابات الإلكترونية من طواعية في نحت الهويات الافتراضية المصطنعة التي شكَّلت البيئة الملائمة لظهور الذباب الإلكتروني وانتشاره. فحوى كلامنا هو أن فهم حقيقة “الذباب” هذه منوطة بنظرة تاريخية حول كيفية اشتغال المجال العمومي لأن الخوض في هذا الموضوع لا ينفصل عن الخوض في موضوع الرأي العام.
نعود من جديد لفكرة السياق كي نرصد المفردات السوسيوثقافية التي تشكَّلت منها استعارة الذباب. فقصة “الذباب” قصة قديمة جديدة، أقدم من أن تكون وليدة حالة من التطور الفائق لتكنولوجيا الإعلام والاتصال، وليست كما ورد تعريفها في الموسوعة الحرة ويكيبيديا من أن “المصطلح” استُخدم للمرة الأولى في 2017. إن استعارة “الذباب” كمفهوم متداول في الأوساط الأمنية والسياسية، نشأ أواخر عهد لويس الرابع عشر الملقب بـ”الملك الشمس” (Le Roi Soleil) الذي حكم فرنسا ما يزيد عن نصف قرن “وطبع مصيرها بطابعه إلى حد لا يمكن تصور تاريخ فرنسا من دونه، وقد ترافق في أثناء حكمه المجد والبؤس معًا (…). ارتكزت قاعدة العمل لديه على الطاعة في الداخل والسمعة الحسنة في الخارج”(58). شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من حكمه حالة مظلمة من الضغط السياسي والاقتصادي والثقافي آلت إلى خضوع المجتمع الفرنسي للملك خضوعًا حقيقيًّا، وهو القائل: “أنا الدولة والدولة أنا”. أدت هذه الحالة تدريجيًّا إلى تغذية روح احتجاجية صاعدة في الأوساط الاجتماعية، استمرت حتى اندلاع الثورة الفرنسية مما حدا بفيلسوف مثل دنيس ديدرو (Denis Diderot) إلى القول: “كان لدينا معاصرون في عهد لويس الرابع عشر”(59)، ذلك لأن الأفكار الثورية التي ظهرت في ثمانينات القرن السابع عشر هي ذاتها التي تم التعبير عنها بداية الثورة الفرنسية. وقد شكَّلت الحدائق الباريسية والأسواق والمقاهي والمسارح ميدانًا حيًّا انتعشت في حدوده حركات التململ الشعبي والآراء الناقدة للمَلَكية المطلقة. وبدأ يتشكَّل، إلى جانب المجال العمومي الذي تهيمن عليه السلطة الملكية، مجال عمومي بورجوازي يحمل بذور التحدي للسلطة. لكن لويس الرابع عشر كان يذكِّر دائمًا بضرورة أن يرى الملك كل شيء، ويعرف كل شيء، ويسمع كل شيء.
لقد قادت هذه العقيدة لويس الرابع عشر إلى إحاطة نفسه ببطانة قادرة على تمكين الملك من رصد تجليات الواقع المحلي والتحكُّم في الحركات التي من شأنها إحداث الاضطراب في المجتمع، والتصدي للفكر المضاد. بطانة قادرة بالخصوص على مراقبة تقلُّبات الرأي العام الذي بدأ يتشكَّل باتجاه القطيعة النهائية مع الملكية. وكان أن تولَّت أجهزة الشرطة آنذاك عملية زرع مُخبرين سريين يرصدون ويتابعون مباشرة كل ما يجري ويدور في الفضاء العام، ويقومون بالإبلاغ عن الضوضاء الاجتماعية والأخبار الشائعة في الميادين العامة حتى إن مؤرخًا مثل جان شانيو (Jean Chagniot) كان يرى في باريس سحابة من المخبرين تم تجنيدهم في الدوائر الأكثر تنوعًا. وعُرف هؤلاء باسم “ذباب الشرطة” الذين اتسع انتشارهم أواخر عهد لويس الرابع عشر في محاولة لتوجيه الرأي العام واحتواء “انحرافاته”. فكلما زاد عدد “الذباب” لاحت في أفق السلطة إمكانية تصويب المسار الاجتماعي وتعديله. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن حقيقة الذباب هذه، قد ارتبطت بأطر اجتماعية جديدة في تلك الفترة مثل المقهى، ولو أن دور المقهى في فرنسا قد ازدهر بعد رحيل لويس الرابع عشر؛ فالمقاهي والصالونات كان لها، أواخر القرن السابع عشر، دور فعَّال في تغذية الرأي العام وتنمية الفكر. ويمكن اعتبارها “إلى حد ما، الرَّحِم الثانية التي انبثقت منها أيديولوجية التغيير في فرنسا بالذات، بعد الفكر الأنواري. وقد ارتبطت وظائف المقاهي والصالونات، تاريخيًّا، بوظائف إنتاج الفن والأدب والعلوم الإنسانية بشكل عام. ويروي لنا التاريخ، أن الحياة الثقافية، بعد موت لويس الرابع عشر، قد تخلَّصت من سجنها في قصر فرساي، لتسكن مقاهي باريس ونواديها وصالوناتها العامة والخاصة التي شكَّلت، على امتداد القرن الثامن عشر بالخصوص، أرضية صالحة لظهور تيارات فكرية وألوان من الأدب والشعر، ومثَّلت مسرحًا للجدل الفلسفي والسياسي(60). فالمقهى، من وجهة نظر سوسيولوجية، هو علامة من علامات الفصل بين الدولة والمجتمع المدني، يحقق في حدوده الفرد حريته الفردية من خلال ضروب التواصل الفعَّال مع الناس ومع المعرفة، ثم إنه، من الناحية السيكولوجية، الفضاء المستقل الذي يحدث فيه التفاعل الرمزي، ويكتشف فيه الفرد معنى الذات بالمفهوم الهيجلي للكلمة، وتتجلى فيه معاني التذاوت”(61). مهمة الذباب حينئذ هي الجَوْسَسَة في معناها الأمني، والتصدي للرأي العام المخالف في معناها السياسي، واحتواء الشائعات العامة في معناها الميديولوجي. لذلك، سعت الملكية الفرنسية دائمًا إلى معرفة الروح الفكرية والسياسية السائدة في المجتمع بنشر ذبابها في كل أنحاء فرنسا.
الرأي العام اليوم، تحررت صناعته من بارادايم الضبط لتستقر في بارادايم الاستقطاب حيث الانتشار الواسع للمقاهي وصالونات الدردشة الإلكترونية ومنصات التواصل الرقمية، والتمدد المتزايد لدوائر البث والتفاعل المباشر على المواقع الشبكية، مما يجعل التحكُّم بدفته أمرًا على غاية من الصعوبة والتعقيد. فأدوات التعبئة، وآليات الإثبات والإبطال التي كانت تحتكرها أجهزة الدولة وبعض الإمبراطوريات الإعلامية في العالم، باتت بيد الأفراد الاجتماعيين، وهم الفاعلون الجدد في المجال العمومي الميدياتيكي. ولا تخلو هذه البيئة من وجود جيل جديد من الذباب، مناسب للأطر الحقيقية والافتراضية لمجتمعات القرن الحادي والعشرين. ذباب إلكتروني وآخر اجتماعي يعملان بقوة على إقرار الإثبات عند الاقتضاء، وإقرار الإبطال متى استدعى الأمر ذلك، وعلى إدارة معارك الحق والباطل بما يخدم المقاصد الاتصالية والسياسية للقوى الفاعلة إقليميًّا ودوليًّا.
ومن أبرز الأحداث المشحونة بهدير الذباب، بشقيه الإلكتروني والاجتماعي، يَجدر ذكر الحرب الدائرة في كل من اليمن وسوريا وليبيا، وحصار دولة قطر، وعمليات ضرب المقاومة في فلسطين المحتلة، وتشويه المسار الديمقراطي في تونس. أحداث وأوضاع مستقلة في الظاهر، ولكنها خارجة من مشكاة واحدة. وليس من قصدنا، في دراسة الحال شرح أسبابها وتجلياتها وأبعادها، إنما نسعى لبيان كيف يكون الرأي العام خلاصة المعادلات الكمية المتكررة في الزمن والقائمة على الاستقطاب والتزامن والتفاعل.
