زَينَبٌ (ع) الصَّدعُ والتقريع

نـــــزار حيدر

 

مَن يذكرُ الحُسين السِّبط (ع) مِن دونِ أَن يذكُرَ زينب الكُبرى (ع) كمَن يذكرُ الرَّسولَ الكريم (ص) ولا يذكرُ علياً بن أَبي طالبٍ (ع) الذي يقولُ عنهُ خاتم النبيِّين (ص) {مَن كنتُ مولاهُ فعليُّ مولاهُ}.

أَو كمَن يذكرُ أَميرَ المُؤمنينَ (ع) ولا يذكرُ مالكَ الأَشتر الذي قالَ عنهُ {كانَ لي كما كُنتُ لرسولِ الله (ص)} و{مَالكٌ وَمَا مَالِكٌ! وَاللهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً، وَلَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً، لاَ يَرْتَقِيهِ الْحَافِرُ، وَلاَ يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ}.

إِنَّها أَسماءٌ وعناوين تَوأَم وأَدوار تختلفُ في الظَّاهر وتتكاملُ في الجَوهرِ، لا يمكنُ الفصلَ بينهُما أَو أَن تذكُرَ واحداً وتتجاهلَ أَو تتغافل الآخر، فبمثلِ هذهِ الطَّريقة من الذِّكرى يتيهُ المرءُ ولن يعرفَ الحقيقةَ! لأَنَّها نوعٌ من مصاديقِ قولِ الله تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ}.

إِنَّ عاشوراء دماءٌ ونداءٌ، تضحِيةٌ وصبرٌ، سيفٌ ولسانٌ، صحراءٌ [كربلاء] وآفاق [السَّماء].

مَن لم يذكُر زينب (ع) كأَنَّهُ يتوقَّف بهِ الزَّمن عندَ عاشوراء من دونِ أَن ينطلقَ إِلى المُستقبل، أَو كمَن يتذكَّر الماضي وينسى المُستقبل! أَو يستحضِرُ نصفَ المُعادلةِ!.

زينبٌ (ع) هي التي انطلقت بالماضي إِلى آخرِ لحظةٍ في المُستقبلِ بقولِها للطَّاغية إِبنِ الطُّلقاء يزيد متحدِّيةً {فكِدْ كيدَكَ واسْعَ سعيَكَ وناصِبْ جهدَكَ فوَاللهِ لا تمحُو ذِكْرَنا ولا تُميتُ وحيَنا ولا تُدرِكُ أمَدَنا ولا تَرحضُ عنكَ عارَها، وهلْ رأيُكَ إلاّ فَنَد وأَيَّامكَ إِلَّا عَدَد وجمعُك إلَّا بَدَد}!.

الحسينُ (ع) تحدِّي اللَّحظة وزَينب (ع) تحدِّي كلَّ لحظةٍ، عندما وجَّهت خطابها للطَّاغية قائلةً لهُ {فوَ اللهِ ما فَرَيتَ إِلَّا جِلْدَكَ ولا جَزَزْتَ إِلَّا لحمكَ}.

الحسينُ (ع) هوَ الصِّدقُ وزَينب (ع) لسانُ الصِّدقِ {وَٱجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍۢ فِى ٱلْآخِرِينَ}.

الحسينُ (ع) هو الأَمرُ وزَينب (ع) هي الصَّدعُ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}.

الحسينُ (ع) هوَ المَوعظة وزَينب (ع) هي الواعِظ {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

الحسينُ (ع) هو الرِّسالةُ وزينب (ع) هي التَّبليغُ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} و{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} و {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

الحسينُ (ع) هو القضيَّة وزَينب (ع) هي الدَّالُّ عليها {ويلكُم يا أَهلَ الكوفةِ أَتدرونَ أَيَّ كبِدٍ لرسولِ الله فريتُم؟! وأَيَّ كريمةِ لهُ أَبرزتُم؟! وأَيَّ دمٍ لهُ سفكتُم؟! وأَيَّ حُرمةٍ لهُ انتهكتُم؟!}.

الحسينُ (ع) مُقاومةُ النَّحر وزَينب (ع) مُقاومةُ اللِّسان {أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ يَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاقِلِ وَيَبْرُزْنَ لِأَهْلِ الْمَنَاهِلِ وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْغَائِبُ وَالشَّهِيدُ وَالشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ وَالدَّنِيُّ وَالرَّفِيعُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيمٌ، عُتُوّاً مِنْكَ عَلَى اللَّهِ وَجُحُوداً لِرَسُولِ اللَّهِ وَدَفْعاً لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا غَرْوَ مِنْكَ وَلَا عَجَبَ مِنْ فِعْلِكَ}.

الحسينُ (ع) هو التحدِّي المقتُول وزَينب (ع) هي التحدِّي الحيِّ.

الحسينُ (ع) الشَّهيدُ المقتولُ وزينبٌ (ع) الشَّهيدُ الحيِّ!.

الحسينُ (ع) قُتِلَ مرَّةً وزينبٌ (ع) قُتلت مليُونَ مرَّةٍ.

إِنَّ عاشوراء بِلا زَينب (ع) رسالةٌ بِلا تبليغٍ وماضي بِلا مُستقبلٍ وصرخةٌ بِلا صدىً ونحرٌ مذبوحٌ بِلا ناصرٍ.

عاشوراء تاريخٌ يستمِرُّ بزينبٍ (ع).

خِطابُ التَّعنيفِ والتَّقريعِ

خِطابان نارِيَّان أَدلت بهِما عقيلةُ الهاشميِّين زينب (ع) بعدَ عاشُوراء واحدٌ في الكوفةِ والثَّاني في الشَّام.

الأَوَّل كانَ جماهيريّاً عنَت بهِ النَّاس [المُجتمع] والثَّاني كانَ نُخبويّاً عنَت بهِ السَّاسة والزُّعماء [السُّلطة].

الأَوَّل عنيفٌ جدّاً وشديد والثَّاني أَعنف منهُ وأَشد.

الأَوَّل نتناساهُ والثَّاني نحفظهُ عن ظهرِ قلب!.

في الكوفةِ قرَّعت العقيلةُ (ع) المُجتمع وفضحت تقصيرهُ وحمَّلتهُ مسؤوليَّة الخُذلان، أَمَّا في الشَّام فقد قرَّعت النِّظام السِّياسي وفضحتهُ وعرَّتهُ.

١/ كما أَنَّ السُّلطةَ الفاسِدة مسؤُولةٌ، كذلكَ فإِنَّ المُجتمع الفاسِد مسؤُولٌ هوَ الآخر، فإِذا ارتكبت السُّلطةُ جريمةً ما فلا تبحث عن مسؤُوليَّتها فقط وإِنَّما فتِّش كذلك عن مسؤُوليَّة المُجتمع، فالسُّلطة لوحدِها لا يمكنُها أَن ترتكبَ جريمةً ومِن أَيِّ نوعٍ كانت إِذا لم تجِد الأَرضيَّة الإِجتماعيَّة التي تُهيِّئ لها وتُشجِّعها على ذلكَ وتحُثَّها أَو على الأَقل تسكُت عنها، والسُّكوت الإِجتماعي عن جريمةِ السُّلطة من أَعظم سُبل التَّحريض عليها.

ولذلكَ وردَ في زيارةِ عاشوراء قَول المعصوم (ع) {فـَلَعـَنَ اللهُ اُمَةً قَتـَلَتـكَ وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً ظَلَمَتكَ وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً سَمِعت بـِذلك فَرَضِيَت بـه} وقولهُ (ع) {فــَلَعَنَ اللهُ اُمـةً أَسرجَت و َاَلجمـَتْ وَتـَهَيَأت وتنـقـبـت لِقـِتالِك}.

٢/ عندما ترتكبُ السُّلطةُ جريمةً ما فلا تُبرِّر للمُجتمع، ولا تُطبطب على ظهرهِ أَو تمسح فَوق رأسهِ، وإِنَّما واجههُ بالتَّقريع والتَّوبيخ بحجمِ الجريمةِ فلا تكتفي بلسانِ اللَومِ حتَّى ينتبهَ لنفسهِ فيتراجعَ عن سكوتهِ أَوَّلاً ثمَّ ينتفِض لتصحيحِ آثار الجريمةِ وذلكَ أَضعفُ الإِيمان.

أُنظرُوا إِلى لُغةِ التَّقريعِ التي يستخدمها القُرآن الكريم مع المُجتمعِ [الفِئاتِ الإِجتماعيَّةِ] التي تظلِم نفسَها فيستضعِفها الطَّاغوت لأَيِّ سببٍ كانَ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

يظُنُّونَ أَنَّ الله تعالى سيقبلُ منهُم ذرائعهُم وحِججهُم!.

إِنَّ التَّعاطف فقط معَ ضحايا الجريمة التي ترتكبها السُّلطة لا يكفي للتَّكفيرِ عن الذَّنب والتَّقصيرِ وإِنَّما ينبغي مواجهة الظَّالم بالكشفِ عن هويَّتهِ والإِصحار باسمهِ وفضحِ دَورِ كلِّ واحدٍ من المُجرمينَ الذين تعاونُوا لارتكابِها مِن دونِ تستُّرٍ على أَحدٍ أَو غضِّ الطَّرف عن آخر أَو البحث عن كبشِ فداءٍ لرمي الجريمةِ عليهِ وتبرئةِ الفاعل الحقيقي، يقولُ تعالى {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيٓـَٔةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِۦ بَرِيٓـًٔا فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.

كُن شديداً مع المُجتمع وقت ارتكابِ السُّلطةِ للجريمةِ، فلقد رمَت العقيلةُ المُجتمعَ بحِممٍ من نارٍ بخطابِها قائلةً {أَمَّا بعدُ؛ يا أَهلَ الكُوفةِ يا أَهلَ الختلِ والغدرِ أَتبكون؟! فلا رقأَت الدَّمعة ولا هدأَت الرَّنَّة، إِنَّما مثلكُم كمثلِ التي نقضَت غزلَها مِن بعدِ قُوَّةً أَنكاثاً، تتَّخذُونَ إِيمانِكُم دَخَلاً بَينَكُم أَلا؛ وهل فيكُم إِلَّا الصَّلِف النَّطِف والصَّدرِ الشَّنِف وملَقِ الإِماءِ وغمزِ الأَعداءِ، أَو كمرعى على دِمنَةٍ أَو كفِضَّةٍ على ملحُودَةٍ، أَلا ساءَ ما قدَّمت لكُم أَنفُسكُم أَن سخِطَ الله عليكُم وفي العَذابِ أَنتُم خالدُونَ}.

يجب مواجهةِ المُجتمعِ بالحقيقةِ مهما كانت مُرَّةً، فذلك هو الدَّواءُ النَّاجِعُ للمُجتمعِ الخانعِ السَّاكتِ عن الظُّلمِ والقهرِ والذُّلِّ والعبُوديَّةِ لِتهتزَّ مشاعِرهُ من الأَعماقِ لتُحرِّضهُ على تحمُّل مسؤُوليَّتهِ الدِّينيَّةِ والأَخلاقيَّةِ والسياسيَّةِ والوَطنيَّةِ.

٣/ إِذا تبنَّى المُجتمعُ شِعاراً ثمَّ ناقضهُ بسلُوكهِ أَو تعهَّد ثُمَّ أَخلفَ أَو تواصى على شَيْءٍ ولم يفِ أَو وعدَ بشيءٍ ثمَّ انقلبَ عليهِ، كلُّ ذلكَ بمثابةِ جرائِم تُعاقب عليها سُننُ الله تعالى وقوانِين العَدل الإِلهي ومُعادلات السَّماء الغيبيَّة، خاصةً إِذا كانت نتيجتها دمٌ مُسالٌ وعِرضٌ مُنتهَك وحُرمَةٌ يُتجاوَزُ عليها وأَيتامٌ تضيعُ وأَراملُ تتيهُ.

هُو بغيٌ والله تعالى يقُولُ {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُم ۖ}.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/ashuraa/24385

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M