أثارت الزيادة الأخيرة في صادرات الوقود الروسي حيرة العديد من الخبراء الغربيين، خصوصًا في ظل العقوبات المستمرة والتزامات خفض الصادرات.
وقد وصلت تلك الصادرات أعلى مستوى لها منذ 8 أشهر بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفقًا لبيانات حديثة.
ويستعرض هذا المقال تفاصيل زيادة صادرات الوقود الروسي وتداعياتها على أسواق الطاقة العالمية وإنفاذ العقوبات.
زيادة غير متوقعة في صادرات زيت الوقود
بلغ متوسط صادرات المنتجات النفطية الروسية نحو 2.7 مليون برميل يوميًا، وهو ما يمثّل ارتفاعًا بنسبة 6% عن مستويات أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفقًا لتقرير شركة فورتيكسا Vortexa، المتخصصة في تتبّع حركة ناقلات النفط والغاز عالميًا.
ويعني ذلك زيادة بنحو 157 ألف برميل يوميًا عن الأرقام المسجلة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويُعدّ هذا الارتفاع في صادرات زيت الوقود لافتًا، بالنظر إلى الوعد الذي قطعته روسيا في وقت سابق بخفض صادراتها من النفط.
وكانت روسيا تعهّدت بخفض صادراتها النفطية بمقدار 300 ألف برميل يوميًا بحلول نهاية عام 2023، مع خفض إضافي قدره 200 ألف برميل للعام الحالي، بإجمالي تخفيض قدره نصف مليون برميل، ومع ذلك، فإن الواقع يقدم تناقضًا صارخًا.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، بلغ متوسط صادرات الديزل والديزل الأحمر الروسي نحو 1.17 مليون برميل يوميًا، وهو أعلى مستوى في أي شهر من العام الماضي.
ويُعد هذا التطور جديرًا بالملاحظة، خصوصًا بعد أن خفّفت موسكو القيود على شحنات الديزل الدولية، وانتعشت الصادرات من مواني البحر الأسود بعد التأخيرات المرتبطة بالعواصف في نوفمبر/تشرين الثاني.
بلبلة بين المحللين
لقد شكّلت ديناميكيات إستراتيجيات التصدير الروسية تحديًا للنماذج والتوقعات التحليلية التقليدية، وأصبح تنفيذ العقوبات معقدًا ومحفوفًا بالمخاطر بصورة متزايدة، حتى بالنسبة إلى الشركات التي تعتزم الامتثال للقيود، وقد تصاعدت مخاطر الانتهاكات غير المقصودة، وفقًا للخبراء.
ويسلط هذا الوضع الضوء على التحديات التي تواجه مراقبة العقوبات وإنفاذها في السوق العالمية، إذ تتغيّر سلاسل التوريد وأنماط التصدير بسرعة.
وفي عصر يتسم بتصاعد التوترات الجيوسياسية، يشهد المشهد العالمي إعادة تشكيل إستراتيجي.
ومن الأمور الأساسية في هذا التحول العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على روسيا، وتستهدف في المقام الأول قطاع الطاقة الحيوي لديها.
وتسعى هذه العقوبات، التي تستهدف النفط والغاز والوقود النووي، إلى ممارسة ضغوط اقتصادية على روسيا، ردًا على نزاعات دولية مختلفة.
عدم فاعلية سقف سعر النفط
للحد من عائدات النفط الكبيرة في روسيا، أدخلت الدول الغربية آلية السقف السعري، وكانت الفكرة واضحة وصريحة؛ تحديد السعر الذي تستطيع روسيا أن تبيع به نفطها، وبالتالي خفض دخلها.
ومع ذلك، فإن الآلية لم تَرقَ إلى مستوى التوقعات، وتعود عدم فاعليتها إلى عدة عوامل، بما في ذلك التدابير الإستراتيجية المضادة التي اتخذتها روسيا والطبيعة المعقدة لأسواق النفط العالمية.
وما يزيد من تفاقم الوضع أن المناقشات جارية بشأن فرض عقوبات إضافية، مثل حظر بيع ناقلات النفط إلى روسيا، ويمكن لهذه العقوبات المحتملة أن تزيد من إرباك المشهد الجيوسياسي المعقد حاليًا.
ويوضح الرسم التالي، الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة، إنتاج النفط الخام الروسي منذ عام 2016 وتوقعاته حتى 2029:
الرد الروسي وتكتيكات المراوغة
في استعراض للمرونة والمناورة الإستراتيجية، تمكّنت روسيا من التغلب على هذه العقوبات ببراعة، ومن خلال إنشاء أسطولها الخاص من الناقلات وشركات التأمين، تحايلت روسيا على العقوبات وحافظت على صادراتها من النفط، وفي بعض الحالات، زادتها.
وتُظهر هذه البراعة قدرة روسيا على التكيف وقدرتها على الاستفادة من الموارد المحلية والحلفاء، للحفاظ على وجودها في سوق النفط.
ويمتد تأثير هذه التدابير إلى ما هو أبعد من روسيا، إذ يؤثر في ديناميكيات سوق النفط العالمية وهياكل التسعير.
الاعتماد على النقل البحري
يرتبط الاقتصاد الروسي ارتباطًا جوهريًا بطرق النقل البحري، خصوصًا تلك الموجودة في منطقتي البلطيق والبحر الأسود، ولا يمكن التقليل من أهمية هذه الطرق، لأنها شرايين حيوية لصادرات النفط والحبوب الروسية.
من ناحيتها، تأكدت أوكرانيا من أن الممر في البحر الأسود يعمل مجدّدًا على الرغم من كل الجهود التي بذلتها روسيا لإغلاق إحدى نقاط الاختناق الحرجة للسلع الغذائية، بعد انسحابها من مبادرة حبوب البحر الأسود في يوليو/تموز 2023 (بوساطة تركيا والأمم المتحدة).
ومنذ أغسطس/آب 2023، تم شحن نحو 15 مليون طن من سلع التصدير، بما في ذلك نحو 10 ملايين طن من الحبوب الأوكرانية، عبر هذا الممر البحري.
من جهة ثانية، فإن هذه التبعية تعرض نقاط ضعف. على سبيل المثال، إذا كثفت دول مثل الدنمارك عمليات التفتيش على السفن التي تحمل النفط الروسي، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض كبير في الصادرات.
وستؤثر مثل هذه الإجراءات في قدرة روسيا على تصدير النفط، وسيكون لها آثار أوسع في إمدادات النفط العالمية وأسعاره.
موقف روسيا الثابت وإستراتيجياتها المستقبلية
في مواجهة هذه التحديات، اتخذت روسيا موقفًا حازمًا، ودافعت بقوة عن مصالحها وحقوقها. وبالنظر إلى المستقبل، تستكشف روسيا إستراتيجيات طويلة المدى للتخفيف من تأثير العقوبات.
وتتمثل إحدى هذه الإستراتيجيات في استعمال طريق بحر الشمال بالتنسيق مع الصين.
وعلى الرغم من أن هذا الطريق يوفر بديلًا محتملًا، فإن صلاحيته محدودة حاليًا بسبب الافتقار إلى قدرات الملاحة على مدار العام.
ومن ناحية أخرى، فإنه يدل على التزام روسيا باستكشاف كل السبل لدعم صادراتها من الطاقة.
التأثير الأوسع في أسواق النفط والغاز
تمتد تداعيات العقوبات إلى ما هو أبعد من روسيا، وقد أسهم انخفاض إنتاج النفط الروسي في ارتفاع أسعار النفط العالمية، ما أثر في البلدان بجميع أنحاء العالم.
وفي قطاع الغاز، تسبب انخفاض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا في إعادة توزيع معقدة لمصادر الطاقة. انخفضت إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا بسبب مشكلات فنية فردية تتعلق بخطوط أنابيب الغاز والقرارات السياسية.
رغم ذلك، يستمر توريد الغاز المسال الروسي إلى أوروبا، لأن الأسعار أفضل مقارنة بنظيرتها في آسيا.
ويستعرض الرسم التالي، الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة، إنتاج الغاز الروسي منذ عام 2016 وتوقعاته حتى 2030:
الوقود النووي: إنتاج روسيا دون رادع
على الرغم من العقوبات والضغوط الدولية التي تواجهها، تظل روسيا لاعبًا رئيسًا في سوق الوقود النووي. ويسلط الافتقار إلى بدائل عملية للوقود النووي الروسي، إلى جانب المخاوف الناجمة عن تجارب أوكرانيا، الضوء على الديناميكيات المعقدة لهذا القطاع.
سوق الوقود الروسي في عام 2023
في عام 2023، شهدت سوق وقود السيارات في روسيا تقلبات غير مسبوقة، إذ سجل سقف الأسعار أدنى وأعلى مستويات قياسية.
وعلى الرغم من التدخلات التنظيمية التاريخية من جانب الحكومة، فإن التحولات السريعة في السوق استلزمت استجابات أسرع.
ونجحت التدابير التنظيمية في بعض الأحيان في تخفيف التصاعد السريع في الأسعار، على الرغم من تباين النتائج.
وارتفعت أسعار التجزئة للبنزين والديزل في نهاية المطاف بما يزيد قليلًا على 5% بحلول نهاية عام 2023 مقارنة ببداية العام، ما أدى إلى تجنب حدوث ارتفاع كبير، وشهد قطاع الجملة تقلبات أكبر، إذ تضاعفت الأسعار في بعض الأحيان على مدار العام.
وشهد شهر يناير/كانون الثاني 2023 تسجيل بورصة سانت بطرسبرغ الدولية للسلع والمواد الخام مستوى قياسيًا منخفضًا للبنزين (92 أوكتان) عند 32 ألفًا و861 روبلًا (367.71 دولارًا) للطن.
(الروبل الروسي = 0.11 دولارًا أميركيًا)
وعلى العكس من ذلك، في أوائل سبتمبر/أيلول الماضي، ارتفعت الأسعار إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 70.372 روبلًا للطن، ولا تُعزى هذه التقلبات فقط إلى اختلال التوازن بين العرض والطلب، وبدأت اتجاهات الأسعار بصورة متواضعة في أوائل عام 2023، ولكنها تصاعدت في الربيع.
وبحلول شهر مارس/آذار الماضي، تم تداول سعر البنزين (92 أوكتان) بنحو 45 ألف روبل للطن، وارتفع إلى 47 ألفًا في أبريل/نيسان الماضي، ووصل إلى 52 ألف روبل بحلول مايو/أيار الماضي، واستمر في الزيادة حتى الخريف.
وعلى الرغم من أن الارتفاعات في منتصف العام شائعة بسبب الطلب الموسمي وصيانة المصافي، فإن الذروة في عام 2023 امتدت إلى ما هو أبعد من هذه العوامل.
وأدى تغيير كبير في السياسة خلال أبريل/نيسان الماضي إلى خفض المدفوعات “المثبطة” لشركات النفط بمقدار النصف.
وتعمل هذه المدفوعات، المعمول بها منذ عام 2019، بمثابة عامل استقرار في السوق، فعندما تكون الأسعار العالمية مرتفعة، فإنها تمنع ارتفاع الأسعار المحلية عن طريق تعويض شركات النفط، وعندما تكون الأسعار العالمية منخفضة، تتقاسم الشركات أرباحها المحلية مع الدولة.
في المقابل، واجهت آلية المدفوعات المثبطة تحديات في أعقاب الحظر الغربي وتحديد سقف لأسعار النفط الروسي، ما أدى إلى ضبابية في حساب هذه المدفوعات.
وأشار وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، إلى أن الصيغة أصبحت بالية، ما يعقد عملية مواءمة التسعير المحلي مع الأسواق الدولية.
واستجابة لهذه الضغوط السوقية، خفض التشريع الصادر في منتصف يوليو/تموز الماضي المدفوعات المثبطة، بدءًا من الأول من سبتمبر/أيلول الماضي، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار في ذلك الشهر.
ردًّا على ذلك، حظرت الحكومة تصدير البنزين والديزل في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، ما حد من تجارة المضاربة التي دعمتها الزيادات الكبيرة في الأسعار وانخفاض قيمة الروبل، وقد أثبت الحظر فاعليته، ما أدى إلى انخفاض أسعار الصرف وزيادة توافر الوقود المحلي.
وتم رفع القيود تدريجيًا خلال الأشهر التالية، مع الاعتراف بالحاجة إلى مواصلة عمليات التكرير والحفاظ على إيرادات الميزانية من الصادرات.
وتم التراجع عن قرار الصيف بخفض المدفوعات المثبطة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما أدى إلى إعادة الدفعات الكاملة.
وهكذا، حصلت شركات النفط على مدفوعات الدولة مخفضة لمدة شهر واحد فقط.
التوقعات لعام 2024
في عام 2023، شهدت سوق النفط الروسي تدخلات تنظيمية لها آثار ضريبية كبيرة في العام المقبل.
وعلى الرغم من إعادة مدفوعات المثبطة الكاملة، فإن الشروط التي فرضتها الحكومة، ستجعل شركات النفط التي تتلقى هذه المدفوعات تواجه زيادة في ضريبة استخراج المعادن في يناير/كانون الثاني 2024.
بالإضافة إلى ذلك، سترتفع ضريبة استخراج المعادن على المكثفات لشركة غازبروم، وستشهد المصافي التي تزود الأسواق المحلية أقل من 40% من وقودها بفوائد مخفضة.
وتمثّل التركيز الرئيس في طريقة تقييم النفط الروسي في الأسواق الدولية، وهو أمر بالغ الأهمية لحساب المدفوعات المثبطة وضريبة استخراج المعادن.
في السابق، اعتمدت وزارة المالية الروسية على أسعار خام الأورال التي تقدمها وكالة آرغوس للعموم، على أساس الأسعار في المواني الأوروبية.
وسيؤدي الحظر، الذي سيدخل حيز التنفيذ بدءًا من 1 يناير/كانون الثاني 2024، إلى إنهاء هذه المنشورات، ما يستلزم معايير جديدة لحساب الضرائب.
وتشير تقارير وكالة إنترفاكس الروسية إلى أن سعر الضريبة الجديد على خام الأورال سيكون الأعلى من بين 3: برنت مطروح منه حسم محدد، وسعر خام الأورال في المواني الروسية، وسعر بورصة سانت بطرسبرغ للأوراق المالية بدءًا من عام 2025.
ومن المتوقع أن تبلغ الحسومات المقدرة 15 دولارًا لعام 2024، ثم تنخفض إلى 10 دولارات لعام 2025، و6 دولارات لعام 2026، وهو أقل بكثير من أرقام عام 2023، وقد استجابت صناعة النفط بحذر لهذه التغييرات.
وانتقد الرئيس التنفيذي لشركة روسنفط، إيغور سيتشين، السياسات الضريبية التي أدت إلى أزمة سوق الوقود الروسية، ما استلزم فرض حظر مؤقتًا على التصدير.
وسلط سيتشين الضوء على القضايا الناشئة عن “القرار غير المتطور للحد من المدفوعات المثبطة”، الذي أدى إلى أزمة دفعت وزارة المالية إلى مراجعة المعايير الضريبية.
ودعا سيتشين إلى منهجية تسعير منقحة تعكس ظروف السوق الحقيقية للنفط الروسي، بدلًا من الاعتماد على أسعار برنت.
ونظرًا إلى أن أوروبا لم تعد سوقًا رئيسة للنفط الروسي، يعتقد سيتشين أن الأسعار يجب أن تحددها مناطق التجارة الفعلية.
خاتمة
يمر مشهد الطاقة العالمية بحالة من التقلبات جرّاء العقوبات المستمرة ضد روسيا، وقد أدت هذه التدابير إلى سلسلة من الاستجابات والتكيفات الإستراتيجية، ليس فقط من جانب روسيا والمجتمع العالمي ككل.
ومع تطور الوضع، سوف يستمر تأثيره في قطاع الطاقة والعلاقات الدولية بطرق عميقة.
ويسلط الارتفاع الأخير في صادرات الوقود الروسي الضوء على التعقيدات وعدم القدرة على التنبؤ بأسواق الطاقة العالمية، في ظل الضغوط السياسية والاقتصادية، ويثير تساؤلات بشأن فاعلية العقوبات والإستراتيجيات التي تستعملها الدول للتغلب على هذه القيود.
ومع تطور الوضع، فإنه يؤكد الحاجة إلى أساليب تكيفية وشاملة في تحليل السوق وإنفاذ العقوبات.
وكان عام 2023 بمثابة لحظة محورية لأسواق الوقود العالمية، إذ تميّز بطرق الإمداد المتغيرة، والداخلين الجدد إلى السوق، والعديد من الاضطرابات التنظيمية.
وكان على الحكومة الروسية أن تعدل التشريعات والصيغ الضريبية، ما يؤثر في أسعار الصرف.
تجدر الإشارة إلى أن اضطرابات السوق هذه نادرًا ما أثرت في أسعار الوقود بالتجزئة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تضاؤل وجود اللاعبين المستقلين وبراعة الحكومة في إدارة الشركات الكبيرة المتكاملة رأسيًا.
ومع انتهاء عام 2023، يبدو أن إعادة هيكلة السوق قد اكتملت إلى حد كبير.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
المصدر : https://attaqa.net/2024/01/13/%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%b5%d8%a7%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%82%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a-%d8%aa%d8%ab%d9%8a%d8%b1-%d8%ad%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%a7/