يعمل الذباب الإلكتروني على تحقيق المعادلة الكمية الأساسية في بناء الرأي وتوجيهه على النحو الذي يخدم مصالح المراكز المهيمنة في المجتمع، وذلك عبر أساليب ميدياتيكية مختلفة تراوح في الغالب بين التغريد المتناعم والتعليق المكثف وإعداد النشرات المضادة للرأي المخالف، لأن القاعدة المركزية في الاستقطاب وتوجيه الرأي في الفضاء السيبراني ليست فن الخطاب في بعده البلاغي التقليدي كما كانت الحال قديمًا، وليست قوة الأفكار، إنما كمية الإعجاب التي تحصدها تغريدة بسيطة أو مقال منشور أو مقطع فيديو، وهي التي تمنح الانطباع في الأذهان بجودة الأفكار وتبَنِّي أغلبية لها، حتى لو كانت أفكارًا ساذجة. وتؤكد نظريات التأثير الاجتماعي وجود صنف من الـتأثير القوي، يتمثَّل في التأثير الكمي الذي يستمد قوته من ارتفاع عدد المؤمنين به.
ينخرط الذباب الإلكتروني في لعبة الكمِّ لإسقاط معادلة كمية مضادة، وتتولَّى منظمات إلكترونية فاعلة، أو لجان حكومية، على غرار ما كان يحدث في عهد لويس الرابع عشر حيث كان الأمر موكولًا لقائد الشرطة، تتولى تشكيلَ أسراب من الذباب بإنشاء عدد كبير من الحسابات الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، تكون جاهزة لِتَحرُّكٍ مُبَرْمَج قصد إصابة توجهات وآراء غير مرغوب فيها. ويجري الحديث في هذه الحالة عن البوت (Bot) كبرنامج يعمل على تنسيق عدد مرتفع من الحسابات الآلية بغاية نشر أو إعادة نشر تغريدات معينة أو تغذية تيار الإعجاب بها، لتدمير مراكز الاهتمام في الرأي المضاد. وسادت تسمية هذا الصنف من الذباب في الأوساط العامة، وأوساط الخبراء كذلك، بالجيوش أو الكتائب الإلكترونية. واستخدامها لا يقتصر على تحقيق ما يسمَّى بالتغذية الغزيرة(62) إنما أيضًا لسرقة المعلومات الشخصية بغرض الاحتيال المالي.
وعلى حين يعمل الذباب الإلكتروني على فرض الواقع الذي تريده اللجان الحكومية والمنظمات الإلكترونية الفاعلة بمنطق التأثير الكمي، يُوجد في فلك الويب خنادق وسراديب إلكترونية يتسرَّب منها ذباب اجتماعي “ذكي”، بارع في صناعة المفاهيم والمصطلحات التي ينبغي على الذباب الإلكتروني ترديدها بقوة، كالتي كانت تعصف بصورة الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، واصفة إياه بـ”الطرطور”، في محاولة لإجهاض التجربة الديمقراطية التونسية(63)، حتى إنه تم فتح حساب على فيسبوك باسم “الطُّرطور المرزوقي” (بضم الطاء الأولى)(64)، والدلالة من الشكل هنا تفيد الشخص الضعيف الذي لا يملك اتخاذ القرارات. فالذباب الاجتماعي يعمل بمثابة الرَّوْشم الذي يَحوك على منواله الذباب الإلكتروني الواقعَ المطلوب، ويتحرك وفق موجهات مدروسة. والاثنان كلاهما يمثلان الظواهر الجديدة للأطر الجديدة للمجال العمومي الميدياتيكي المحكوم بسلطة المعادلات الكمية.
لقد بات البقاء في هذا المجال ليس للأصلح، كما كان يردد هربرت سبنسر (Herbert Spencer)، بل “البقاء للأكثر”: الأكثر عددًا، والأكثر انتشارًا، والأكثر تطاولًا، والأكثر حضورًا، والأكثر تزامنًا، والأهم من ذلك كله: الأكثرُ طنِينًا، حيث نتبيَّن طبقة من الطبقات الدلالية الكاشفة لاستعارة الذباب، استعارة أُعيد إنتاجها في حدود سياقات لا تختلف عن سياق الملكية المطلقة في أوروبا، ولكن بأطر جديدة وأساليب مناسبة لهذه الأطر.
إن حرية التعبير التي ظلت على مرِّ الزمن مطلبًا شعبيًّا تعوقه معضلة الاستبداد المتجدِّدة عبر العصور بأشكال وأساليب مختلفة، أضحت في الزمن السيبراني معضلة بذاتها، حيث الهَدمُ الجاري على كل الجبهات، هدم للمركز، هدم لقواعد الكتابة المتحرِّرة من الضوابط اللغوية واللسانية، وهدم للأخلاق التواصلية. يحدث كل ذلك تحت عنوان التفكيك الذي حوَّل المصانع الجديدة للرأي العام إلى ورشات مشحونة بالطنين لصناعة التضليل والباطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د. عبد الله الزين الحيدري، أستاذ علوم الإعلام والاتصال المشارك بجامعة قطر.
للاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)
مراجع
(1) “Au Séminaire”, L’Arc 56, (Aix-en-Provence, 1974).
(2) Kimberly S. Young, Cristiano Nabuco de Abreu, Internet Addiction: A Handbook and Guide to Evaluation and Treatment (Wiley, 2010).
(3) حسب موقع إحصائيات الإنترنت العالمية الإلكتروني (Internet World Stats)، بلغت نسب المستخدمين للإنترنت في 2017، 4.05 مليارات مستخدم.
(4) Aviel Goodman, “Addiction: Definition and Implications,” British Journal of Addiction, n°85, (1990).
(5) René Descartes, Discours de la méthode (Paris: 1668).
(6) Hans Jonas, Une éthique pour la nature (Arthaud, 2017).
(7) Ibid.
(8) Jean-François Lyotard, La condition Postmoderne: rapport sur le savoir (Minuit, 1979).
(9) Miche Maffesoli, Le Temps des tribus (La table Ronde, 1988).
(10) يذكر ريتشارد رورتي: الموحَّد/المتعدِّد، الحقيقي/الخادع، الأصلي/المشتَق، الموضوعي/الذاتي، كنماذج للتعارضات الثنائية. مجلة أوان، (كلية الآداب، جامعة البحرين، البحرين، العدد 11، 2005)، ص 19.
(11) Jean Baudrillard, Le système des objets (Gallimard, 1978).
(12) يقول دريدا، في حوار أجراه معه أنطوان سبير، وترجمه أحمد عثمان، وكانت نشرته مجلة أوان في عدد مزدوج 3-4 من عام 2003، يقول: “بدون شك، تنشغل التفكيكية بما نسميه النصوص الكبرى ليس فقط بالنتاجات المقبولة من أفلاطون إلى جويس، لكنها تختبر أيضًا المدونات، وهي ليست نصوصًا أدبية أو فلسفية أو دينية، وإنما كتابات قانونية أو مؤسسات، قواعد، مناهج، قلتُها دائمًا: الكتابة التي تثير اهتمام التفكيكية، ليست فقط الكتابة التي تحويها المكتبات، حتى وإن اهتمت بنصوص أدبية، هناك أيضًا مؤسسة الأدب (شيء حديث، والتاريخ السياسي شغوف بها). هناك أيضًا تطورات التقدير والتصديق القانوني، أسئلة التوقيع، حقوق المؤلِّف أو حق النشر (تعرف الصخب العالي الذي يتعلق بالتقنيات الحديثة، وهو يتأتى من سياسة المؤسسة الأدبية). هذا يتعلق بمضمون وشكل الشيء الأدبي أو الفلسفي”. مجلة أوان (كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 3-4، 2003).
(13) محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، (الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 1998)، ص 119.
(14) عبد الله الزين الحيدري، “عصر الرومانسية الإعلامية”، المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 410، أبريل/نيسان 2013)، ص 37.
(15) Jean Cloutier, “La communication audio-scripto-visuelle,” Communication & Langages, no 19, (1973): 75-92.
(16) Manuel Castells, Emergence des Médias de Masse Individuelles, In Les médias entre les citoyens et le Pouvoir, Colloque organisé par le World Political Forum et la province de Venise à San Servolo, Italie, les 23 et 24 juin 2006.
(17) نذكر في هذا الصدد الرياضيين، كلود شانون (Claude Shannon) ووران ويفر (warren weaver)، اللذين وضعا نموذجًا هندسيًّا للاتصال عُرف بنموذج شانون وويفر، وهو نموذج خطي يُعنى بنقل كمية المعلومات من المصدر إلى الهدف، وبكيفية احتواء التشويش التقني المحتمل حدوثه أثناء عملية النقل. كما نذكر كذلك نموذج هارولد لازويل المعروف بنموذج الأسئلة الخمس، وهو نموذج خطِّي يهتم بدور الباثِّ في إحداث التأثير.
