قام مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بزيارة إلى إسرائيل يوم الأربعاء 22 ديسمبر الجاري 2021، التقى خلالها بعدد من المسؤولين الإسرائيليين، والتقى على الجانب الفلسطيني الرئيس أبو مازن. على الجانب الفلسطيني، لم تطرح الزيارة أي جديد فيما يتعلق بالخط العام للسياسة الأمريكية تجاه الملف، والمتركز على العودة للالتزام الأمريكي بسياسة حل الدولتين، بعد أن كانت الإدارة الأمريكية السابقة بعيدة عن هذه السياسة لصالح تصور إقليمي للحل، فيما عُرف إعلامياً “بصفقة القرن”.
ومن الجانب الفلسطيني، يبدو أن الرئيس أبو مازن طالب مستشار الأمن القومي الأمريكي بممارسة ضغوط أكبر على إسرائيل فيما يتعلق بالممارسات الإسرائيلية على الأرض (الاستيطان – التضييق المالي على موارد السلطة الفلسطينية- الانخراط في عملية سياسية جادة).
أما فيما يتعلق بالملف الذي تصدر هذه المباحثات، فعلى ما يبدو أنه الملف النووي الإيراني، ومحاولة جيك سوليفان التعرف عن قرب على حقيقة الموقف الإسرائيلي وحدوده، بما يسمح بتنسيق مشترك على الأقل؛ لتفادي أي سياسة إسرائيلية قد تضر بمسار الملف التفاوضي، أو تضر بالموقف الاستراتيجي بالمنطقة ككل. من هنا نرصد في هذا التقرير أبعاد هذه الزيارة على هذا المستوى، لمحاولة استشراف انعكاساتها على حدود التوافق الأمريكي الإسرائيلي فيما يخص الملف الإيراني.
الموقف الراهن فيما يتعلق بإيران
تأتي هذه الزيارة في توقيت مهم؛ بالنظر إلى فشل جولة المفاوضات الأخيرة بين إيران والغرب، وإصرار فريق التفاوض الإيراني الجديد على عدم الالتزام بما توصلت إليه الجولات السابقة، مع التمسك بشروط تفاوضية عالية المستوى: مثل الرفع الكامل للعقوبات قبل الدخول في أي مناقشات حول الملف النووي، وطرح قضايا أخرى تتعلق بتعويض إيران عن الأضرار التي لحقت بها جراء العقوبات منذ 2018 وحتى الآن.
وهي المطالب التي تعرقل بالفعل فرص الوصول إلى اتفاق خلال الفترة القريبة، تماشيًا مع الاستراتيجية الإيرانية في التفاوض والقائمة بالأساس على محاولة كسب الوقت، على أمل أن تتمكن خلال الفترة القادمة من فرض واقع تفاوضي جديد يصعب تجاوزه عمليًا، خاصة مع إصرار إيران على الرفع التدريجي لنسب التخصيب (التي وصلت في الوقت الراهن إلى حدود 60%) وهي نسبة تضع إيران على عتبة النسبة المطلوبة لإنتاج السلاح النووي (نسبة 90%).
الرؤية الإسرائيلية لكيفية دفع عملية التفاوض
بينما عبرت معظم الأطراف المفاوضة لإيران بما فيها القوى الأوروبية عن انتقادها لطريقة ونهج التفاوض الجديد لإيران، ظلت إسرائيل تتحرك في عدة اتجاهات بخطاب واحد مضمونه أن إيران لن تفهم إلا لغة القوة، وأنه بدون أن تدرك إيران جدية التهديدات بعمل عسكري ضدها في حال عدم استجابتها للمطالب الدولية ستظل تناور وترواغ وتكسب الوقت، حتى تفرض الأمر الواقع على المجتمع الدولي، أو على الأقل تنجز اتفاقًا جديدًا لا يُلبي سقف المطالب الإسرائيلية، أو حتى جُملة التحفظات التي وضعتها إسرائيل من قبل على اتفاق خطة العمل المشتركة في 2015.
وضمن هذا الإطار، جاءت التحركات الإسرائيلية في واشنطن وفي بعض العواصم الأوروبية ومع بعض دول الخليج، لتحاول حشد تأييد دولي وإقليمي لفكرة التهديد الجدي بعمل عسكري ولو محدود تجاه إيران. وهي الجهود التي لم تتبلور ملامح نتائجها حتى الآن؛ فعلى ما يبدو أن واشنطن لا تزال مترددة بشأن هذه الخطوة، وتريد أن تفسح المجال للمسار الدبلوماسي ولجهود الوسطاء الأوروبييين، وربما بالتعويل على دور لروسيا والصين بهذا الخصوص.
وذلك باعتبار أن وجود إيران نووية ليس في صالح كل الدول المشاركة في المفاوضات، وليس في صالح جهود الأمن الإقليمي وضبط التسلح في المنطقة بشكل عام وفي منطقة الخليج بشكل خاص. كذلك لا تزال دول الخليج مترددة إزاء تأييد الرؤية الإسرائيلية بشكل واضح، لخشيتها من ردة فعل إيران ضدها، مع التهديد الواضح من إيران بأنها ستستهدف أي مواقع أو تمركزات أو مدن ستنطلق منها أي هجمات ضدها (في إشارة غير مباشرة للقواعد والمصالح الأمريكية بدول الخليج).
ونشير في الأخير إلى أن إسرائيل ليست ضد المسار التفاوضي مع إيران بالمطلق، خاصة أن هذا المسار تنخرط فيه القوى العظمى في العالم، علاوة على حليفتها الولايات المتحدة، وبالتالي لن يكون بمقدور تل أبيب أن تسير وحدها ضد التيار، لكن ما تحاول فعله حاليًا إنما يصب في اتجاهين استراتيجين أساسيين:
أولهما: ممارسة ضغوط على كافة القوى المفاوضة لإيران، لدفعها إلى عدم التوقيع على إتفاق سيئ، على أساس أن اتفاقًا سيئًا كالذي وُقع في 2015 يُمكن إيران من تطوير تكنولوجيا سلمية، تسمح لها مستقبلا -في حال عدم توافر ضوابط رقابة ومراجعة صارمة- أن تصل للسلاح النووي في حال قررت التراجع عن هذا الاتفاق مستقبلاً، علاوة على ضرورة تضمين أي اتفاق جديد المخاوف والشواغل الإسرائيلية الأمنية من التحركات الإيرانية الاقليمية، خاصة في سوريا ولبنان وغزة.
ثانيهما: طرح رؤية مفادها أن إيران لن ترضخ للمطالب الأمريكية والأوروبية، دون أن تشعر بأنها ستدفع بالفعل تكلفة عالية مقابل استمرارها في المماطلة وكسب الوقت، وهو ما يتطلب من وجهة نظر إسرائيل أن تدرك وتقتنع طهران بجدية الخيار العسكري ضدها بأشكاله المختلفة.
الانعكاسات المتوقعة للزيارة على حدود التوافق الأمريكي الإسرائيلي حول إيران:
من الواضح -كما سبق أن ذكرنا- أن الزيارة هدفها البحث عن نقاط التقاء مشتركة بين الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية حيال الملف الإيراني، وفي هذا الإطار نشير إلى ما يلي:
- وضع إسرائيل في سياق الترتيبات الاستراتيجية الجاري الإعداد لها بين واشنطن وموسكو (وآخرها نتائج لقاء بايدن – بوتين الأخير) بخصوص تحقيق الاستقرار الاستراتيجي في بعض مناطق الصراعات المشتركة، ومنها سوريا والشرق الأوسط والخليج، ونعتقد أن إيران قد تكون من ضمن هذه الملفات المطروحة للتوافق بين القوتين العظمتين.
- استعراض ومناقشة السيناريوهات التي تتحرك فيها الإدارة الأمريكية في تعاملها مع البرنامج النووي الإيراني على المدى القريب، مع الجانب الإسرائيلي ومنها ما يلي:
- السيناريو الأول: الوصول إلى اتفاق خلال أسابيع للعودة للامتثال الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة.
