عبد الرحيم العلام
تمهيد:
قد تبدو مقارنة كلّ من ابن خلدون (1332 – 1406) ومكيافيلي (1469 – 1527) غير ذات أهمية، وذلك بالنّظر إلى ما يمكن أن تتركه بعض مَواطن الاختلاف بينهما فكراً وحياة من إيحاء باستحالة المقارنة. إذ قد تكون المقارنة مقبولة لو تمت بين ابن خلدون ومارسيليوس دي بادوا (1275 – 1342)، هذا الأخير الذي اقتربت بعض تصوراته السياسية من أفكار ابن خلدون، وإن اختلفا من نواحٍ أخرى وهي متعددة. لكن بدا للباحث من خلال دراسة فكر كل من مكيافيلي وابن خلدون أن المقارنة تكون أكثر أهمية من غيرها[1]، ولا سيَّما من ناحية دور الدين في بناء الأمم، وذلك راجع إلى العديد من السمات التي جمعت بين الرجلين سواء من حيث تصوراتهما السياسية، أو من خلال بعض ممارساتهما السياسية. وبما أننا سننكب خلال العرض على الأفكار التي أنتجها صاحبا «الأمير» و«المقدمة»، فإنه لا بد من بعض الإشارات للسياقات التي أَنجَبت كلّاً من مكيافيلي وابن خلدون، وبعض ملامح شخصيتهما السياسية.
أولاً: قراءة سيّاقية مُقتضبة
لقد أسدَت البابوية خدمة جليلة لمدن الجمهورية الإيطالية التي نازعت الامبراطورية من أجل الحصول على استقلالها، حيث وفّرت الكنيسة لمتزعّمي الاستقلال كل الدعم اللازم في هذا المضمار. إلا أن حقيقة هذه المساندة ستتكشّف مع حصول المدن على استقلالها التام عن الإمبراطورية منتصف القرن الثالث عشر، إذ طمحَ الباباوات لحكم مملكة إيطاليا بأنفسهم، ما دفع ملوك إيطاليا المتعاقبين إلى الدخول ضدّ البابوية في سلسلة صراعات انتهت بانتصار البابوية وتسيّدها على إيطاليا. وفي هذا الوقت بدأ البابوات بمتابعة طموحاتهم الزمنية بشكل مباشر أكثر من الماضي، وذلك عبر السعي إلى استغلال السياسات الداخلية للمدن الإيطالية الشمالية. وبعد أن سيطرت البابوية على كامل التراب الإيطالي دخلت في حروب مع الامبراطورية، حيث انتُزعت من الأخيرة العديد من المناطق (بولونيا، رومانيا…) وألحقت بالحكم البابوي المباشر (سكنر، 2012: ج 1، ص 58 وما بعدها).
لكن المدن الإيطالية رفضت هذه الادعاءات البابوية وسارعت إلى تبنّي معارضة قوية لمضامينها، وشرعت في بناء أفكار وأيديولوجيات لِهَدمِ المسوِّغات البابوية الهادفة إلى تملّك السلطة الزمنية. وهكذا برزت العديد من الشخصيات الفكرية والسياسية التي رامت خلق أيديولوجية رافدة لنَزَعات الاستقلال، وكان أهم المتصدّين للحكم البابوي الكاتب «دانتي أليغييري» في رسالته عن الملكية (1265 – 1321)، إضافة إلى ما قدّمه المُصلح «مارسيليوس دي بادوا» (1275 – 1342)، الذي أسهم بشكل كبير في توفير خلفية أيديولوجية لمجابهة المزاعم البابوية الهادفة إلى بسط ردائها الدّيني على جميع مناحي الحياة الإنسانية، وذلك من خلال كتابه المدافع عن السلام. في هذا السياق النازع نحو تكريس استقلالية «الدولة»، ورفض «السموّ البابوي» سيأتي مكيافيلي.
إن الواقع الذي حاول مكيافيلي إبْداع مخارجَ له، كان فيه الدين والسياسة وثيقَي العُرى، مع محاولات جنينية لفك الاشتباك بينهما. فالفاتيكان كان لا يزال يستشهد بأقوال البابا إينوسنت الثالث والبابا بونيفيس الثامن بصفتهما مرجعيتين لدعم مطالبته بالسيطرة على العالم، ولكن تآكل النظام القديم كان واضحاً للجميع. إن اقتصاد السلطة الدنيوية الذي جاء به ماكيافيللي، وحرية الضمير التي نادَت بها حركة الإصلاح الديني استبَقت نشوء مجتمع مدني تنظّمه سلطة الدولة، وإن هي إلا مدة قصيرة حتى انهارت محاولة العصور الوسطى لفهم «الكنيسة والدولة» بوصفهما سلطتين تشريعيتين متكاملتين لجماعة مسيحية واحدة (إهرنبرغ، 2008: 122). كانت هذه بعض الخطوط العريضة للمناخ الفكري والسياسي والاجتماعي الذي خبره صاحب الأمير والمطارحات.
لئن كان صاحب الأمير قد نظّر من أجل تجاوز واقع بائس دخلته أوروبا آنذاك بفعل تداخل الدين والسياسة، وجَمْع الباباوات بين مُهمة حرق البخور وتقليد التّاج، فإن صاحب المقدمة عايش تجربة التمزّق والضعف بعد قرون من القوة والشوكة، عَرف فيها المسلمون تفوقاً في مختلف المجالات، لكن في غياب ما اصطُـلح عليه في ما بعد بـ «الحريات السياسية»، وسيادة التغلّب وتوارُث الحكم والانقلابات. وقد رافق هذا المسلسل حدوث تطوّرات في ما يخص دور الدين في «الدولة»، فمن الدمج التام بين الديني والسياسي في عهد الرسول، إلى الصراع السياسي حول السلطة إبّان الحدث «السقيفي»، مروراً بانقلاب الخلافة إلى المُلك بلغة الفقهاء أو «دولة» السياسة بلغة الفكر السياسي، وصولاً إلى اللحظة السلطانية التي عاش ابن خلدون بعض فصولها. وهي اللحظة التي تلت مباشرة انتهاء «الخلافة» العبّاسية، ودخول عرقيات جديدة إلى ساحة السلطة السياسية الإسلامية. وهي المرحلة التي تزامنت مع العصور الوسطى المسيحية، وما صاحب ذلك من صراعات سياسية بين الكنيسة والدولة (رغم أنه في تلك الفترة كانت الدولة الغربية لم تتشكل بعد وإنما لاحت بوادرها). فكان من الطبيعي أن يعيش المسلمون تاريخهم الوسيط أيضاً، هو تاريخ هيمَن عليه التجاذب بين مؤسسة «الخلافة» والمركز الجديد المتمثل بـ «السلطنة».
فلئن رام مكيافيلي التفكير في ما ينبغي أن تؤول إليه «الأمة» الإيطالية من أجل تجاوز مأزوميتها، وانتزاع الدولة من بين أنياب الإمبراطورية والكنيسة، فإن مهمة ابن خلدون تمثلت ببحث سبل استعادة القوّة والمجد الذي عاشته «الأمة» الإسلامية، قبل أن يُصيبها القحط والتصحّر، وتتوزّعها «الدول» والمماليك، أي أن الأول كان همُّه بناء الدولة بما هي حالة استقرار واستمرارية، بينما كان الثاني ينظر بأم عينيه كيف أن «الدولة» بالمعنى اللغوي الذي يُؤشِّر إلى التداول والأدوار واللّاستقرار، ساهمت في إضعاف «الأمة»، وجعلتها عرضة للأطماع والمؤامرات.
لكن ما يشترك فيه الرجلان هو أن كليهما هجرا اليوتوبيات، وانخرطا تفكيراً وممارسة في الواقع والسياسة العَمَلية. فإذا كان مكيافيلي قد شغل منصب سكرتير المستشارية الثانية لجمهورية «فلورنسا» لمدة ثلاثة عشر عاماً، فإن ابن خلدون، ورغم عدم تقلُّده المناصب السياسية، إلا أنه أدّى العديد من المهام السياسية الخارجية لبعض الأمراء، كما هاجر إلى مصر وشغل منصب القضاء المالكي بتكليف من سلطانها «الظاهر برقوق»، لمدة غير يسيرة. لقد أراد الرجلان أن يؤدّيا دوراً في السياسة العملية؛ وكلاهما فشل من وجهة نظر عبد الله العروي: «فعودة المديسيسيّين إلى فلورنسا، وبعد فاصل جمهوري قصير، أبعدت مكيافيلي عن جادات السلطة ومسالكها. عندها حاول أن يؤثر من بعيد في فعل الآخرين، لكن المديسيسيّين لم يفكروا إلا بإحراجه أمام أصدقائه السياسيين، فكلفوه بمهام ثانوية. وأراد ابن خلدون أن يوجه سياسة أمير بوجة، ثم قرر أن يربّي أمير غرناطة؛ وكل محاولة تؤول إلى السجن والفرار» (العروي، 1990: 8). كما اهتم مكيافيلي كثيراً بالقضايا العسكرية، وبذل كل ما بوسعه لكي تتخلّص فلورنسا من المرتزقة وتشكل جيشاً شعبياً، كان يظنه قادرا على التنظيم والقيادة ميدانياً، فإن ابن خلدون قد عمل، في خلال زمن معين، متطوّعاً لمصلحة السلاطين الحفصيين، لدى قبائل بني هلال التي كانت تخدم طوعاً كقوى مساعدة؛ واكتسب من ذلك خبرة في المسائل العسكرية كما كانت تُطرح في عصره (العروي، 1990: 8).
ولم يكن الاهتمام بالشأن العام هو ما جمع بين كاتبَيْنا فحسب، وإنما اشتركا أيضاً في خيبات الأمل المترتّبة عن ذلك، فعندما «أرغم مكيافيلي على تجميد نشاطه، واعياً تقريباً أن مِثاله الجمهوري كان مُمتنع التطبيق في إيطاليا محتلة، التفت نحو المرحلة المضيئة في التاريخ الإيطالي، مرحلة تأسيس روما مجلس الشيوخ والقناصل، لينهَل منها العبر الصالحة لكل الأزمنة. يقول إن «محاكاة أفعال الماضي الجميلة تبدو مستحيلة في نظر المحدثين، كما لو كانت السماء والشمس والعناصر والبشر قد غيرت نظامها وحركت قوتها، وكانت متباينة عما كانت عليه في الماضي». أما ابن خلدون فلقد انسحب «طوعاً وكُرها، من السياسة ليتفرّغ لدراسة التاريخ» (العروي، 1990: 9). هذا الانتقال من الفعل إلى التأمل، من السياسة إلى التاريخ، حسب العروي، هو الذي مهّد للرجلين الطريق لاكتشاف ميدان معرفي بِكر حتى ذلك الحين. يقول الفلورنسي: «عزمتُ على فتح طريق جديد»، ويقول المغاربي: «كشف الله لي [هذا العلم] دون عون أرسطو أو أي حكيم أعجمي» (العروي، 1990). ليس هذه هي النقط الوحيدة التي يشترك فيها العالمان، ولكن هناك العديد من مناحي التشابه بين حياتَي كل منهما، ولكن حسبنا هذه الإشارات المقتضبة ما دام التركيز منصباً على مضمون إنتاجهما العلمي لا على سيرتيْهما الذاتيتين.
ثانياً: الدين والدولة بين تبادل الخدمات والحفاظ على الوحدة
إذا ما أردنا بحث دور الدين داخل الدولة بالنسبة إلى مكيافيلي، فإن الأمر قد يكون صعباً إذا ما اقتصر البحث على كتاب الأمير دون ربطه بكتاب المطارحات الذي ألّفه بعده[2]، فباستثناء حنقه على الكنيسة التي اتهمها أكثر من مرة بأنها سبب تخلّف الشعب، وتمزّق الأمة الإيطالية، يكاد المرء لا يقف على حديث صريح لمكيافيلي بخصوص موقفه من الدين. فهو لم يتجاوز في الأمير الحديث عمّا أسماها «الإمارات الكنسية» مُخصِّصاً لها فصـلاً منفرداً، حيث اعتبرها «إمارات سعيدة والله حاميها». بل يرى مكيافيلي أنه من الخطأ والحُمق الحديث عنها، نقرأ له في هذا السياق: «وهو الصنف الوحيد من الأمراء الذين يحكمون إماراتهم (الكنسية) ولا يدافعون عنها، ولهم رعايا دون أن يحكموهم. ولا تخرج هذه الإمارات عن طاعتهم بالرغم من كونها دون حماية، ولا يهتم مواطنو هذه الدول بأنهم لا يستطيعون، بل ولا يرغبون في الخروج على الحكام، وتتمتع هذه الإمارات دون غيرها بالأمان والسعادة. ولكن لأنها محكومة بالقيم العالية التي لا يستطيع العقل البشري إدراكها، فإني سأمتنع عن الحديث عنها لأن الله هو من يحميها ويحافظ عليها، فمن الوقاحة أن نتحدث عنها» (مكيافيلي، 2004: 63). هل هي طريقة ساخرة من صديق الأمير كي يسخر من هذه الإمارات، وذلك من خلال المبالغة في المدح؟
الرّاجح، أن مكيافيلي، لم يكن يقصد مدح الإمارات الكنسية ولكنه كان يستهجنها، وإلا كان نصح «الأمير» باتّباع نهجها، وهو القائل إنَّ الغاية تبرر الوسيلة. ويتوضّح هذا الترجيح أكثر عندما نعلم بأن مكيافيلي نصح أكثر من مرة الحكم الزمني بالتخلّي عن أي أساس أخلاقي أو ديني، نقرأ له: «يجب أن نفهم أنه يستحيل على الأمير أن يحترم القيم الأخلاقية، وأنه مجبرٌ في أغلب الأحيان، على التصرّف ضد الإنسانية والإحسان بل وضدّ الدين من أجل المحافظة على الدولة» (إمام، 2001: 256). إذا ما أردنا توضيح الأمر بمفهوم المخالفة، فإن أول من أدرك بأن الجانب الديني في فلسفة مكيافيلي هو مجرّد «ادّعاءات»، هم معاصروه من اليسوعيين وأتباع النظرية الأكوينية؛ فهم اعتبروه، إلى جانب لوثر، أشدّ خطراً على الكنيسة، وذلك من منطلق أن لوثر ومكيافيلي كانا الأبوين المؤسّسين للدولة الحديثة التي ليست تقيّة. لقد بدأ مؤلف كتاب الدين وفضائل الأمير المسيحي بالهجوم على من اعتبرهما «مهرطقين» ويقصد لوثر ومكيافيلي، خاصّاً الأخير بأشد الكلمات، قائلاً: لماذا هو حيوي (يقصد مكيافيلي) أن يبرهن كم هو «خاطئ ومُهلك» الافتراض أن القيمة الأساسية عند الأمير يجب أن تكون «المحافظة على دولته»، وأنه «لتحقيق هذه الغاية عليه أن يوظف كل وسيلة». أما مؤلف كتاب الحكم فقد قال عن مكيافللي إنَّه «كشف عن أسوأ إساءة ممكنة للإطار الأخلاقي والحياة السياسية الصحيحة»، كما اعتُبرت دعوة مكيافيلي للدولة، بمنزلة القول إنَّ على الحاكم العادل الذي «يعتمد على الدولة الزمنية» وهي النظرة التي رأى مؤلف «القوانين والله واضع القانون» أنها «زائفة وخاطئة كلياً، للحياة السياسية» (سكنر، 2012: ج 2، ص 244).
وإذا كان واقع إيطاليا قد دفع بمكيافيلي إلى استهجان الحكم الديني، ووسَمه بكل النعوت السلبية، فإن واقع المسلمين الذي لا يقلُّ مأزوميةً عن واقع إيطاليا في تلك اللحظة، هو ما حفّز ابن خلدون على انتقاد واقع زمانه الذي تخلّت فيه «الدولة» عن الدعوة الدينية. حيث يَستعيدُ ابن خلدون التاريخ ويستقرئ المعيش كي يُدلّل على ما يذهب إليه؛ فمن التاريخ يستحضر تجربة الحُكم الرّاشدي ويعتبرها ذروة ما وصل إليه المسلمون، ثم ما لبثوا أن تهاووا نحو دول ظالمة لا تقيم للشرع قائمة، ثم إنهم بعد ذلك «انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى فقرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم من الانقياد، وإعطاء النصفة، فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم المُلك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم، ولما ذهب أمر الخلافة وامّحى رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون المُلك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم» (ابن خلدون، 2004: 290 – 291). ومن المعيش ينقل ابن خلدون الحال الذي آلت إليه «الدولة الموحّدية» بعدما تقوّت وسادَت أيام استنادها إلى الدعوة الدينية للمهدي ابن تومرت وعبد المؤمن، حتى إنها تجلّدت على من هم أجلد منها وأصلب، لكنها لمّا تخلّت عن دعوتها الدينية هانت وسهُل الهوان عليها. فالسبب الأساسي إذاً، لمَهلكة المسلمين وتشتت حُكمهم راجع، حسب ابن خلدون، إلى كونهم لا يُقوّون عصبية الدم بالدعوة الدينية كي يتحول الكل إلى عصبية سياسية. هنا هل يَفترق ابن خلدون افتراقاً حَدّيًّا عمّا ذهب إليه مكيافيلي؟ وهل الأخير فعـلاً نصح الأمير بأن يُبعد نفسه ودولته عن العناية بالدين؟
الواقع، أنه لو اكتفينا بقراءة كتاب الأمير وهو الأشهَر، لكان بالإمكان القول، إنَّه لا مجال لالتقاء مكيافيلي بابن خلدون، ولأمكن التقرير بأن الأول ينصحُ الأمير بأن يتحرّر من الدين، بل عليه أن يعادي أي دعوة دينية، لكن إذا عدنا إلى كتابه المطارحات فإن الصورة ستختلف كليّاً، وستبرز عناصر التشابه بين الرجلين؛ فمكيافيلي على الرغم من رفضه الحكم الكنسي، إلا أنه لا يتحرّج من توظيف الدين لغايات المصلحة العامة، من قَبِيل إضفاء الطابع الديني على القوانين الوضعية، وإظهار الاعتناء بالدين وطقوسه، حتى من غير أن يكون الأمير مُعتنقاً أي دين. لقد مرّ معنا كيف أن مكيافيلي يُرجِع كل الفشل الذي يعتري الأمّة الإيطالية إلى الحكم الكنسي، وأن البابوية أفسدت الشعب من مختلف النواحي، بما في ذلك دفعه إلى هجر الدين المفروض عليه من قِبل رجال دين فاسدين. لكن هذا الموقف لم يمنع كاتب المطارحات من نُصح الأمراء والجمهوريات، إذا هُم رغبوا في النجاة من الاحتلال، بأن يحتفظوا «بنقاء طقوس الديّانة التي يؤمن الأمير أو الجمهورية بها، وأن يحلّوها محلّ الإجلال دائماً، إذ لا دليل أصدق على انحطاط أي بلد من البلاد، من رؤية العبادة السماوية وقد غدت موضع الإهمال وعدم الاكتراث» (مكيافيلي، 1982: 265).
وها هنا تتطابق الرؤية المكيافللية مع التصور الخلدوني لدور الدين في إرساء نُظم الحُكم، حيث لن يكون في عُرفهما الدين عائقا أمام وحدة الأمم وضامنا لقوتها، ما دام الدين تحت سيطرة السلطة، تخدمه ظاهراً لكي يخدمها باطناً. فاهتمام ابن خلدون بدور الدعوة الدينية في تعضيد المُلك وتقوية دولته، لا يبدو أنه من مُنطلق ديني شرعي فحسب، بل هو من وحي التجربة والمُمارسة، وآيُ ذلك أن صاحب المقدمة لا يَعتدّ بنوع معيّن من الحكم، بل فقط بمضمونه المستنِد على دعوة دينية قادرة على جلب المصالح ودرء المفاسد لـ «المُلك وللرعية». فهو وعلى الرغم من تحديده منصب الخليفة على أنه «نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا، به تُسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماماً» (ابن خلدون، 2004: 366)، إلا أنه لا يَعتبِر ذلك من الأصول الدينية ولا من مَنصُوصاتها، وفي هذا يأتي ردُّه على من يدّعي النّص على الإمامة بأن ذلك محض شبهة؛ فــ «الإمامة في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون وليس كذلك، وإنما هي من المصالح العامة المُفوّضَة إلى نظر الخلق ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة» (ابن خلدون، 2004: 393)[3]. هي إذاً، المصالح وتقديرات الخَلق مَن تُؤسِّس للدولة وتُشرعن لأنواع الحكم، وهي نفسها «المبادئ» التي ينطلق منها مكيافيلي في دعوته الأمير إلى رعاية «الشؤون الدينية». إذ يتوجّب على حُكّام أي جمهورية أو مملكة، أن «يحافظوا على المبادئ الأساسية للديانة التي تصون وجودهم، وإذا ما عَمِلوا هذا، سَهُل عليهم أن يصونوا تَديّن دولتهم، مما يؤدي إلى الحفاظ عليها متحدة طيبة» (ابن خلدون، 2004: 266). ولم يكتفِ مكيافيلي بهذه الدعوة، بل نَصح الحكّام بأن يؤيّدوا كل ما يُسهِم في تحقيق هذه الغاية، حتى ولو كانوا غير مقتنعين بصحة غايتهم هذه.
فأهل المدينة في نظر صاحب المطارحات «يُجِلّون سلطان الله أكثر مما يُجلّون سلطان الإنسان، إذ لم يكن هناك في الحقيقة مُشرّع واحدٌ جاء بقوانين غريبة إلى أي شعب من الشعوب، لم يلجأ إلى القول إنّ الله، هو الذي أمر بها. فهذا هو السبيل – بالنسبة إليه – الكفيل بخلق القبول للقوانين»، ويَشرح مكيافيلي ذلك بقوله: «إن الكثير من الفوائد التي يحسّ بها الإنسان العاقل لا تكون واضحة جَلية لكل عقل، بحيث يتمكن من إقناع الآخرين بها، وهذا هو الذي يدفع الحكماء إلى اللّجوء إلى ذريعة الله» (ابن خلدون، 2004: 262).
إن اللجوء إلى ما يسميه صديق الأمير «ذريعة الله» هو من باب الحِرص على القوّة والمَهابة، وهما أمران لا يهم الأمير من أيِّ مصدر ينالهما، علاوة على أن من شأن ذلك أن يحقق عظمة الدولة ويزيد وحدتها. وكما أن احترام العبادة السّماوية يكون مصدر العظمة في الجمهوريات، فإن إهمال هذه العبادة يؤدّي إلى خرابها. فمن «المعروف أنه حيث يوجد الافتقار إلى الخوف من الله، تكون المملكة إما قد أصابها الخراب، أو سيطر عليها الخوف من الأمير، وهو خوف يُستعاض به عن الافتقار إلى الدين» (مكيافيلي، 1982: 263). وهكذا يبدو «أمير» مكيافللي حاكماً شعبياً يسعى إلى التقرب من المحكومين واستمالتهم، والتودّد إليهم ببعض العطايا، يتظاهر بأمور قد تنال رضاهم من قبيل: التدّين، الأخلاق، الإنصات. وذلك من أجل الظهور بمظهر العدل. الجلي أيضاً، أن مكيافيلي «يخفي كل الجوانب السلبية في الحكم: الدهاء، المكر، الخديعة، وإتقان لغة التخاطب السيّاسي، وإخفاء التصرفات التسلّطية العنيفة بلُغة تواصلية تُرضي الشعب»[4].
الحُجج نفسها التي يستند إليها مكيافيلي في دفاعه عن إيجاد دين خادم للدولة، يُعبّر عنها ابن خلدون لكن بأسلوب مغاير، وبمنهج ينطلق من الواقع العربي في ارتباطه بالتاريخ، وبتأثرٍ كبير من تآليف ما يُطلق عليها الآداب السلطانية. فإذا كانت الأخيرة قد قدّمت لتوضيح تصوّراتها حُجَجاً مختلفة شرعية تارة وعقلية تارة أخرى، فإن ابن خلدون يُمعِن في الاهتمام بعنصر «العمران» والاجتماع والاقتصاد في تكوين الكيانات السياسية. فلأن الدولة عند ابن خلدون لا تنفصل عن المُلك أو السلطان (وهذا ما سيتمّ التفصيل فيه في الفقرة المخصصة للدولة)، فهي وثيقة الصلة بالشوكة والعصبية من جهة، والمال والعتاد، وإن كان شديد الإلحاح على أن العصبية لا تكفي وحدها لتبرير قيام هذه الدولة على الصعيد الأخلاقي، وذلك لأن «المُلك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه» (ابن خلدون، 2004: 313). ولأن العصبية بما هي فكرة مجردة قد تكون النقيض لمفهوم الخير العام المستمَدّ من الشريعة المُنزَّلة، فإن ابن خلدون يرى أنه: «لا إمكانية لنشوء الدول المستقِرة ما لم يَتضافر الخير العام والشريعة مع العصبية بشكل من الأشكال» (حوراني، 1968: 36، بتوسط من: هادي، 2008: 91). وينطلق ابن خلدون في تأكيده العوامل الدينية في نشوء الدول، من نظرته إلى أهمية العلاقة بين الدين والعصبية ونتائجها؛ فهذه العلاقة بنظره هي علاقة تآزر وتعاضد وتكامل، ما دام «الدين يزيد من قوة العصبية بالتخفيف من مظاهر التعصب، والعصبية من جهتها تمنح الدعوة الدينية قوة وفعالية» (الجابري، 1971: 288). وهنا يَحدُث نوع من التماهي بين تصورَي المطارحات والمقدمة، فالدولة الخلدونية تحتاج إلى الدعوة الدينية التي «تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها»، وسبب ذلك في نظر ابن خلدون عائدٌ إلى كون «الصّبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية (…) وأن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه (…) بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوةً (…) فلما تخلّوا من تلك الصبغة الدينية (…) انتزعوه (الملك) منهم والله غالب على أمره» (ابن خلدون، 2004، ج 1، ص 314 – 315).
قد يبدو أن ابن خلدون يلحّ على دور الشريعة في تربية النفوس، وحَفْزها على قبول التحضّر، والمشاركة في العُمران ونبذ العنف، بينما لا يلجأ مكيافيلي إلى الدين إلا بهدف نفعي بصرف النظر عن أي دور تربوي يمكن أن يؤديه الدين. لكن هذا الاختلاف سيتبدّد إذا ما علمنا أن صاحب الأمير قام بمجموعة من «المراجعات» عند كتابته المطارحات، فهو لم يعد ينظر إلى التعليم الديني على أساس السلبية، أو بالأحرى، إن لومه للكنسية في هذه المسألة كان من مُنطلق أنها لم تُعلّم الناس الدين الصحيح، ولذلك يدعو إلى تعليم ديني ملائم وعلى قدر من الحيوية، حيث يجب أن يكون من النوع الصحيح. وقد رأى أن المسيحية لم تكن على المسار الصحيح، بعكس ما كان عليه الرومان، فقد حدّد دينهم الخير الأعلى للإنسان… مع الشهامة والقوة البدنية وكل شيء آخر يساعد على جعل البشر شجعاناً (هيتر، 2007: 90).
لقد كان مكيافللي متأثراً بفلسفة أرسطو لأنها تحمل في بعض جوانبها صفة الواقعية، وقام بتحليل عوامل استمرار وفساد الدول. إذ اعتبر، على غرار ابن خلدون، أن الدول تسير دائماً في اتجاه الأفول، فهو يؤمن بحركية دورية للأنظمة السياسية، وهناك تطور نحو القوة والاندثار، لذلك كان يبحث عمّا يوطّد الاستقرار السياسي ويمنع موجات الصراع. إن ما أدهش القرّاء، حسب عبد الله العروي، هو «موقف الرجلين من الدين، لأنه كان بلا شك حاسماً بالنسبة إلى شعور معاصريهما العام. فمكيافيلي يحكم على المسيحية كإناسي وظيفي تقريبا. ويعتني في التفريق بين الممارسة البابوية والروح المسيحية، لكنه في تحاليله السياسية لا يرى في الدين سوى طريقة ممتازة لتربية الناس وتعليمهم ضبط غرائزهم: «إن تاريخ روما يبيّن لمن يقرأه بتمعّن كم كان الدين مفيداً ونافعاً لقيادة الجيوش ولتجديد راحة الشعب وللحفاظ على أهل الخير وإخجال أهل الشر». ويعبّر ابن خلدون عن الفكرة عينها في عدة فصول: فيؤكد أن البدو لا ينالون السلطة السياسية إلا إذا اتّحدوا في نطاق حركة ذات أساس ديني، لأن الإيمان الديني وحده، يُذهِب من قلوبهم «الغلضة والأنفة والتحاسد والتنافس»، ويقرّر بعد ذلك أن الحَميّة الدينية تريح الدولة في بدايتها لأنها ترضّ الإرادة المشتركة وتوطّد التكافل القبلي؛ عندها يمكن لنفرٍ أن يسود أكثر» (العروي، 1990: 10).
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة إضافات العددان 33-34.
(**) عبد الرحيم العلام: باحث في العلوم السياسية – المغرب.
ابن خلدون، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (2004). مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبد الله محمد الدرويش. دمشق: دار يعرب.
أرِندت، حنّة (2008). في الثورة. ترجمة عطا عبد الوهاب؛ مراجعة بورسلان. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
إمام، عبد الفتاح (2001). الأخلاق والسياسة: دراسة في فلسفة الحكم. القاهرة: المحلي للثقافة.
إهرنبرغ، جون (2008). المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة. ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم؛ مراجعة فالح عبد الجبار. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
بناني، عز العرب الحكيم (2011). «الخلافة والملك.» في: محمد المصباحي (مشرف). الدين والسياسة من منظور فلسفي. الرباط: منشورات عكاظ.
الجابري، محمد عابد (1971). العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي. الدار البيضاء: دار الثقافة.
جدعان، فهمي (1989). المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام. عمّان: دار الشروق.
روسو، جان جاك (2011). في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي. ترجمة وتقديم وتعليق عبد العزيز لبيب. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
سكنر، كوينتن (2012). أسس الفكر السياسي الحديث: عصر النهضة. ترجمة حيدر حاج إسماعيل. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2 ج.
سينيلار، ميشيل (2002). الماكيافلية وداعي المصلحة العليا. ترجمة أسامة الحاج. ط 2. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
العروي، عبد الله (1990). ابن خلدون وميكافيلي. ترجمة خليل أحمد خليل. بيروت: دار الساقي.
العروي، عبد الله (2008). مفهوم الدولة. ط 8. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
العظمة، عزيز (1987). التراث بين السلطان والتاريخ. بيروت: دار قرطبة.
مكيافيلي، نيقولا (1982). المطارحات. تعريب خيري حماد. ط 3. بيروت: منشورات دار الآفاق.
مكيافيلي، نيقولا (2004). الأمير. ترجمة أكرم مؤمن. القاهرة: مكتبة ابن سينا.
محمد المصباحي (مشرف) (2011). الدين والسياسة من منظور فلسفي. الرباط: منشورات عكاظ.
نصار، ناصيف (1981). الفكر الواقعي عند ابن خلدون: تفسير تحليلي وجدلي لفكر ابن خلدون في بنيته ومعناه. بيروت: دار الطليعة.
هادي، رياض (2008). «مفهوم الدولة ونشوءها عند ابن خلدون.» مجلة العلوم السياسية (بغداد): العدد 37.
هيتر، ديريك (2007). تاريخ موجز للمواطنة. ترجمة آصف ناصر ومكرم خليل. بيروت: دار الساقي.
الوردي، علي (1962). منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته. القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
Gibb, H. A. R. (1962). Studies on the Civilization of Islam. London; Princeton, NJ: Princeton University Press.
Lacoste, Yves (1966). Ibn Khaldoun: Naissance de l’histoire, passé du tiers-monde. 3ème éd. Paris: Maspero.
Nassar, Nassif (1967). La Pensee realiste d’ibn khaldoun. Paris: Presses universitaires de France.
[1] للأستاذ عبد الله العروي موقف حاسم في هذا الموضوع، فهو يرى أن الأمر يتعلق بمفكرين ينتميان إلى حضارتين متباينتين، وأحياناً متعاكستين بقوة؛ وما من مشير يسمح بالتفكير في أن أحدهما أثّر في الآخر؛ ومع ذلك يتوصلان، معظم الأحيان، إلى استنتاجات متماثلة. وهذه ليست حالة فريدة من نوعها؛ فنحن نصادف كثيراً من الحالات المشابهة عندما نتابع التطور، المنفصل والمتوازي أيضاً (العروي، 1990: 5).
[2] علماً أن للرجل مؤلفات أخرى غير هذين الكتابين.
[3] علماً بأن أصل هذا النقاش حول الإمامة عائد إلى الاختلاف بين بعض المذاهب الإسلامية (السنة والشيعة تحديداً) حول النظر إليها.
[4] رشيد العلمي الإدريسي: محاضرات في تاريخ الفكر السياسي (غير منشور).
[5] يرى ناصيف نصار أن فكر ابن خلدون «يستدعي نفياً للنفي الذي مارسه تجاه الفلسفة وقام عليه بكل اطمئنان. إذ يندرج فكر ابن خلدون كتكملة ونهاية لدور الفكر العربي الإسلامي في سياق تقليد فلسفي لم يحسن تنظيم برنامجه منذ البداية». انظر (نصار، 1981: 7).
[6] وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول (ابن خلدون، 2004: ج 1، ص 116).
[7] «الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته، قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15] ولهذا قلنا إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل. ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل وأن المقصود بالأربعين فيه فناء جيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه. فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد إنما قلنا إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال…» (ابن خلدون، 2004: 335).
[8] نستعين في هذا العرض بقراءة (هادي، 2008: 81).
رابط المصدر: