سد النهضة: بين إرث ترامب وبراغماتية بايدن

نور الدين عبدا

في عام 2011، عند وُضِع حجر أساس سدِّ النهضة، قال رئيس الوزراء الإثيوبي، مليس زيناوي: “… بعد التخلص من جميع العوائق والبدء في أكبر سدٍّ يمكن إنشاؤه على النيل نود التأكيد على أنه لا توجد قوة تمنعنا من الاستفادة من مواردنا، وأن لدينا الرغبةَ والقدرةَ على مواجهة التحديات لتحقيق حقِّنا الطبيعي في الاستفادة من مواردنا..”(1).

كان واضحًا من كلماته التي اختارها بدقة، ومن مجمل خطابه أنه يدرك حجم العوائق التي ستواجه المشروع ومستوى التحدي الذي أخذته بلاده على عاتقها. واليوم، وبعد مرور عقد تقريبًا من إطلاق المشروع الذي خُطِّط له أن ينتهي تشييده خلال خمس سنوات، تعيش إثيوبيا، قيادة وشعبًا، أعتى تلك التحديات التي تنبَّأ بها الأب الروحي للمشروع، وذلك على وقع تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتأهب لمغادرة البيت الأبيض.

ومهما تكن قدرة صانع القرار والاستراتيجيين الإثيوببين على استشراف المستقبل، فلا أعتقد أنها وصلت حدَّ التنبؤ بأن يصل الأمر برئيس بلد يُعتبر شريكًا تقليديًّا، كالولايات المتحدة، لأن يطلق تصريحات على الهواء معرِّضًا بإمكانية تفجير مشروع تعدى الإنجازات التنموية إلى الأيديولوجيا الوطنية. لكنَّه عَهْد ترامب الذي لا يعترف بالمقدسات السياسية والدبلوماسية؛ حيث سحب الرئيس، ترامب، بلاده من كل التزاماتها الأدبية والقانونية (اتفاقية باريس للمناخ مثلًا)، مثلما أطلق الكثير من التصريحات الشعبوية التي أثارت زوابع على الساحة الدولية. ومن ذلك تصريحاته الأخيرة بشأن سد النهضة التي كانت على الهواء، وبأسلوب استعراضي وتحريضي، ملوِّحًا بأن مصر قد تضطر إلى تفجير سد النهضة، وهي مطالبة بفعل شيء فاقت كل التوقعات والخيالات.

وفي اعتقادي، أنه حتى الجانب المصري، الذي قدَّم الكثير للحصول على دعم إدارة ترامب في ملف سد النهضة، لم يتوقع، هذا التصريح، مما أدخلهم في صدمة، وهو ما دفع الرئيس، عبد الفتاح السيسي، حسب بعض المصادر غير المؤكدة، لإرسال رسائل تطمينية إلى إثيوبيا عبر السودان.

فما العوامل التي وصلت بدونالد ترامب لِلُّجوء لإثارة حفيظة إثيوبيا التي تعتبر حليفًا تقليديًّا لواشنطن في منطقة تشهد تغيرات متلاحقة وتعيش اضطرابات لا متناهية؟

وهل تأتي تصريحات ترامب في سياق التعبير عن موقف الإدارة الأميركية كليًّا أو جزئيًّا، أم هي تعبير عمَّا أسماه العديد من النخب والدوائر الإثيوبية: شطحات شخصية لا تعبِّر بالضرورة عن سياسات رسمية؟

وهل توجد منطقة تداخل بين الشطحات الترامبية، والقناعات الرسمية للجمهوريين أو مؤسسة الحكم في أميركا فيما يخص سد النهضة؟

العلاقات الإثيوبية-الأميركية

يعود تاريخ العلاقات الإثيوبية-الأميركية إلى مطلع القرن العشرين؛ حيث تم أول اتصال دبلوماسي بين البلدين، في 1903، بتوقيع معاهدة تجارية وتبادل للممثلين، وتوطدت خلال منتصف القرن. وقد مثَّل سقوط الإمبراطور، هيلاسيلاسي، في 1974، على وقع احتجاجات طلابية وحركات الفلاحين وعبر انقلاب عسكري بقيادة منغيستو هيلاماريام، تحديًا كبيرًا لإدارة نيكسون، والمشغولة آنذاك بفضيحة ووترغيت. لكن الحرب الإثيوبية-الصومالية التي اندلعت على إقليم الصومال الإثيوبي أو ما يُعرف بأوغادين تعتبر تاريخيًّا الاختبار الأصعب لعلاقات البلدين(2).

ومن هنا، دخلت العلاقة بين البلدين منعطفًا حرجًا خلال فترة الحكم الشيوعي في إثيوبيا(3)، ولم تتمكن من استعادة زخمها إلا بسقوط نظام الدرغ(4)، عام 1991، إثر انهيار الكتلة الشيوعية.

لم تستجب إدارة الرئيس، جيمي كارتر، لاستغاثة نظام الدرغ؛ مما دفع إثيوبيا للتوجه نحو الاتحاد السوفيتي الذي قدَّم الخبرة والعتاد للجيش الإثيوبي مما مكَّن أديس أبابا من قلب المعادلة في ميدان الحرب بعد أن توغلت القوات الصومالية إلى العمق الإثيوبي بأكثر من 200 كلم في بعض المحاور.

إثر ذلك، يمَّمت إثيوبيا وجهها شطر الاتحاد السوفيتي، وتبنَّت الأيديولوجية الشيوعية، وطالبت الولايات المتحدة بتخفيض حضورها الديبلوماسي وتقليص المؤسسات الأميركية العاملة في إثيوبيا. وبذلك فقدت الولايات المتحدة أهم حلفائها في القرن الإفريقي في أحرج لحظات الحرب الباردة(5).

لم تتعاف العلاقة بين البلدين إلا بسقوط النظام الشيوعي في أديس أبابا، سنة 1991، وسيطرة تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا(6)، الذي حكم إثيوبيا حتى 2018 بقيادة جبهة تحرير شعب تيغراي(7)، وبمباركة أميركية؛ حيث أشرف مساعد الخارجية الأميركية للشؤون الإفريقية آنذاك، هيرمان كوهين، على خطة استقلال اريتريا، وتسليم السلطة في إثيوبيا للتحالف.

خلال 27 عامًا من حكم التحالف، تمكنت إثيوبيا من نسج علاقة براغماتية مبنية على المصالح المشتركة مع الولايات المتحدة، لكنها علاقة خالية من الود والحميمية، كما وصفتها الإيكونوميست(8)، واتسمت بعدم تخلي حكام إثيوبيا الجدد عن ميولهم الاشتراكية، سياسيًّا واقتصاديًّا، بل والتحول إلى مبشِّرين بالنموذج السياسي والاقتصادي الصيني، وعرَّابي الشراكة الصينية-الإفريقية، كما سيتم توضيحه لاحقًا.

ويعود سِرُّ قدرة إثيوبيا على المناورة إلى موقعها الجغرافي الحساس رغم كونها دولة حبيسة، وتمتعها باستقرار نسبي في محيط متقلب، مما حولها إلى شريك لا غنى عنه في الحرب الأميركية على الإرهاب، ولضمان الأمن الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر.

ولتعزيز هذا التعاون في ملف الأمن الإقليمي، تغاضت الإدارات الأميركية المتتالية عن سجل حقوق الإنسان والقضايا الخلافية الأخرى بين البلدين(9).

إثيوبيا وترامب: تراكمات من العقد الشخصية

بدأت عقدة دونالد ترامب الشخصية مع إثيوبيا مبكرًا عندما ترددت تقارير غير مؤكدة أطلقتها المعارضة الإثيوبية في واشنطن بأن التحالف الحاكم في إثيوبيا قام بتمويل الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، في 2016. كما نقلت أوساط المعارضة الإثيوبية عن ترامب قوله: إن الحكومة الإثيوبية تأخذ أموال المساعدات الأميركية وتنفقها على الانتخابات الأميركية. ولم أجد لهذه الرواية أصلًا في وسائل الاعلام، لكن هناك ما يعززها في واقع العلاقات الإثيوبية-الأميركية قبل وبعد وصول ترامب للبيت الأبيض.

ظلت العلاقات متميزة بين الديمقراطيين والحكومة الإثيوبية على مدى عقد؛ ففي الانتخابات العامة، في 2015، رفع التحالف الحاكم في إثيوبيا نسبة فوزه من 99% في انتخابات 2010 (سُمِح للمعارضة بعضو واحد) إلى 100%، مما عزز من أنشطة المعارضة في الخارج، وخاصة في الولايات المتحدة، والتي ظلت تطالب إدارة باراك أوباما بالضغط على التحالف الحاكم في إثيوبيا لفتح المناخ السياسي والإفراج عن سجناء الرأي.

وكان من المتوقع أن يستثمر أوباما جولته الإفريقية، سنة 2015، والتي شملت إثيوبيا، لممارسة ضغوط على أديس أبابا لتحسين سجلها الحقوقي، وفتح المجال السياسي، سيما أن إثيوبيا كانت تعيش إرهاصات بوادر أزمة سياسية؛ حيث بدأت إرهاصات الاحتجاجات الشعبية، التي أدت في نهاية المطاف إلى إسقاط حكومة ديسلين، ووصول آبي أحمد للسلطة. لكن أوباما خيَّب آمال الإثيوبيين المطالبين بالتغيير، وردَّ على سؤال الصحفيين بوصف حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي، ديسلين هيلاماريام، بـ”المنتخبة ديمقراطيًّا”(10). وقد سبقته في ذلك سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي في إدارة أوباما، والمقربة جدًّا من التحالف الحاكم في إثيوبيا وخاصة من قيادات التيغراي؛ حيث أكدت في مؤتمر صحفي، قبل توجه أوباما إلى إفريقيا، على ديمقراطية الحكومة الإثيوبية، وهو ما جعلها عرضة لهجوم شرس من نخب المعارضة الإثيوبية في المهجر(11).

نوبل للسلام وجدال الأحقية

أشارت عدة مصادر إلى رغبة ترامب في الترشح لجانزة نوبل للسلام لعام 2019. وقام أميركي مجهول بترشيحه للجائزة، مما دفع اللجنة النرويجية المنظمة بتقديم بلاغ للشرطة النرويجية(12). وعندما حصل رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، على الجائزة لم يهنِّئه ترامب، وألمح إلى أحقيته أمام جمع من مؤيديه، قائلًا: “سأتحدث إليكم عن جائزة نوبل للسلام… عقدتُ صفقة وأنقذت بلدًا، ثم سمعت أن رئيس ذلك البلد حصل على جائزة نوبل للسلام لإنقاذه البلد”(13). أما آبي أحمد، فقد قال ردًّا على سؤال في مؤتمر صحفي خلال زيارته لجنوب إفريقيا في يناير/كانون الثاني 2020: “إذا كان لدى ترامب شكوى حول جائزة نوبل فعليه أن يتوجه بها إلى منظمي الجائزة”(14).

ويلاحظ هنا أن تصريحات آبي أحمد هذه كانت في خضمِّ مفاوضات سد النهضة الجارية في واشنطن، وقبيل الجولة الأخيرة المقررة في منتصف يناير/كانون الثاني 2020. وهي الفترة التي تصاعدت فيها وتيرة الضغوط الأميركية على إثيوبيا للقبول بمقترحاتها، كما سيتم توضيحه في الفقرة التالية. كما أن زيارة آبي أحمد لجنوب إفريقيا كانت لطلب تدخل الاتحاد الإفريقي في مفاوضات سد النهضة، في مقابل ما بدا واضحًا من انحياز الإدارة الأميركية لمصر.

مفاوضات واشنطن: القشة التي قصمت ظهر البعير

يمثِّل التدويل أحد الخيارات الاستراتيجية التي اعتمدتها مصر للضغط على إثيوبيا؛ حيث ترى القاهرة أن لديها هامش مناورة في الولايات المتحدة وداخل المؤسسات الدولية المانحة، مقابل ما تتمتع به إثيوبيا على الساحتين، الإفريقية والأوروبية. لذا، لجأت مصر لتوظيف مواقفها في ملفات الشرق الأوسط وخاصة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي للحصول على دعم إدارة ترامب في مفاوضات سد النهضة.

رفضت إثيوبيا تدويل السد، أو دخول وسطاء في المفاوضات، ولكن مع تواصل الضغط الأميركي والمصري قبلت بدور المراقبة للإدارة الأميركية والبنك الدولي، واعتبرت قبولها في البداية حوارًا سياسيًّا وليس وساطة في المفاوضات.

وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أصبحت الولايات المتحدة والبنك الدولي يلعبان دور الوساطة لتقريب وجهات النظر وحل القضايا الخلافية في مفاوضات السد.

تم تتويج الوساطة الأميركية بلقاء ترامب مع وزراء خارجية كل من إثيوبيا ومصر والسودان، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، في المكتب البيضاوي. وهو لقاء لم يكن مدرجًا في جدول أعمال ترامب(15)، ولكن استدعته ضرورة المرحلة.

ويلاحظ أن الفترة التي ازدادت فيها الضغوط الأميركية على إثيوبيا هي نفس الفترة التي كانت تستعد فيها إدارة ترامب للإعلان عن صفقة القرن؛ حيث بدا واضحًا أنها ترغب وبشدة في تحقيق اختراق نوعي في مفاوضات السد، لضمان عدم تردد المصريين في دعمهم للصفقة وما يليها من خطوات تطبيع العلاقات مع العديد من الدول العربية، ولتحقيق إنجاز غير مسبوق لترامب شخصيًّا في سنة انتخابية.

في جولة منتصف يناير/كانون الثاني 2020 (أي قبيل الاعلان عن صفقة القرن في 28 من نفس الشهر)، كان من المتوقع أن يتم التوقيع على مذكرة تفاهم أو ما هو قريب من ذلك في أديس أبابا بحضور مراقبين من أميركا والبنك الدولي، لكن طلب مصر بتمديد فترة ملء السد بين 12 و20 عامًا نسف كل التفاهمات، وتم تحويل المفاوضات إلى واشنطن.

بحلول منتصف فبراير/شباط 2020، برزت الضغوطات الأميركية على إثيوبيا للعلن، وتصاعدت ضغوط الرأي العام المحلي في إثيوبيا على آبي أحمد لعدم الدخول في التزامات تجعل من إثيوبيا مدينة بالمياه لمصر إلى الأبد، بالموافقة على تعويض الكميات التي تنقص من المياه التي تصل إلى مصر بسبب سنوات الجفاف القصيرة أو طويلة الأمد.

وجاء إعلان إثيوبيا عن عدم مشاركتها في جولة واشنطن الأخيرة، والمقررة في 27-28 فبراير/شباط 2020، ورفض التوقيع على الاتفاق المقترح من وزارة الخزانة الأميركية بقدر ما أحدث مفاجأة لدى المراقبين فإنه شكَّل صدمة كبيرة لترامب، ودفع بوزير خزانته إلى مطالبة إثيوبيا بعدم القيام بملء السد قبل التوصل إلى اتفاق، وهو تصريح اعتبرته الخارجية الإثيوبية غير دبلوماسي وغير لائق(16).

ومثَّل ذلك الامتناع عن الحضور وعدم التوقيع على الاتفاق كرة ثلج تدحرجت حتى وصلت بالإدارة الأميركية إلى تعليق جزء من دعمها لإثيوبيا، ووضع العراقيل على قروض البنك وصندوق النقد الدوليين، وصولًا إلى تصريحات ترامب الأخيرة التي قصمت ظهر البعير.

فيروس كورونا: صراع الفِيَلة وموت الأعشاب

سيذكر التاريخ أن تعامل ترامب مع أزمة كورونا باستخفاف كان سلبيًّا على إدارته، وربما كانت العامل الأكبر الذي أسهم في خسارته ولاية رئاسية ثانية. ومحاولته تحميل الصين المسؤولية هي ومنظمة الصحة العالمية، هي ما هزَّت صورته على المستوى المحلي، وزادت من حدة التوتر دوليًّا، في وقت أشد ما كان العالم فيه بحاجة إلى التعاون. ولم يقتصر التوتر على العلاقة بين الصين والولايات المتحدة، بل انتقل إلى المنظمات القارية، وإلى الاتحاد الإفريقي عمومًا وإلى إثيوبيا على وجه الخصوص. وفي مايو/أيار 2020، اتهم ترامب منظمة الصحة ومديرها، تيدروس أدهانوم، الإثيوبي، بالارتهان للصين، وبتضليل الولايات المتحدة الأميركية، وقام بإيقاف التزامات بلاده لمنظمة الصحة العالمية مما جعله عرضه لانتقادات كبيرة على المستوى الدولي.

بدورها، وقفت القيادات الإفريقية خلف الإثيوبي، تيدروس، مدير منظمة الصحة؛ حيث دعا الاتحاد الإفريقي وعدد من القيادات الإفريقية إلى التركيز على معالجة الأزمة العالمية، وعدم تسييسها. ومن جانبها، قامت رئيسة إثيوبيا بدعم قيادة تيدروس لمنظمة الصحة، ودعت للتركيز على إنقاذ الموقف بدل التلاوم(17).

كما قامت إثيوبيا بدعم الصين دبلوماسيًّا ومعنويًّا عبر الإبقاء على تسيير الخطوط الجوية الإثيوبية نحو المطارات الصينية في أوج أزمة كورونا رغم تعرضها لانتقادات محلية وقارية(18). وتولت إثيوبيا عبر خطوطها أيضًا نقل المساعدات الصينية الخاصة بكورونا إلى جميع الدول الإفريقية بالتنسيق مع مركز الاتحاد الإفريقي للوقاية ومكافحة الأمراض.

التنافس الأميركي-الصيني على إفريقيا

لا شك أن المواقف الشخصية لترامب كان لها دور كبير في تعقيد العلاقات الإثيوبية-الأميركية حول سد النهضة. لكن التركيز على هذا الجانب الشخصي يجب ألا يُخفي عنَّا وجوهًا أخرى للعوامل المؤثِّرة على علاقة البلدين. ويأتي التنافس الأميركي-الصيني على إفريقيا في مقدمة المؤثر الثابت على العلاقات الإثيوبية-الأميركية.

ومن هذا المنطلق، يجب وضع موقف إدارة ترامب من سد النهضة في الإطار العام للتوتر المتصاعد بين الصين الولايات المتحدة على خلفية التنافس على القارة السمراء، والتي تمثل إثيوبيا إحدى بواباتها الرئيسية. ففي هذا الإطار، ترغب أميركا في الضغط على إثيوبيا عبر نافذة السد ومن خلال دعم الموقف المصري للتخفيف من اندفاع أديس أبابا نحو بيجين.

لم تكن أميركا راضية عن حجم العلاقات الإثيوبية-الصينية المتعاظمة عبر عقود، وإن كانت تغضُّ عنها الطرف في سبيل تعزيز التعاون حول الأمن الإقليمي مع أديس أبابا، كما ذُكر أعلاه. ومع التطورات الأخيرة، يبدو أنه حانت الفرصة عبر نافذة سد النهضة التي صار من المُلِحِّ الاستفادة منها، وهو ما لا يفوِّته الجمهوريون كمؤسسة حزبية قبل الرئيس، ترامب، كرئيس.

ومعلوم أن العلاقات الإثيوبية-الصينية حديثة عهد نسبيًّا؛ حيث تعود إلى بداية سبعينات القرن الماضي، ولم تتمكن من قطع خطوات كبيرة خلال العهد الشيوعي في إثيوبيا (1974- 1991) نظرًا لتوجه أديس أبابا نحو الاتحاد السوفيتي(19). وقد بدأ دفء العلاقة البينية يجد طريقه في منتصف التسعينات عندما قام رئيس الوزراء الإثيوبي، مليس زيناوي، بزيارة إلى الصين.

وبعد 2005، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة وعلى كل الأصعدة(20)؛ حيث تعرضت إثيوبيا لانتقادات شديدة من الغرب في ملف حقوق الإنسان على خلفية الأحداث الدموية التي تلت الانتخابات العامة، سنة 2005، وفازت المعارضة الليبرالية الوحدوية بجميع مقاعد العاصمة، أديس أبابا، والمدن الرئيسية، ودخلت في خلاف دام مع حكومة مليس زيناوي(21).

حينها، واجهت إثيوبيا ضغوطًا من المؤسسات الغربية عبر إلغاء أجزاء معتبرة من الدعم المالي؛ مما دفع مليس زيناوي إلى تعزيز العلاقات مع الصين كشريك استراتيجي؛ وهو ما عزز العلاقات الإثيوبية-الصينية بدرجة عالية وعلى كل الأصعدة، وتبنِّي الشرعية التنموية للدولة ونظام الحزب الواحد(22)، والتحول إلى عرَّاب الشراكة الإفريقية-الصينية. واليوم، تعتبر الصين أكبر شريك تجاري وداعم أساسي لإثيوبيا في كل المجالات، والشركات الصينية هي من بين أهم الشركات التي تعمل على تركيب مولِّدات الكهرباء والإشراف على الإنتاج التجريبي للطاقة في سد النهضة.

جو بايدن والطريق إلى الأمام

يبدو أن العالم تنفَّس الصُّعداء مع مغادرة أكثر رؤساء الولايات المتحدة إثارة للبيت الأبيض، ويبدو أن الإثيوبيين مع العديد من الدول التي لا تأسف على رحيل ترامب؛ حيث لم يتردد رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في توجيه التهنئة للرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، معبِّرًا له عن استعداد بلاده للعمل معه. وفي ذلك إشارة كبيرة إلى أمل القيادة الإثيوبية في أن يصلح بايدن ما أفسده سلفه. وتعتمد آمال إثيوبيا على التفاهم التاريخي بين إثيوبيا والإدارات الديمقراطية، وعلى إدراك جو بايدن لأهمية الدور الإثيوبي في المنطقة، كونه من مخضرمي مؤسسات الحكم الأميركية. ومع تمسك إثيوبيا بمواقفها في مفاوضات السد، وتعزيز علاقتها الاستراتيجية مع الصين، ستدرك إدارة الديمقراطيين أنه لابد من إعطاء أديس أبابا هامش مناورة حتى لا تندفع نحو بيجين.

لقد سَنَّ ترامب بتعامله مع سد النهضة ومع الحليف التقليدي لأميركا في القرن الإفريقي سابقة في العلاقات بين البلدين، كما خلق أرضية جديدة. ولا شك في أن إدارة جو بايدن ستستخدم تلك الأرضية في مساومة إثيوبيا، وخاصة حكومة آبي أحمد، لتثبيت المصالح الأميركية في المنطقة، وضمان مواقع متقدمة للشركات الأميركية في ظل المنافسة الصينية الشرسة، على خلفية هيكلة الاقتصاد الإثيوبي؛ حيث تبنَّت إثيوبيا خطة لتحرير الاقتصاد، وخصخصة قطاعات عامة أساسية كالاتصالات والطيران وقطاع الطاقة. وهي قطاعات حيوية ومجدية في بلد 110 ملايين نسمة.

كما أن مصر ستعمل على استغلال الرئيس بايدن المعطيات الجديدة التي خلَّفتها إدارة ترامب على العلاقات الأميركية-الإثيوبية، مما يتطلب جهودًا دبلوماسية مضاعفة من إثيوبيا، وبالتالي دخول أديس أبابا والقاهرة في تنافس دبلوماسي محتدم باتجاه أروقة البيت الأبيض والمؤسسات الدولية خلال الفترة القادمة.

خاتمة

يبقى أكبر تحدٍّ يمكن أن يواجه العلاقات الإثيوبية-الأميركية خلال الفترة القادمة -في نظري- هو كيفية تعاطي إدارة بايدن مع الأزمة السياسية التي تشهدها إثيوبيا على خلفية المواجهات بين الحكومة المركزية وجبهة تحرير تيغراي شمال البلاد، والخلاف السياسي مع تيارات أخرى في البلاد، وما يترتب عليها من تداعيات محلية وإقليمية.

مراجع

(1)- Meles Zenawi Laid the cornerstone for Great Millennium Dam of the Blue Nile, Ethiopia, Part 1 of 2, youtube.com, April 2, 2011(accessed November 24, 2020):

https://www.youtube.com/watch?v=pbzYvjQtEgI&feature=youtu.be

(2)- Mehretu, Assefa (2014) “The Fall of American Soft Diplomacy in Ethiopia: A Victim of its own Success,” International Journal of African Development: Vol. 1: Iss. 2, Article 6. wmich.edu (accessed November 24, 2020):

Available at: https://scholarworks.wmich.edu/ijad/vol1/iss2/6

(3)- A Guide to the United States’ History of Recognition, Diplomatic, and Consular Relations, by Country, since 1776: Ethiopia, State.gov, (accessed November 27, 2020):

https://history.state.gov/countries/ethiopia

(4) الدرغ هو الاسم السياسي للنظام الشيوعي الذي حكم إثيوبيا بقيادة الكولونيل، منغيستو هيلاماريام بين 1974-1991.

(5)- Assefa Mehretu, Michigan State University, The Fall of American Soft Diplomacy in Ethiopia: A Victim of its own Success, 2014, (Accessed in November 26. 2020):

https://scholarworks.wmich.edu/ijad/vol1/iss2/6/

(6) “آبي أحمد”: أول رئيس وزراء من عرقية أورومو يحكم إثيوبيا، بي بي سي، 28 مارس/آذار 2018 (تاريخ الدخول: 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2020):

https://www.bbc.com/arabic/world-43564445

(7)- Ethiopian and the United States: A loveless liaison, THE ECONOMIST (April 3, 2008), (Accessed in November 26. 2020):

http://www.economist.com/node/10979876.

(8)- Seife Ayalew, The Security and Human Rights Dilemma: An Inquiry into U.S.-Ethiopia Diplomatic Relations 1991-2012, August 2018 (Accessed November 25, 2020):

https://www.researchgate.net/publication/327110930_The_Security_and_Hum…

(9)- OP Cit.

(10)- EDWARD-ISAAC DOVERE, Obama differs from top aides over Ethiopia’s democracy, Politico.com 07/27/2015 (accessed November 23, 2020):

https://www.politico.com/story/2015/07/obama-differs-from-top-aides-ove…

(11)- Alemayehu G. Mariam, Open Letter to Susan Hypocrit E Rice: People Who Live in Glass Houses Should Not Throw Stones, ECADEF site, in Opinions October 7, 2019

https://ecadforum.com/2019/10/07/open-letter-to-susan-hypocrit-e-rice/

(12) لجنة نوبل: ترشيح ترامب لنوبل للسلام قد يكون مزيفًا، بي بي سي، 28 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول: 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2000):

https://www.bbc.com/arabic/world-43231931

(13) ترامب يدَّعي إنقاذ إثيوبيا ويلمِّح لأحقيته في جائزة نوبل للسلام، بوابة نيوز، 11 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2020):

https://bawabaa.org/news/109098

(14)- Ethiopia’s Abiy Ahmed responds to Trump’s Nobel Prize complaint, BBC, 13 January 2020 (Accessed: November 20, 2020):

https://www.bbc.com/news/world-africa-51089697

(15)- Patsy Widakuswara, Trump Meets with Egypt, Ethiopia, Sudan FMs About Dam Feud, Voice of America News, November 06, 2019 (Accessed: November 10, 2020):

https://www.voanews.com/usa/trump-meets-egypt-ethiopia-sudan-fms-about-…

(16)- Trouble as Trump dives into the dispute over Ethiopia’s Nile mega-dam, Dutch welle, 27/10/2020 (Accessed: November 12, 2020):

https://www.dw.com/en/trouble-as-trump-dives-into-the-dispute-over-ethi…

(17)- African leaders trump well for attack on WHO, back Ethiopia’s Tedros, African News, 9/4/2020 (Accessed: November 11, 2020):

https://www.africanews.com/2020/04/09/african-leaders-trump-trump-for-a…

(18)- Ethiopian Airlines to China: last international carrier standing, The Africa Report, 27 March 2020, (Accessed: November 10, 2020):

https://www.theafricareport.com/25202/ethiopian-airlines-to-china-last-…

(19)- Cabestan, Jean-Pierre. (2012). China and Ethiopia: Authoritarian affinities and economic cooperation. China Perspectives. 2012. 53-62. 10. 4000/  chinaperspectives. 6041.

(20)- Jean-Pierre Cabestan, China and Ethiopia: Authoritarian affinities and economic cooperation, December 2012, China Perspectives 2012, (accessed November 27, 2020):

https://www.researchgate.net/publication/301898843_China_and_Ethiopia_A…

(21)- Jon Abbink, Leiden University, Discomfiture of Democracy? The 2005 Election Crisis in Ethiopia and Its Aftermath,  October 2005, African Affairs 105 Political change in the Horn of Africa (accessed November 27, 2020):

https://www.researchgate.net/publication/31305504_Discomfiture_of_Democ…

(22)- ALEX DE WAAL, THE THEORY AND PRACTICE OF MELES ZENAWI, African Affairs, 112/446, 148–155

 

رابط المصدر:

https://studies.aljazeera.net/ar/article/4855

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M