(18) Norbert Wiener, Cybernetics, or Control and Communication in the Animal and the Machine, (the Mit Press, 1961).
(19) Jean Cloutier, “La communication audio scripto visuel et le multimédia,” Communication & Langages, no 99, (1994): 42-53.
(20) عبد الله الزين الحيدري، الصورة والتلفزيون: بناء المعنى وصناعة المضمون، (كلية الآداب، جامعة البحرين، 2004)، ص 198-199.
(21) تيري إيغلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة ثائر ديب، (دمشق، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2000)، ص 8.
(22) Michael Walzer, Le nouveau tribalisme (Dissent, 1992)
(23) Emile Durkheim, De la division du travail social (Alcan, 1902).
(24) Maffesoli, Le temps des tribus, 18.
(25) Ibid, 18-19.
(26) Ibid, 27.
(27) Gilbert Durand, “Le Retour des Immortels,” in Gilbert Durand, Le temps de la réflexion (Paris: Gallimard, 1982).
(28) نذكر على سبيل المثال: المفكر البحريني، نادر كاظم، الذي قدَّم العديد من الدراسات والمقالات العلمية في مجال الأدب والنقد الثقافي.
(29) Maffesoli, Le temps des tribus, 28.
(30) Ibid, 28
(31) Durkheim, De la division du travail social, 70.
(32) Barbara Rosenwen, “Worrying about Emotions in History,” art. cité ou Histoire de l’émotion : méthodes et approches, Cahiers de civilisation médiévale 49, (2006): 33-48.
(33) Novalis, Le Monde doit être romanisé, trad. de l’Allemand, présenté et annoté par Olivier Scheefer, (Allia, 2000).
(34) الحيدري، عصر الرومانسية الإعلامية، مرجع سابق، ص 43.
(35) Novalis, Œuvres complètes, (Paris: Gallimard, volume 2, 1975), 66.
(36) فلسفة فيخت فَتَحَت الأفق الذي أتاح التحول من الفلسفة الكلاسيكية؛ حيث الإنسان في بحثه عن السعادة في معرفة الله، إلى العصر الحديث حيث وجد الخلاص والسعادة بالمعرفة وبتحقيق ذاته في العالم، ويصف هيجل مثالية فيخت بالمثالية الذاتية، في حين يتحدث عن مثالية موضوعية عند شيلينغ الذي استجابت فلسفته لمرحلة التطور الفكري الألماني في عصره. انظر في هذا الصدد: كتاب لوبارون بارشو (Le Baron Barchou):
Histoire de La Philosophie Allemande Depuis Leibnitz Jusqu’a Hegel (France, Hachette, 2013).
(37) الحيدري، عصر الرومانسية الإعلامية، مرجع سابق، ص 46.
(38) عبد الله الزين الحيدري، الإعلام الجديد: النظام والفوضى، (تونس، دار سحر للنشر، 2012).
(39) Maurice Halbwachs, Les cadres sociaux de la Mémoire (P.U.F, 1925), 371- 372- 377.
(40) Maffesoli, Le temps des tribus, 121.
(41) الحيدري، الإعلام الجديد، مرجع سابق.
(42) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، (تونس، الدار التونسية للنشر، 1986)، ص 36.
(43) عبد الله إبراهيم وآخرون، معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990)، ص 49.
(44) الحيدري، عصر الرومانسية الإعلامية، مرجع سابق، ص 48.
(45) عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، ترجمة دلال عباس، (لبنان، دار الجديد، 2002)، ص 102.
(46) انظر: عبد الله الزين الحيدري، “الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام”، مركز الجزيرة للدراسات، 26 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/2NYGHtk
(47) المرجع السابق.
(48) الحيدري، عصر الرومانسية الإعلامية، مرجع سابق، ص 41.
(49) Jean Piaget, La construction du réel chez l’enfant (Paris: Delachaux et Niestlé, 1937).
(50) Vittorio Villa, “La science juridique entre descriptivisme et constructivisme,” in Paul Amselek (dir.), Théorie du droit et science (Paris: PUF, 1994), 281-288.
(51) Peter Berger, Thomas Luckmann, La Construction sociale de la réalité, 3e éd (Armand Colin, 2012).
(52) ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، (بيروت، دار الكتب العلمية، 1991)، ج 3، ص 89.
(53) Bruno Latour, Michel Callon (redacteurs-Collaborateurs), La science telle qu’elle se fait: anthologie de la sociologie des sciences de langue anglaise (La Découverte, 1991).
(54) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها، (دار الأرقم، 2004)، ص 10.
(55) Abdallah Hidri, “Information et Espaces d’Information,” R.T.C, no 13, (1989): 25-35.
(56) انظر: بايوسف مسعودة، الهوية الافتراضية: الخصائص والأبعاد، مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، (العراق، جامعة بغداد، المجلد 3، العدد 5، 2011).
(57) كامل محمد عويضة، نري برغسون: فيلسوف المذهب المادي، (دار الكتب العلمية، 1993)، ص 43.
(58) لويس الرابع عشر ملك فرنسا، ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
(59) Jacques Bouveresse, “Le règne de Louis XIV, ou la rupture définitive entre la société française et la monarchie,” Les Annales de droit, no 10, (2016): 77-96.
(60) لقد كانت هذه المقاهي التي انتشر ظهورها في باريس، بداية القرن الثامن عشر، فضاء ثقافيًّا يحمل أسماء أصحابها ويجمع أعلام الفكر والفن. ومن أشهر المقاهي الأدبية نذكر مقهى فرانسيسكو بروكوبيو (Francesco Procopio) المعروف باسم: (Le Procope) والذي تمَّ افتتاحه سنة 1695 بباريس وكان يلتقي فيه دنيس ديدرو (Denis Diderot) ونيقولا كوندورسي (Nicolas de Condorcet) وجان لورن دالمبير (Jean Le Rond d’Alembert) وفولتير (Voltaire) وجون فرانسوا مارمونتال (Jean Francois Marmontel). أما الصالونات الأدبية التي أسهمت في ازدهار الفكر، فنذكر صالون مدام دوستايل (Madame De Stael)، الذي كان يمثِّل أحد مراكز الحياة الباريسية، وكذلك صالون مدام لومبار (Le Salon de Madame Lambert)، الذي يلتقي فيه مونتسكيو (Montesquieu) وماريفو (Marivaux) وفونتونال (Fontenelle) وغيرهم.
(61) الحيدري، “عصر الرومانسية الإعلامية”، مرجع سابق، ص 47.
(62) “التغذية الغزيرة”، عبارة باتت تُستخدم في التحليل الكمي للتغريدات المعزَّزة بعمل التطبيقات المساعدة المعروفة باسم البوت.
(63) قبل أن تباشر الحكومة (…) المنتخبة مهامها الثقيلة لإرساء دولة الحق والقانون، وتوفير ما يسمِّيه كانط بالكرامة الشخصية، وقبل أن تضطلع بمسؤولية كنس الفساد من مؤسسات المجتمع المدني، والانكباب الفعلي على تدبير الحلول الاقتصادية واحتواء المشكلات الاجتماعية الجاثمة منذ عقود على حياة الناس، بدأ يطفو على السطح الميدياتيكي خطاب ينذر بخطورة الحالة السياسية وتدحرجها إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة. وسرعان ما بدأ هذا الخطاب يزدهر في تناغم مثير بين قنوات الإعلام السمعي/المرئي بالخصوص. خطاب يسخر من أول رئيس يُنتخب، ويُقبِّح أول حكومة شرعية، ويتصدى بقوة لفتح باب تحول المبادئ التي أفرزتها الثورة، ولا يتوانى في عدِّ اختيار الشعب اختيارًا ساذجًا، مقدِّمة للإفصاح عن فشل الحكومة والدعوة إلى إسقاطها وإلغاء دورها، لأن الخطاب في بعض مفاصله ينذر أيضًا بأن استمرار هذه الحكومة سيؤدي إلى خراب المحتوى الرمزي والديمقراطي للدولة. راجع: عبد الله الزين الحيدري، مواهب إنتاج الفشل في تونس، الفجر نيوز، 29 سبتمبر/أيلول 2012، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/2YQI6D4
(64) الطُّرطور المرزوقي (بضم الطاء الأولى)، فيسبوك، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/32vwc3B
رابط المصدر:
http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2019/10/191017121313743.html