إن التوجه العالمي المتزايد الآن نحو الاقتصاد الأخضر وحلول انتقال الطاقة نحو الطاقات الجديدة والمتجددة وخفض الانبعاثات الكربونية من قطاعات الاقتصاد المختلفة. ويعد الهيدروجين الأخضر هو الحلقة المفقودة لإزالة الكربون من جميع القطاعات، إذ إنه يملك القدرة على أن يصبح وقودًا قادرًا على توفير طاقة نظيفة لكافة جوانب الاقتصاد العالمي، حيث يمكن استخدامه كبديل للوقود الأحفوري كمادة أولية صناعية نظيفة في مجموعة كبيرة ومتنوعة من التطبيقات مثل النقل وبعض الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والكيماويات والأسمدة، ولا تنتج أي ملوثات في أثناء الاستهلاك. ولكون الهيدروجين خاليًا من الانبعاثات الكربونية؛ فهذا يجعله مصدرًا نظيفًا مستدامًا ومرنًا في الاستعمال، يمكن أن يُخزَّن ويُنقل لمسافات طويلة ويستطيع نقل كميات كبيرة من الطاقة إذا تم ضغطه أو تحويله إلى سائل؛ وبذلك ينتج طاقة ووقودًا نظيفين، ومن المتوقع أن يستطيع الهيدروجين تغطية حوالي 24% من احتياجات العالم من الطاقة بحلول عام 2050، مما أدى إلى اعتباره وقود المستقبل مع توقع وصول السوق العالمية القابلة للتداول لقيمـة حوالـي 10 تريليونـات دولار بحلـول عـام 2050
ومع الزخم العالمي بالهيدروجين الأخضر ومشتقاته، اتجهت أنظار المستثمرين إلى القارة السمراء، والتي تتمتع بالكثير من الموارد اللازمة لإنتاج الهيدروجين، من توافر إمكانات الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمائية التي تمثل مدخلات إنتاج الهيدروجين الأخضر؛ وتوافر مساحات الأراضي والسواحل لإقامة المشروعات ونقل المنتجات. هذه العوامل دفعت بفرص استثمارية متزايدة للتوسع في الهيدروجين الأخضر في أفريقيا. وعليه تم إصدار العديد من التقارير والدراسات الدولية التي تبحث في إمكانات القارة السمراء من وقود المستقبل والفرص والتحديات أمام تجارة الهيدروجين ومشتقاته.
اهتمام عالمي متزايد بالهيدروجين
يعتقد الكثير أن العقد الحالي يمكن أن يدفعنا إلى مرحلة أخرى من تحول الطاقة، هي مرحلة الهيدروجين. فقلما يمر أسبوع دون ظهور مشروع جديد أو طفرة في مجال الهيدروجين. ففي السنوات الخمس الماضية وحدها، وضعت أكثر من 44 دولة حول العالم استراتيجيات وطنية للهيدروجين، ولا يزال هناك الكثير قيد التطوير. وكانت التغيرات المناخية الحادة والتداعيات المرتبطة بها وكذلك الالتزام بأهداف اتفاقية باريس المتعلقة بالمناخ محركًا رئيسيًا في هذا الصدد، غير أن الحرب الروسية الأوكرانية والارتفاع الحاد في أسعار الغاز، قادا بدورهما تحولًا إلى أنواع الوقود منخفض أو عديم الكربون.
وهناك مساران فيما يتعلق بإنتاج واستخدام الهيدروجين في قطاعات الاقتصاد؛ مسار يختص بالإنتاج، يتمثل في الهيدروجين الأخضر المنتج من الكهرباء المولدة من مصادر متجددة، والهيدروجين الأزرق المنتج من الغاز الطبيعي المجهز بتكنولوجيات احتجاز الكربون، ويحقق الهيدروجين الأخضر الخفض الأكبر في التكلفة. ويتنبأ عدد متزايد من التوقعات حاليًا بأن يصبح الهيدروجين الأخضر أقل تكلفة من كل من الهيدروجين الأزرق والرمادي (المنتج من الوقود الأحفوري غير المعالج لخفض الانبعاثات) قبل نهاية العقد.
أما المسار الثاني فيتعلق بالقطاعات التي يتم فيها استخدام الهيدروجين الأخضر. الهيدروجين يمكن أن يحل محل الوقود الأحفوري في جميع القطاعات دون أن يتسبب في انبعاث ثاني أكسيد الكربون؛ فهو ناقل للطاقة خال من الكربون، مثل الكهرباء، لكنه يتفوق عليها فيما يتعلق بإزالة الكربون عن القطاعات التي يصعب إمدادها بالكهرباء، كالصناعات الثقيلة، أو النقل لمسافات طويلة، أو التخزين الموسمي. وتتوقع معظم سيناريوهات إزالة الكربون أن يكون للهيدروجين دور مهم في تحقيق الانبعاثات الصفرية الصافية بحلول منتصف القرن. فالوكالة الدولية للطاقة والوكالة الدولية للطاقة المتجددة، على سبيل المثال، تتوقعان أن يلبي الهيدروجين من 12% إلى 13% من الطلب النهائي على الطاقة بحلول 2050، صعودًا من 1% تقريبًا في الوقت الحالي.
سباق عالمي في مشروعات الهيدروجين
يتطلب الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050 عالميًا إنتاج حوالي 300 مليون طن من الهيدروجين الأخضر. وفقًا لتقرير رؤى الهيدروجين 2023 الصادر عن المجلس العالمي للهيدروجين، تم الإعلان عن 1400 مشروع للهيدروجين عالميًا، و مقترح تنفيذ حوالي ألف مشروع منها بحلول 2030. كما تم الإعلان عن استثمارات مباشرة بقيمة 570 مليار دولار، بقدرة إجمالية يمكن أن تصل إلى 45 مليون طن هيدروجين سنويًا بحلول 2030، للوصول لصافي الانبعاثات الصفرية عبر الهيدروجين الأخضر والهيدروجين منخفض الكربون (ارتفاعًا من 38 مليون طن سنويًا)، منها 32 مليون طن هيدروجين أخضر، و13 مليون طن منخفض الكربون. ويتوقع إنتاج حوالي 10 ملايين طن من أفريقيا والشرق الأوسط.
تظل أوروبا الرائدة عالمًيا مع الإعلان عن أكبر عدد من مشاريع الهيدروجين (540 مشروعًا)، حيث بلغت إجمالي الاستثمارات 117 مليار دولار، (حوالي 35٪ من الاستثمارات العالمية) تليها أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية، حيث يمثل كل منهما حوالي 15% من الاستثمارات المعلنة. وتمثل مقترحات المشروعات الكبرى على نطاق جيجا أو أكثر حوالي 112 مشروعًا تتطلب حوالي 150 مليار دولار استثمارات حتى عام 2030. وتشير معظم التقديرات الدولية بتضاعف الطلب العالمي على الهيدروجين الأخضر بمعدل حوالي 7 مرات وذلك بحلول عام 2050.
فرص أفريقيا في الريادة العالمية لمشروعات الهيدروجين
لا شك أن الزخم الكبير حول الهيدروجين الأخضر يمكن أن يسهم في إحداث تحولات عالمية بالغة الأهمية في خريطة الطاقة حول العالم، ويمكن أن تلعب أفريقيا دورًا كأحد أبرز منافذ الإمدادات العالمية للهيدروجين الأخضر ومشتقاته مثل الأمونيا والميثانول. وفي حالة تزايد استثمارات الطاقة المتجددة في القارة السمراء، فإن احتمالات تحوُّلها إلى مركز لإنتاج وتجارة الهيدروجين ترتفع لتحمل آفاقًا واعدة للاستثمار. ومن المرجح أن تصل صادرات أفريقيا من الهيدروجين الأخضر إلى 11 مليون طن سنويًا بحلول 2050، وتُقدَّر إجمالي الاستثمارات في الهيدروجين الأخضر في أفريقيا بحوالي 400 مليار دولار، وفق مجلس الهيدروجين. كما أشارت الوكالة الدولية للطاقة إلى أن أفريقيا يمكن أن تنتج 5000 ميجا طن من الهيدروجين سنويًّا بأقل من دولارين للكيلوجرام الواحد.
ويكتسب التوسع بإنتاج الهيدروجين الأخضر في أفريقيا ميزة عن غيره من المواقع الأخرى بسبب وفرة الموارد وتنوعها في دول القارة، إذ تنتشر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في شمال أفريقيا وجنوبها، في حين تتمتع دول وسط القارة بفرص واعدة حيال الطاقة الكهرومائية، أما دول شرق القارة فتركز على تطوير طاقة حرارة باطن الأرض. إذ يسمح الاستغلال الأمثل لهذه الموارد بإنتاج كهرباء منخفضة التكلفة، لتصبح عنصرًا رئيسًا في إنتاج الهيدروجين الأخضر من خلال التحليل الكهربي.
إن تطوير الهيدروجين الأخضر في أفريقيا يعمّق فرص دول القارة في تعزيز الوصول للكهرباء وتلبية الطلب المحلي، فضلًا عن تطور اقتصاد القارة وتوفير فرص عمل، إذ يمكن لصناعة الهيدروجين توفير حوالي 13 مليون وظيفة بحلول 2050 على طول سلاسل الإنتاج والتوريد. ولن تقتصر صادرات أفريقيا من الهيدروجين الأخضر على النقل عبر خطوط الأنابيب من دول شمال القارة فقط، ولكن قد تفتح التوسعات المرتقبة المجال أمام إنتاج المزيد من مشتقات الهيدروجين وتصديرها. ويعزز هذا من إنتاج دول جنوب وشرق القارة للأمونيا والميثانول والوقود الاصطناعي؛ مما يضع القارة السمراء في مقدمة المنتجين ومصدّري الهيدروجين ومشتقاته عالميًّا، كما يمكن أن تؤدي الموانئ الأفريقية دورًا مهمًا في دخول دول القارة لعالم تزويد السفن بالوقود المستدام. ويقدّر تقرير مجلس الهيدروجين أنّ التزود بالوقود المستدام في الموانئ البحرية الأفريقية، يمكن أن يغطي حوالي 12% من حركة السفن في طرق الشحن العالمية، خاصة جنوب آسيا وأوروبا.
وبناءً على ذلك، وقّعت 6 دول أفريقية (مصر، والمغرب، وموريتانيا، وكينيا، وناميبيا، وجنوب أفريقيا) تحالف الهيدروجين الأخضر في أفريقيا. ويهدف هذا التحالف إلى استغلال القارة لمواردها الهائلة من الطاقة المتجددة لتصبح مركزًا عالميًّا لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره. ويُعدّ التحالف الأفريقي للهيدروجين الأخضر خطوة طموحة، تهدف إلى إنتاج 30 إلى 60 مليون طن من الهيدروجين النظيف سنويًا لإضافة ما يصل إلى 126 مليار دولار أمريكي للناتج المحلي الإجمالي لأعضائها بحلول عام 2050، وخلق ما يصل إلى 4 ملايين فرصة عمل جديدة.
تحديات صناعة الهيدروجين الأخضر في أفريقيا
على الرغم من الإمكانات الهائلة والفرص الكبيرة أمام دول القارة السمراء لتحقيق مكانة عالمية في صناعة الهيدروجين الأخضر، فإنها لا تزال تعاني من تحديات واضحة يمكنها أن تعوق مسارات التقدم العالمية في المجال. وتأتي على رأسها، تحديات البنية التحتية؛ حيث تعاني المنطقة من عدم جاهزية البنية التحتية وضرورة تطويرها لدعم إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره على نطاق واسع، حيث إن العديد من أجزاء أفريقيا التي تعد مثالية لتوليد الطاقة المتجددة لا تزال في حاجة للتوسع في مجال البنية التحتية؛ ولذلك ستكون هناك حاجة إلى استثمارات أكبر في البنية التحتية للنقل لربط مصادر الطاقة المتجددة بمرافق الإنتاج ومراكز التصدير. علاوة على ذلك هناك تحديات تتعلق بتوافر مصادر المياه اللازمة للتحليل الكهربي وإنتاج الهيدروجين في مناطق تعاني من ندرة المياه والوصول للفقر المائي. وكذلك الحاجة إلى التكنولوجيا المتطورة سواء لتحلية المياه واستخدامها أو تكنولوجيا الإنتاج بكفاءة أعلى.
كما أن هناك تحديات تتعلق بالسياسات والقوانين والحوافز اللازمة لجذب مزيد من الاستثمارات وضرورة العمل عىي تطوير إطار للعمل وتوضيح الإجراءات؛ مما سينعكس على خفض تكاليف الإنتاج والتشغيل، حيث إن المنطقة ترتفع فيها التكاليف النسبية لإنتاج الهيدروجين الأخضر نتيجة لضعف السياسات الحكومية والحوافز والتكنولوجيا غير الناضجة، ومع حل هذه التحديات وتطوير السياسات والقوانين الداعمة سيؤدي إلى جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر في المجال.
وهناك حاجة ملحة إلى وضع معايير وشهادات وإجراءات متابعة من أجل ضمان السلامة وقابلية التشغيل البيني والاستدامة في جميع أجزاء سلسلة قيمة الهيدروجين الأخضر. وينبغي ألا ينصب تركيز هذه المعايير على منع تسرب الهيدروجين أو خفض الانبعاثات فحسب، بل على مجالات أخرى أيضًا، مثل التأثير في الأمن المائي.
وختامًا، فإنه من المؤكد أن أفريقيا تمتلك فرصًا هائلة لتطوير مشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والوصول لمكانة مهمة وسط السباق العالمي لصناعة الهيدروجين، ولكن استغلال هذه الفرص يستلزم التصدي للتحديات التي تواجه دول المنطقة وتعزيز التعاون الدولي والإقليمي وفتح المجال أمام تحالف الهيدروجين الأفريقي عبر تعزيز الفرص المحلية، والعمل على معالجة الحواجز التجارية على طول سلاسل توريد الهيدروجين الأخضر من خلال خفض التكاليف، وتعزيز الوصول إلى التكنولوجيا، وتطوير بنية تحتية حديثة لضمان السلامة البيئية لإنتاج الهيدروجين. الأمر الذي سيجعل من أفريقيا لاعبًا رئيسيًا في مستقبل الطاقة العالمي. بل من الممكن أن يكون الهيدروجين أشبه بعامل تغيير جذري للبيئة الجغرافية-السياسية العالمية.
المصدر : https://ecss.com.eg/47204/