عبد المنعم علي
تُمثل زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى الجزائر في الخامس والعشرين من أغسطس 2022 محطة حيوية في إطار العلاقات الجزائرية الفرنسية، وبمثابة بداية جديدة عقب تأزم تلك العلاقات بينهما في أكتوبر 2021 على ضوء التصريحات التي أدلى بها “ماكرون” فيما يتعلق بالذاكرة الاستعمارية ووصفه للنظام الجزائري بــ”السياسي العسكري”. ولعل تلك الزيارة هي الثانية للرئيس “ماكرون” منذ توليه السلطة عام 2017 إلى الجزائر، والأولى من نوعها خلال فترة الرئيس “تبون”.
وتأتي تلك الزيارة في ضوء دعوة الرئيس تبون لنظيره الفرنسي بزياة الجزائر في إطار برقية التهنئة المرسلة للأخير بمناسبة فوزه الانتخابات الرئاسية (أبريل 2022)، وتبعتها مكالمة هاتفية تمت بين “تبون” و “ماكرون” ( يونيو 2022)، وهذا يُرسخ لفكرة الترابطية بينهما وأهمية احتواء الموقف التصعيدي، وجاءت الزيارة -التي استغرقت ثلاثة أيام- لتكون بمثابة محرك للمياه الراكدة وبادرة لانفراج الأزمة الدبلوماسية بين الجانبين، تُعيد علاقات الدولتين إلى طبيعتها المستقرة نسبيًا والمتفاعلة في الكثير من القضايا الإقليمية والعالمية.
ملفات مُحفزة وسياق ضاغط
تأتي زيارة “ماكرون” إلى الجزائر في إطار سياق إقليمي ودولي ضاغط يتطلب أهمية التنسيق والتعاون المتبادل، خاصة في ضوء ما تشترك فيه البلدان من ملفات حيوية باتت بحاجة إلى ترسيخ المحددات المتباينة كالجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، وهنا يمكن توضيح تلك الملفات في الآتي:
تزايد الخطر الأمني: أحد الملفات المشتركة ذات الطبيعة الخاصة في حتمية إيجاد مساحة للتفاهم والتعاون الجزائري الفرنسي تتمثل في الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، وتزايد الضغوطات في مالي (التي باتت تُقدم دعمًا عسكريًا لها من خلال شركة فاجنر العسكرية في إطار سياسة المحاور الداخلية) ونظرًا لما تمتاز به الجزائر من تأثير على المشهد المالي والليبي في إطار كونها طرفًا إقليميًا ذا مصالح متقاطعة داخل تلك الملفات الحيوية، إلى جانب تزايد مناطقية الضغوطات الأمنية على “باريس” كما هو الحال بالنسبة لبوركينا فاسو والنيجر، واتخاذها قرارًا بإعادة تحريك قواتها لمكافحة الإرهاب من مالي إلى النيجر، في إطار مساعيها إلى تعزيز نفوذها.
ويُمثل التصعيد العسكري الذي تشهده ليبيا مؤخرًا كذلك أحد دوافع التقارب المشترك؛ وذلك انطلاقًا من كون الجزائر طرفًا مهمًا في معادلة الأمن الإقليمي لما تتسم به من خصائص جغرافية وعسكرية راسخة ودورها في الملفات الحساسة في تلك المنطقة، علاوة على ما لديها من قدرات عسكرية في مواجهة الإرهاب.
التقارب المتزايد الجزائري مع كل من روسيا وإيطاليا والصين: إن روسيا بالنسبة للجزائر بمثابة شريك أمني؛ إذ تعتمد الجزائر بصورة رئيسة على تسليحها من جانب روسيا مما يُجذر من علاقتهما المتبادلة في الكثير من مناطق التلاقي في شمال إفريقيا وغربها. علاوة على ذلك، فقد شهدت العلاقات الجزائرية الإيطالية تقدمًا ملحوظًا مؤخرًا في مجال الطاقة، مما يربك حسابات فرنسا الأمنية والاقتصادية، لذا تسعى باريس إلى تدارك واحتواء الموقف مع الجزائر؛ حفاظًا على مصالحها الأمنية والاقتصادية والتأكيد على استمرارية حضورها في ذلك النطاق الحيوي.
ورقة الغاز وتفاقم الأوضاع أوروبيًا: كنتيجة مباشرة للتصعيد العسكري الروسي الأوكراني مع إطالة أمد الأزمة حتى وقتنا هذا، تراجعت مصادر الغاز المُصدرة لفرنسا والدول الأوروبية على وجه العموم بعد قرار وقف تصدير الغاز الروسي للدائرة الأوروبية، وفي إطار التقارب النيجري الجزائري في مجال الطاقة على ضوء إعلان وزير الطاقة الجزائري “محمد عرقاب” توقيع بلاده مذكرة تفاهم مع نيجيريا والنيجر لمد خط أنابيب للغاز الطبيعي عبر الصحراء في الثامن والعشرين من يوليو 2022، كأحد مخرجات المحادثات التي تمت بين الدول الثلاث التي جرت في يونيو من ذات العام، وما يخلقه من وضع تنافسي في معادلة الطاقة في غرب إفريقيا بصورة عامة وبين الجزائر والمغرب على وجه الخصوص.
جاء ذلك كليه ليُلقي بظلاله على تطلعات فرنسا في تأمين مصادر الطاقة، مستغلة بذلك العلاقات التاريخية الجامعة بينها وبين الجزائر، وضمان عدم الإطاحة بها في تلك المعادلة خاصة في ظل التقارب الجزائري الإيطالي والتركيز الروسي الصيني مؤخرًا على التعاون في قطاع الطاقة مع الجزائر، خاصة وأن هذا الخط يستهدف تصدير نحو 30 مليار متر مكعب سنويًا إلى الدول الأوروبية، فضلًا عن أن فرنسا تتطلع لإعادة تموقعها في سوق الطاقة الجزائرية التي تحظى بنحو احتياطيات نفطية تبلغ 1,5 مليار طن.
توترات الأوضاع الجزائرية الأوروبية بصورة عامة: شهدت العلاقات الجزائرية الأوروبية بصورة عامة ومع إسبانيا وألمانيا على وجه الخصوص توترات متباينة في ظل الاصطفاف الموجه لصالح الرباط فيما يتعلق بقضية الصحراء، مما أفقدها دائرة تفاعل حيوية في خضم الدبلوماسية الجزائرية الأوروبية، فاتخذت مدريد قرارًا بالاعتراف بالطرح المغربي لملف الصحراء الغربية، مما يُشكل وسيلة ضغط على الجزائر خاصة في ضوء تقاربها المتزايد مع روسيا، وكأحد تكتيكات تبدل السياسات دون الافتقاد لشركاء استراتيجيين لهم في المنطقة والمتمثل في المغرب.
لذا تسعى الجزائر إلى موازنة علاقاتها الأوروبية بالعودة إلى مربع الدفء في العلاقات مع فرنسا، لذا أبدت مرونة في تعاطيها مع مساعي “باريس” لإعادة احتواء وتدارك الازمة بينهما؛ حفاظًا على مصالحها الاقتصادية في ضوء معادلة الطاقة العالمية كما سبقت الإشارة، إلى جانب ضمان حصولها على الأسلحة لإحداث توازن في استراتيجية الردع مع المغرب التي وطدّت شراكتها العسكرية والأمنية مع إسرائيل.
ترتيبات التحالفات الإقليمية: هناك تكثيف للوجود الأوروبي والغربي بصورة عامة في أفريقيا (شمالًا وغربًا) من أجل تأمين مصادر الطاقة والغذاء المختلفة في إطار تكتيك الخروج من الدوائر التقليدية للتحالفات الغربية الأوروبية، والبحث عن أسواق بديلة وشراكات جديدة عابرة للقارات. وتسعى فرنسا في إطار المرحلة الراهنة إلى تحقيق ذلك، وهو ما بدأ بالفعل بالجولة الأولى لــ”ماكرون” إلى إفريقيا بعد انتخابه للمرة الثانية. واتضحت خارطة المصالح الفرنسية في المستقبل المنظور من خلال الجولة التي قام بها إلى كل من (الكاميرون – غينيا بيساو – بنين) لإيجاد شراكات اقتصادية في إطار ما تمتاز به تلك الدول من مقومات اقتصادية هائلة في تأمين احتياجات فرنسا المستقبلية من الطاقة والغذاء.
إرباك المشهد ومخرجات حيوية
أثارت التقارير الإعلامية المختلفة المتضمنة استقدام شخصيات دينية وعلى رأسها حاخام فرنسا الأكبر “حاييم كورسيا” ضمن الوفد الرسمي المرافق للرئيس “ماكرون” المتضمن نحو 90 مسؤولًا الأمر الذي لا يتماشى مع الموقف الرسمي والشعبي حيال هذا الملف، حالة من اللغط وأوجدت حالة من الغضب الداخلي والتحرك الحزبي لرفض قدومه ضمن الوفد الرسمي. ومن بين تلك المواقف جاء موقف حركة مجتمع السلم الإخوانية بأن تلك المحاولة تأتي في إطار الضغوطات الدولية الغربية التي تُمارس على الجزائر للتطبيع مع تل أبيب عقب حالة الزخم التي شهدها هذا الملف في أعقاب إعادة استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية إلى جانب عدد من الدول الخليجية. ورفضت أيضًا حركة البناء على لسان رئيسها حضور “كورسيا” ضمن الوفد الرسمي، وشبه ذلك بممارسات فرنسا لمقايضة الجزائر والضغط عليها للامتثال إلى التوجه العام الإقليمي نحو التطبيع مع إسرائيل.
إن التوقيع رسميًا على إعلان مشترك من أجل شراكة متجددة وملموسة وطموحة يُعد بداية حقيقية وجيدة في ترميم العلاقات الثنائية بين البلدين تضمن مصالحهما المشتركة. وبالنظر إلى مخرجات الزيارة، يمكن القول بأنها جملة من القواعد الخاصة باستراتيجية “التوجه الجديد” التي وصف بها الرئيس الجزائري مسار العلاقات الثنائية المستقبلي، حيث تم التوافق على أهمية مبادئ الاحترام والثقة والتعاون لإزالة العقبات المختلفة التي تواجه المصالح المشترك من خلال تكثيف عمل عدد من اللجان الوزارية المشتركة، ومعالجةً لقضية الذاكرة الاستعمارية التي تسبب حرجًا دبلوماسيًا بينهما فقد تم الاتفاق على إنشاء لجنة مؤرخين مشتركة من أجل النظر في كامل الفترة التاريخية منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير بدون محظورات.
وتم التأكيد على هيكلة المشاريع الابتكارية وضخ استثمارات جديدة من جانب بنك الاستثمار العام الفرنسي “بي بي آي فرانس” لتعزيز مشاريع الجالية الجزائرية، علاوة على استمرارية فرنسا في تقديم التسهيلات الخاصة بالتأشيرات الفرنسية خاصة بعدما قلصت “باريس” 50% من نسبة التأشيرات الممنوحة للجزائرين، وتم التأكيد على دراسة هذا الموضوع في إطار متكامل يراعي أبعاد الهجرة غير الشرعية. علاوة على ذلك فقد تم زيادة أعداد المنح الدراسية المقدمة للطلاب الجزائرية بإضافة 8 آلاف طالب جزائري إضافي لتلك المنح لتصل سنويًا (في الوقت الحالي بعد الإضافة) إلى 38 ألف طالب.
وختامًا؛ تُمثل تلك الزيارة فرصة تاريخية لفرنسا والجزائر وبمثابة محرك لتنشيط سياسة المحاور والاصطفاف في الشمال الإفريقي وأوروبا، ولعل تلك الزيارة بمثابة نواة لخارطة طريق محددة لمستقبل العلاقات البينية، عززت بشكل كبير من وضع رؤية مجددة منطلقة من احترام السيادة وتوازن المصالح والعلاقات المشتركة بينهما، في إطار من تحرك براجماتي فرنسي وجزائري، خاصة في ضوء ما يشهد الإقليم من توترات متعددة وتجاذبات مختلفة إلى جانب الضغوطات الدولية وعلى رأسها الأزمة الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من تأزم ملف الطاقة، لذا فالمصالح الأمنية والاقتصادية وطبيعة التهديدات الخاصة بها دافعًا قويًا نحو حتمية توطيد الشراكة بينهما. فالوضع الدولي الراهن والتغيرات العالمية في سلاسل الإمداد والأزمة الغذائية العالمية وأزمة الطاقة بعد توقف الغاز الروسي المصدر للدول الأوروبية، قد استدعي بصورة كبيرة أهمية التقارب المشترك كنمط من استراتيجية “win- win Game” للطرفين.
.
رابط المصدر: