ميثاق مناحي العيسى
أنهى مجلس النواب العراقي القراءة الأولى لتعديل قانون الانتخابات الذي ستجري بموجبه انتخابات مجالس المحافظات، المزمع اجراؤها نهاية العام الحالي، فضلاً عن الانتخابات التشريعية التي من الممكن ان تجري بذات القانون، كما تطالب وتريد بعض القوى السياسية، ولاسيما القوى المنضوية تحت تحالف الإطار التنسيقي، فقد أجريت انتخابات مجالس المحافظات لعام 2013 في 12 محافظة فقط من أصل 18 محافظة.
تم استبعاد محافظات إقليم كردستان وكركوك بسبب الخلافات السياسية “التي ما تزال قائمة لحد الآن” واستبعدت نينوى والأنبار لأسباب أمنية قبل سيطرة تنظيم “داعش” على محافظة نينوى وبعض المحافظات الغربية، قبل ان تنهي تلك المجالس عملها بعد الاحتجاجات الشعبية العراقية التي اجتاحت وسط وجنوب العراق، منددة بدور مجالس المحافظات كحلقة من حلقات الفساد التي استفادت منها القوى السياسية في منظومة النظام السياسي العراقي في ترسيخ هيمنتها السياسية، مطالبة بتعديل دستوري من اجل استئصال هذه الحلقة والذهاب إلى تعديلات دستورية أكثر انتاجاً وتحقيقاً لمصلحة البلد والشعب.
هذه الرغبة تحققت بتغيير قانون الانتخابات القائم آنذاك إلى قانون الدوائر المتعددة، وتغير مفوضية الانتخابات، بدعم معلن من قبل المرجعية الدينية في النجف الأشرف، التي طالبت بشكل صريح من خلال خطب الجمعة وعلى لسان ممثليها الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد احمد الصافي، بتشريع قانون انتخابي عادل ومنصف، يضمن حق القوى السياسية الكبيرة والصغيرة ويسمح للمرشحين المستقلين للوصول إلى قبة البرلمان. إذ تفضل الأحزاب العراقية الناشئة التي انبثقت من احتجاجات تشرين 2019 والشخصيات المستقلة، الترشح المنفرد (الدوائر الانتخابية المتعددة على مستوى المحافظة) كاستراتيجية انتخابية للوصول إلى السلطة أو السلطة التشريعية، فيما تفضل الأحزاب التقليدية الدائرة الانتخابية الأوسع (باعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة) بدلاً عن الدوائر الانتخابية المتعددة الصغيرة لاعتبارات مختلفة منها طريقة تحديد الدوائر التي بنيت في السابق على اعتبارات ومصالح حزبية، فضلاً عن بعض الامور الديمغرافية التي تتعلق بالمذهبية والقومية.
وبالرغم من ذلك، قد لا تتعارض مصالح الأحزاب كثيراً مع اعتماد دوائر متعددة في الانتخابات، إذ لا تشكل التعددية مشكلة معقدة لديها، ويميل التيار الصدري لنظام التعددية في الدوائر الانتخابية، وربما يعد من اشد المعارضين للتعديل الذي تجريه قوى الاطار التنسيقي بمعية القوى السياسية السنية والكردية، ولاسيما ان التيار الصدري دائماً ما يتمتع بتنظيم واستعداد عاليين في كل الانتخابات؛ وهذا ربما يعود إلى القيادة المركزية التي يتمتع بها التيار قياساً بالقوى السياسية الاخرى، فقد استطاع التيار الصدري اقتناص مقاعد في دوائر انتخابية لا تضم قاعدة للصدريين فيها، مثل دائرة الأعظمية ودائرة المنصور، وتعمل منهجية الماكنة الانتخابية الصدرية بالأساس على تقسيم الدائرة الانتخابية إلى مناطق محددة وتجري استراتيجيتها الانتخابية بالأصل على تكوين دوائر انتخابية متعددة.
لذلك تمثل الدوائر المتعددة الخيار الأفضل للصدريين، قياساً بالقوانين الانتخابية الاخرى التي اجريت بموجبها كل الدورات الانتخابية السابقة، على الرغم من ان الصدريين دائماً ما يتصدرون المشهد الانتخابي في كل انتخابات. أما مصلحة الأحزاب الناشئة، ربما يختلف او يتفق معها بعض المتابعين والمتخصصين، نعم أنها تدعم الدوائر الانتخابية المتعددة كالقانون الانتخابي الحالي الذي اجريت بموجبه الانتخابات التشريعية عام 2021 وضمن لها وصول سياسي إلى السلطة التشريعية “لا بأس فيه”، إلا ان مصلحتها الانتخابية قد تكمن في الدوائر الانتخابية الأكثر اتساعاً (على مستوى المحافظة) وذلك لسبب بسيط يتعلق بنوعية وتوزيع القواعد الانتخابية المؤيدة والمناصرة لمطالب احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) التي تنتشر وتتسع على مستوى المحافظة، وتضيق على مستوى الدوائر الانتخابية الصغيرة.
ربما يكمن وجه الاعتراض الاساسي حول قانون الانتخابات الأخير الذي جرت بموجبه انتخابات مجلس النواب 2021 هو التغيير الحاصل بطبيعة التعامل مع الأصوات وعدم قدرتها على التحول الذي يعني احتساب الصوت الحاصل عليه المرشح غير الفائز بالانتخابات لصالح قائمته، وبالتالي يمكن اعتباره صوتاً صحيحاً قد يجري معاملته باحتساب المقاعد الفائزة، على الرغم من أن النظم الانتخابية والديمقراطية الحديثة والمتطورة تتعامل مع الصوت الانتخابي، كصوت انتخابي صحيح الممنوح للشخص وليس للقائمة، وهو ما يميل إلى واقعية التمثيل الحقيقي لصوت الناخب بعيداً عن طريقة الاحتيال الانتخابي التي جرت في كل الانتخابات العراقية السابقة، وقد مثلت بطبيعتها اجهاض لترسيخ العملية الديمقراطية والتمثيل الحقيقي، ومكنت القوى السياسية التقليدية من ترسيخ دكتاتوريتها في كل مفاصل الدولة العراقية، وفي جميع مفاصل السلطات العراقية، التي تقاسمتها القوى السياسية على اساس طائفي–حزبي.
إن تشريع قانون انتخابي جديد ضد الرغبة الشعبية وإرادة المحتجين والقوى الناشئة من احتجاجات تشرين، فضلاً عن رغبة المرجعية الدينية، التي دعمت “بشكل واضح” تشريع قانوني انتخابي منصف وعادل، وفي ظل غياب التيار الصدري من المشهد السياسي والسلطة التشريعية، الذي يكاد يكون التيار الوحيد من القوى السياسية الشيعية التي دعمت القانون الانتخابي الحالي وساهمت في تشريعه، تحدي كبير لكل تلك الاطراف؛ الأمر الذي من شأنه أن يضع البلد أمام مشهد جديد من الاحتجاجات الشعبية، ربما تجتمع فيها كل الاطراف المتضررة من هذا التشريع، فضلاً عن ذلك، فإن تشريع هكذا قانون، يعد عامل اجهاض للعملية الديمقراطية وتقويض للتعددية السياسية، التي نص عليها الدستور العراقي وكل السنن الوضعية والطبيعية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى اتساع دائرة المعارضة السياسية والشعبية للنظام السياسي والعملية السياسية والديمقراطية بشكل عام، ولاسيما أن التعديل الجديد سيسمح للأحزاب السياسية المهيمنة بتوسيع نفوذها على مستوى المحافظات ضد القوى المستقلة المشكلة حديثا، كما أن الجزء الأكثر إثارة للجدل في التعديل الجديد هو اعتماد طريقة (سانت ليغو) لتوزيع المقاعد بين الأحزاب السياسية على أساس نظام التمثيل النسبي لقائمة الحزب وليس على اساس المرشحين، وهذا يمثل ضربة كبيرة لكل الحركات السياسية الناشئة.
بالمجمل، يبدو لنا بأن العودة إلى قانون سانت ليغو الانتخابي في ظل الظروف المحلية الحالية، ولاسيما ما يتعلق بالاعتزال السياسي للتيار الصدري والمرجعية الدينية، والانقلاب السياسي على ما تحقق من نتائج لحركة احتجاجات تشرين، فضلاً عن الاقصاء السياسي الذي تعرض له بعض المستقلين ونواب الحركات الناشئة من بعض اللجان النيابية والمناصب الأخرى، وفي ظل الظروف الاقتصادية الحالية وأزمة سعر صرف الدولار امام الدينار العراقي، هو تعجيل وتسريع للاحتجاجات الشعبية وتعميق للخلاف الشيعي–الشيعي؛ الأمر الذي من شأنه أن يضعف شرعية وبنية النظام السياسي الحالي أكثر من ذي قبل ويقوض من مقبوليته المجتمعية بشكل واسع، ويزيد من دائرة المعارضة الشعبية والسياسية، ولاسيما في ظل الهزات الكبيرة التي تعرض لها النظام السياسي العراقي طيلة الـ(20) سنة الماضية، فضلاً عن التصدعات السياسية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية التي اصابت بنية النظام السياسي الحالي؛ لهذا من الممكن أن تمضي القوى السياسية على قانون انتخابي أقل جدلاً، او الابقاء على القانون الانتخابي الحالي الذي يضمن للجميع حق التمثيل السياسي بشكل عادل، كحل سياسي توافقي يرضي الجميع.
.
رابط المصدر: