النصيحة هي من أهم عناصر عملية استنقاذ الأمة وبناء نهوضها، تمنع من الوقوع في الضلالة، لذلك لا تكتمل عملية الاستنقاذ إلا بهذين الأمرين (النصيحة والتضحية)، واستشهاد الإمام الحسين، ولد صدمة تاريخية كبرى أدت إلى استمرار عملية استنقاذ الأمة، على طول التاريخ في الحاضر والمستقبل من الجهالة وحيرة الضلالة…
جاء في زيارة الأربعين التي هي من الزيارات العظيمة في معانيها، وكل الزيارات معانيها عظيمة، هذا المعنى العميق ويمكن أن نقول بأنه جوهر هذه الزيارة:
(وَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ، وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ؛ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ، وَحَيْرَةِ الضَّلالَة)(1).
في هذا المقال نريد أن نسلط الضوء على فقرة من فقرات الزيارة وهي (ومنحَ النصيحة)، فما الذي يراد من النصيحة هنا؟
في هذه الزيارة كذلك نلاحظ هذه الجملة (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك)، فالهدف هو الاستنقاذ، والطريق لهذا الهدف هو (منح النصيحة وبذل مهجته)، فالنصيحة هي من أهم عناصر عملية استنقاذ الأمة وبناء نهوضها، فالنصيحة تمنع من الوقوع في الضلالة، لذلك لا تكتمل عملية الاستنقاذ إلا بهذين الأمرين (النصيحة والتضحية)، أحدهما يسند الآخر.
وفي الآية القرآنية: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، محمد 24. تعبير عن القلب المقفل الذي لا يعي الأمور ولايدرك النصيحة، فيحتاج إلى صدمة كبيرة، وهذه الصدمة كانت تتجسد في تضحية واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذه الصدمة ولَّدت صدمة تاريخية كبرى أدت إلى استمرار عملية استنقاذ الأمة، فالاستنقاذ ليس محصورا في ذلك اليوم، بل هو استنقاذ مستمر على طول التاريخ في الحاضر والمستقبل من الجهالة وحيرة الضلالة.
لذلك فإن هناك حاجة حتمية الى النصيحة، لأنه النصيحة تمنع الإنسان من السقوط، لأنه أغلب الذين يسقطون في امتحانات الحياة هم الذين لا يلجؤون إلى النصيحة ولا يقبلون بها، وخصوصا الناصح الأمين المتمحض في النصيحة الجيدة السليمة الخالية من الغبن والسوء، لذا فإن هذه الأمة التي سقطت في الجهالة وحيرة الضلالة، لو كانت قد استمعت للنصيحة لما وقعت في هذه المأساة وهذه الضلالة، وهذا السقوط المريع لتلك الأمة التي خذلت الإمام الحسين (عليه السلام).
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) الأعراف 68.
النصيحة مسؤولية وأمانة
فالنصيحة هي تبليغ والقاء الحجة (وَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ، وَمَنَحَ النُّصْحَ) على الناس حتى لا يقولون أنه لم يخبرنا أحد ولم ينصحنا أحد، فالإمام الحسين (عليه السلام) من أول خروجه فيه إلى كربلاء كان مستمرا في القاء الحجة وإعطاء النصائح، علّهم يستمعون، ولكن للأسف الشديد لم يستفيدوا منها.
لذلك فإن النصيحة هي مسؤولية وأمانة، وعلى كل مسلم ومؤمن وموالٍ أن يعطي أهمية لهذه القضية، وكذلك هي واجب عقلا على المستنصَح، وعليه قبول النصيحة خصوصا اذا جاءت من نبي مرسل او امام معصوم.
فالتعاون واجب، ومن حق الله على المؤمنين التعاون في النصيحة، أو التعاون في النصح، فهذا ما يريده الله سبحانه وتعالى، ومن حق الله سبحانه على الإنسان أن يقوم بالنصيحة، ويعطي النصيحة للآخرين في سبيل الله حتى يقف أمام ذلك الانهيار وذلك السقوط.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه)(2)، وأعظم الناس هو الذي يمشي مستمرا في اعطاء النصيحة في كل مكان في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك الامام الحسين (عليه السلام) اعظم منزلة لأنه اعظم من نصح في استنقاذ الناس بأن بذل مهجته وأهله وولده.
المعنى اللغوي والاصطلاحي
إن النصيحة بمعناها اللغوي والاصطلاحي، هي دلالة على الصدق، فإذا ذهبت إلى أحد الباعة للتبضع، وكان هذا البائع أمينا، فإنه ينصحك ويخبرك عن نوع البضاعة ودرجة جودتها، أما إذا كان البائع غير أمين فسوف يغشك، ولذلك فإن الغش ضد النصيحة.
يُقال نصحتُ نصيحتي نصوحا، أي أخلصتُ وصدقتُ، كالإخلاص لله تعالى، فالنصح هو الخلوص في الذِكر وهو النقاء الذي يشبه الإخلاص، فالنصيحة هي الخلوص، في المعنى وفي الكلمة وفي القول، بمعنى أقول ما هو خالصا، ولا أترك في القول شوائب أو هوامش أو قضايا أخرى، هذا هو معنى الخلوص والنصيحة، وكذلك بمعنى إرادة الخير، من الناصح للمنصوح.
النصح أقوى من المشورة
فإذا كانت النصيحة فيها شر وباطل، وامور غير شرعية، مثلا أنصح أحدهم بالقول أن الشيء الفلاني حرام وهو حلال او العكس، فهذه ليست نصيحة وإنما هو غش، والنصح هو نوع من المشورة، ما خاب من استشار، لكن النصح هو أقوى من المشورة لأن النصيحة فيها خلوص.
كذلك فإن النصيحة هي (النصيحة هي الدعاءُ الى ما فيهِ الصلاح والنهي عمَّا فيهِ الفساد والشر)، فكل شيء يُقال في الصلاح والإصلاح والخير يدخل في باب النصح، أما أي شيء عكس ذلك فهو غش وخيانة.
وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (لا إخلاص كالنصح)(3)، وهذا يعبر عن معنى، النصيحة، وهو الإخلاص والنقاء والوضوح.
في جامع السعادات نقرأ: (إن النصيحة هي ضد الحقد والكراهية والحسد، وهي إرادة بقاء نعمة الله للمسلمين، وكراهة وصول الشر إليهم، وقد تطلق في الأخبار على إرشادهم إلى ما فيه مصلحتهم وغبطتهم، وهو لازم للمعنى الأول)(4)، فماذا يريد الناصح من نصيحته ولماذا يريد الوصول إلى الخير؟ لأنه يكره وصول الشر للمسلمين، ويكره زوال النعم عنهم، فغاية النصيحة أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره ما يكره لها.
النصيحة مبادرة وشعور بالمسؤولية
النصيحة تحتاج إلى المبادرة والشعور بالمسؤولية وادراك أهمية الأمانة، لذلك فإن (منح النصح) يعني أهدى، والمنحة هي الهدية، فالإنسان الذي يقدم هدية للآخر يعبر عن محبته وتقديره، ولكن المنحة أوسع في معناها من الهدية حيث لايتوقع المانح أي مقابل، ولكن في الهدية قد يتوقع الذي اهدى ردا على ذلك.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (اسمعوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم)(5)، فهذه الهدية لابد ان يستمع اليها أولا ولا يقفل قلبه، وبعد ذلك يتعقل النصيحة ويفهمها ويتمسك بها ويركز عليها، لأن النصيحة هي دروب للاتعاظ، وإخراج المنصوح من الشر إلى الخير ومن الظلام الى النور.
لذلك فإن الناصح لا يقدم النصيحة كي يحصل المنصوح على الخير فقط، وإنما يحب الخير لنفسه أيضا، فهو أيضا يحتاج لهذا الأمر ويشعر بأهميته، (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، فحتى الناصح قد يقع في المشكلة إذا تخلى عن النصح، لذلك (اعقلوها على أنفسكم) بالتمسك بها بقوة عسى أن يتجنبوا الوقوع في الانحراف.
الدين هو النصيحة
وردت روايات شريفة كبيرة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن النصيحة، وفي أبواب متعددة، وأبواب كثيرة، لماذا؟
أولا لأن الدين هو النصيحة، وهدف الدين هو بناء الإنسان وتقواه واعتداله واستقامته، وهذا كله لا يتم إلا بالنصيحة، لذلك جاء في الرواية: (الدين النصيحة).
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: (من يضمن لي خمسا أضمن له الجنة، قيل: وما هي؟ يا رسول الله قال: النصيحة لله عز وجل، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله والنصيحة لجماعة المسلمين)(6)، وبهذا المعنى فإن النصيحة عبادة، وهي الدين، وأيضا هي مسؤولية تقع على الإنسان فالدين والتدين يعني التمسك بالمنهج الديني الإسلامي، وهذه المسؤولية تقع عليَّ وعليك، وعلى عاتق الجميع.
وعن الامام الصادق (عليه السلام): (عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه)(7)، فالإنسان لابد أن يكون ناصحا تطبيقا لهذه المسؤولية، فهل تعني النصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الناصح الأمين
إن النصيحة تشمل المشورة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجبات أخرى ولكن بشكل أوسع وأعمق، فالأمر بالمعروف موجه لمن يشذ عن الطريق الصواب، أما النصيحة فهي تشمل جميع الأمور، بما فيها الأمور التي ليست من واجب الإنسان أن يقوم بها، فمسؤولية المسلم هي أن يرشد الآخر، وينبّهه على طريق وخلق وسلوك معين، لذا فالنصيحة أكبر وأشمل، لأن الإنسان الآن لا يعرف الكثير من الأمور، فيحتاج إلى من يرشده إلى الصواب، ويحتاج إلى القرين الناصح.
فكل إنسان يحتاج إلى مرشد يدله على الاستقامة، لذلك فإن النصيحة هي ارشاد الى الدين، وحسب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (الدين نصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولائمة الدين ولجماعة المسلمين)(8). هذا أولا، وثانيا النصيحة هي أمانة على الإنسان أن يؤديها، لكي نعيش معا وتكون مسؤوليتنا مشتركة، لا ان ويعيش يعمل لنفسه فقط فيكون خائنا لدينه ومجتمعه، فنحن نعيش جميعا في قارب واحد، وأرض واحدة، والنجاة ان أكون أمينا ناصحا مع صديقي وأخي وكل فرد في المجتمع.
وفي دعاء الامام الصادق (عليه السلام) في يوم عرفة: (اللهم صل على محمد عبدك ورسولك… والمبلغ رسالاتك، فإنه قد أدى الأمانة، ومنح النصيحة)(9).
وفي الآية القرآنية: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) الأعراف 68. ان النصيحة هي أمانة، لأن النصح من دون أمانة ليس نصحا بل هو غش، كذلك حين يكون الإنسان أمينا، يعني هو مسؤول أيضا، ولهذا يجب على الإنسان أن يعطي النصيحة لأخيه أو لصديقه أو الآخرين.
مرارة النصح أم حلاوة الغش؟
عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش)(10)، ظاهر الغش جميل براق حلو، لكن باطنه قبيح مؤلم ومر، أما النصيحة فباطنها حقيقي، ولكن قد لا يكون ظاهرها واضحا أو حلو، لأن الإنسان أعمى عندما ينظر للأمور بحواسه، وأهوائه ومزاجه، فلا يبصر الواقع والحقيقية، ويفتقد البصيرة، فيشعر بآلام الحقيقة ومرارة النصح وحلاوة الغش والراحة اليه.
لكن مرارة النصح هي في الحقيقة حلاوة، لأن الإنسان يبحث عما يريحه، لكن هذه فيها ماينفعه، والبقاء في منطقة الراحة بعيدا عن النصيحة غرق في الأوهام اللذيذة.
الحقيقة المبكية ام الوهم المضحك؟
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش)(11)، لا فائدة من إنسان يضحكك ويغشك، فأنت عندما تختار صديقك أو أقرانك وزملاءك، فلا تمشِ مع الأشخاص الذين يضحكونك، فهؤلاء ليسوا أصدقاء حقيقيين لك، لذا عليك أن ترافق الصديق الذي ينصحك، وينبهك، ويقول لك الحقيقة ويخبرك بأنك مخطئ.
أي يقول لك هذا الفعل أو هذا القول خطأ، فهذا الصديق يبكيك ولا يضحكك، لكن أغلب الناس لا يقبلون الحقيقة، ولهذا فإن من لا يقبل الحقيقة يزداد ارتيابا وشكًّا، فيتعامى عن رؤية الحقيقة، أما الذي يبكيك فهو الذي يعطيك الحقيقة.
لهذا فإن الذي يحاول أن يضحكك ويبقيك في منطقة الاوهام، فإنه يغشك، ومن الأمانة بأن يؤلمك بالنصيحة، وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً وَتَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَلَا أَلَذَّ مَغَبَّةً)(12)، فالنصيحة في حقيقتها حسنة، لكن الطرف الآخر لا يتصورها حسنة، مع ذلك لابد أن تقوم بواجبك في النصح، فهذه أمانة، وعليك أن تقول النصيحة الحقيقية الكاملة، وفي ذلك احلى والذ العواقب.
الترقّي في النصيحة
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: (تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله سائلكم يوم القيامة)(13)، بعض الناس لديهم نوع من المجاملة والمصانعة في النقد العلمي المتبادَل، وهذا الامر مضرّ بكل الأحوال والمستويات، فقد يأتي أحدهم ويمدحك بعيدا عن النقد المحايد الامين، فيمنعك عن الترقّي والتطور، الذي يمكن ان يوجد في النصيحة.
فالتناصح في العلم، بمعنى المساعدة العلمية المتبادلة، الى مستوى النقد، ولكن البعض لا يقبل النقد، سواء كان عنده علم أكاديمي أو ديني أو أي علم آخر، من العلوم، لهذا نلاحظ أن هذا الذي لا يقبل النصح يعيش في أخطاء كثيرة متراكمة، فإذا لم يتناصح الناس، فهذه خيانة لها عواقب دنيوية وأخروية.
ولكن النقد بمعنى النصيحة يشترط فيه أن يكون النقد بنّاء هدفه التقويم الموضوعي الامين، والا فإنها لن تكون نصيحة، وتبدأ بملامسة معنى التجريح التسقيط والتشويه، وذلك باستخدام سوء النقد والنقد السيء، وبدلا من أن يصلح الآخرين يقوم بالعكس ويفسدهم.
والحد الفاصل بين النقد البناء والنقد الهدام، شروط للناصح والنصيحة لابد من اتباعها، قد تؤدي الى ارتقاء الانسان او سقوطه، وسوف نتناول الشروط لاحقا.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (خير الإخوان أقلهم مصانعة في النصيحة)(14)، لذا يجب أن لا توجد مجاملة ولا مصانعة في النصيحة، فأحسن الإخوان هو الذي يقول لك الحقيقة، واسوءهم من يغلفها بالمجاملة السيئة.
كيف تتم صناعة الطواغيت؟
الناجحون في الحياة هم الذين يبحثون عمّن يعطيهم النصيحة، ويتعاملون معها بشكل جاد، حتى يرون أخطاءهم ويقومون بتصحيحها، أما الفاشلون فهم الذين يعيشون مع مجموعة من المتصنعين والمتزلفين فإنه دائما يسمع منهم ما تحبه نفسه، وبالنتيجة فإن المتصنعين سوف يدمرونه، وهكذا تتم صناعة الطواغيت، فالطاغوت مستبد يحب دائما أن يسمع الكلام الذي يعجبه، لذلك سوف يسقط، ولهذا يلتفّ المتصنعون المزيفون المجاملون حول الطغاة.
بين المودَّة الباطنية والظاهرية
كذلك فإن النصيحة تعني المحبة، كما نلاحظ ذلك في منهج أهل البيت (عليهم السلام)، فالنصيحة تنبع من المحبة، وليس من الكراهية أو الحقد أو الحسد، فالنصيحة دون محبة تعبر عن شخص مضطرب وتعيس لكثرة حبه لنفسه، وعن الإمام علي (عليه السلام): (ما أخلص المودة من لم ينصح)(15).
ان الذي لا يعطيك النصيحة لا يحبك، فمن يحبك ينصحك وهذا هو معنى المودة الخالصة، أو المودة الباطنية، ولن تكفي المودة الظاهرية، فقد تجد من يحبك في الظاهر، لكنه لم يخلص في محبته لانه لم ينصحك.
وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (ليكن أحب الناس إليك المشفق الناصح)(16)، هذا هو الذي يستحق أن تحبه، أما المتصنّع أو المصانع فلا يستحق أن تحبه.
المجتمع الجيد تسوده النصيحة
فلو أردت أن تقيّم مجتمعا معيّنا، فهذا المجتمع إذا كانت تسوده النصيحة والتعاون، فإنك سوف تجده مجتمعا تسود فيه المحبة، ويوجد فيه نوع من التفاهم والتعايش والانسجام فيما بين الناس.
أما المجتمع الذي يخلو من النصيحة، سوف يبدو ظاهرا مجتمع لا يعاني من مشاكل، لكنه في الحقيقة عندما تكتشف باطنه، تجده مليء بالكراهية والحقد والحسد، فعن الإمام علي عليه السلام: (وَإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ َ سُوءُ الضَّمَائِرِ فَلَا تَوَازَرُونَ وَلَا تَنَاصَحُونَ وَلَا تَبَاذَلُونَ وَلَا تَوَادُّونَ)(17).
فمن عنده خبث السريرة من اغلال الحسد والحرص والحقد، لا يقدم المساعدة لا لصديقه ولا لأخوته، لأنه أصلا لا يمتلك قابلية تقديم النصيحة، حيث لا يوجد تعاطي إيجابي قائم على الخلوص والوضوح في الباطن والظاهر فيما بينهم وبين الآخرين، فتختفي المحبة بمعناها الحقيقي.
هذا الأمر ينعكس على العلاقات الاجتماعية السليمة التي يحتاجها المجتمع عندما نتطرق إلى النصيحة، فالمحبة تؤدي إلى النصيحة، وكذلك النصيحة تؤدي إلى المحبة، خصوصا عندما يكتشف الإنسان كم كانت النصيحة والمحبة مفيدة في تصحيح مسيرة حياته وحياة الآخرين.
الاهتداء بالنصيحة
أيضا من معاني النصيحة، هي الهداية والاسترشاد، فالنصيحة تهدي الإنسان إلى الطريق الصحيح في الحياة، وقد ذكرنا في فيما مضى الحديث: (أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنّصيحة)، لماذا؟
لأن النصيحة، هي خير، وهي حق، وهي هداية للإنسان نحو الطريق الصحيح، فهذا الإنسان الذي يقع في الخطأ والمعصية والذنب، إذا لم يكن له ناصح أمين سوف تتراكم عليه الأخطاء والذنوب والمعاصي، إلى أن يصبح في ضلالة وحيرة.
لذلك فإن هداية الإنسان تقوم بوجود الناصح، فعن الإمام علي (عليه السلام): (قد نصحتم فانتصحوا، وبصرتم فأبصروا، وأرشدتم فاسترشدوا)(18)، فمن خلال النصيحة يبصر الانسان الطريق القويم.
لهذا نجد في الزيارة المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يخاطب عمه أبا الفضل العباس: (أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالوَفاءِ وَالنَّصِيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ.. أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بالَغْتَ فِي النَّصِيحَةِ وَأَعْطَيْتَ غايَةَ المَجْهُودِ… أَشْهَدُ لَقَدْ نَصَحْتَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلاِخِيكَ فَنِعْمَ الاَخُ المُواسِي…)(19)، وقد أدى هذه المهمة العظيمة، وقام بالحق، فالنصيحة في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) هي أساس إرشاد وتوجيه الأمة، فالزائر في زيارة الأربعين عليه ان يواسي اهل البيت (عليهم السلام) بأن يسترشد بالنصح والنصيحة ويعمل بها بما يقوده إلى ما أراده الإمام الحسين (عليه السلام).
فمن يسير في طريق الإمام الحسين (عليه السلام)، عليه أن يسمع النصيحة، حتى يسلك الطريق الصحيح في حياته. بأن يسترشد بالعلماء والصالحين وأن يتعلم منهم، فيمكن أن يضيف لحياته ما هو جديد، حتى يتطور ويتقدم ويرتقي ويتكامل.
وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ)(20)، فالواجب العقلي من ناحية إرشاد العقل أنه مكلف بالنصيحة، فعليك أن تنصح الناس للحق والخير والتعاون على إقامة الحق، فمن مؤديات إقامة التعاون على الحق التناصح والتعاون على التناصح، فكلاهما يكمل الآخر.
وللبحث تتمة في كيفية تحقق النصيحة على ارض الواقع…
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ashuraa/39866