- السيناريو الثاني: التوصل إلى اتفاقية مؤقتة وفق مبدأ “التجميد مقابل التجميد”، لمنع إيران من تسريع وتيرة برنامجها النووي، مقابل تجميد بعض العقوبات ضد طهران.
جـ. السيناريو الثالث: عدم التوصّل إلى اتفاق، وبالتالي فرض مزيد من العقوبات ضد إيران.
- على المدى المتوسط، هدفت الزيارة لطمأنة إسرائيل بأن الولايات المتحدة عازمة على اتخاذ موقف أكثر تشددًا تجاه إيران، في حال عدم الوصول لنتائج ملموسة في مفاوضات فيينا التي يتوقع أن تنتهي خلال الربع الأول من العام القادم على أقصى تقدير، قد يكون من بينها تطوير العقوبات لمستويات أعلى وأشمل، وربما التفكير في عمل عسكري ضدها.
- اتضح من بعض التسريبات الصحفية الإسرائيلية عن اللقاء أن الموقف الإسرائيلي حيال ما طرح خلال هذه الزيارة يتمحور حول ما يلي:
- رفض السيناريو الثاني “التجميد مقابل التجميد”، على أساس أنه سيُوفّر شريان حياة للاقتصاد الإيراني، مع تدفّق بعض هذه الأموال إلى وكلاء إيران الذين يهدّدون إسرائيل.
- رفض تقديم أي مكافآت مجانية لإيران، وضرورة أن يتم التعامل بالفعل كما لو أن إيران وصلت إلى نسبة 90% من اليورانيوم المخصب.
جـ. محاولة إقناع الجانب الأمريكي بأهمية الخيار العسكري، أو على الأقل التلويح به بجدية، وهذا ما حاول وزير الأمن الإسرائيلي بيني جانتس فعله خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة. وكان لافتًا عشية زيارة جانتس الأخيرة لواشنطن، أن سربت وزارة الدفاع الأمريكية إلى وكالة رويترز بأن الولايات المتحدة مستعدة لإجراء تدريبات مشتركة مع إسرائيل حول أنشطة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية.
- حسب التصريحات التي خرجت من كبار المسؤولين الإسرائيليين، عقب هذه الزيارة، فإن “الأجواء كانت إيجابية وموضوعية، وتمكنت بإشعار الجانب الإسرائيلي بقدر من الاطمئنان”، وأكد مسؤول آخر “أن إدارة بايدن في وضع أفضل مما كنا نعتقد بشأن إيران، وأن الفجوات السياسية أصغر مما كان يُعتقد في السابق”.
وفي التقدير، أن هذه الزيارة لأكبر مسؤول للأمن القومي في الولايات المتحدة -والذي يحظى داخل إسرائيل بتقدير كبير واهتمام خاص، ليس فقط بسبب موقفه من إسرائيل، لكن لمراهنة إسرائيلية على قدرة سوليفان على إعادة توجيه السياسة الأمريكية تجاه إيران بصورة أقرب للرؤية الإسرائيلية، بعيدًا عن رؤية روبرت مالي وأنتوني بلينكن اللذين يؤيدان بقوة النهج الدبلوماسي- قد تكون بمثابة البداية لبناء نوع من التوافق الأمريكي الإسرائيلي حول إيران، وبما يضيق المسافات ويتجاوز الفجوات التي كانت موجودة بين الجانبين في السابق، وهو مؤشر ينبغي أن يوضع في الحسبان بالنسبة لمخططي السياسات في دول الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية، على أساس أن فرضية وسيناريو العمل العسكري (ولو كان محدودًا) أصبح أكثر قبولًا من جانب الولايات المتحدة، وهو ما يتطلب الاستعداد لهذا السيناريو الذي قد يضع المنطقة برمتها على فوهة البركان بالفعل، قياسًا على رد الفعل المتوقع من إيران، في حال تمت مهاجمتها بشكل مباشر.
.
رابط المصدر: