ملخص
لقد شغل سد النهضة مساحة غير مسبوقة في يوميات المصريين مؤخراً، شعباً وحكومة ومؤسسات، بسبب الأهمية المتقدمة التي يشغلها في الوجدان والعقل المصريين، حاضراً وتاريخياً، لأنّ النيل شريان الحياة لمصر وشعبها الذي تجاوز عدده المئة مليون نسمة، وأنّ أي اعتداء على نهر النيل، وتقييد حصة المصريين من مياهه، سيشكّل تهديداً للأمن القومي لمصر، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، مروراً بالسياسي والعسكري، وليس انتهاءً بسمعة مصر وتاريخها كدولة عظمى ورائدة في المنطقة، في الثقافة وفي التقدم نحو قيادة حركات التحرر، وكحضارة منحت البشرية الكثير الكثير.
ومن هنا جاءت أهمية تناول أزمة سد النهضة، وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر وشعبها، ودور الدول الإقليمية والدولية في تسعير الخلاف بين دول حوض النيل، ولا سيّما دور الكيان الإسرائيلي في ذلك، لما تشكّله جمهورية مصر العربية من سدٍّ منيع، وقوة مؤثّرة في الوقوف أمام توسّعه وهيمنته وطموحاته للسيطرة على المنطقة ومقدراتها، على الرغم من اتفاقية كامب ديفيد المعقودة بين البلدين؛ ولماذا تقف الولايات المتحدة، المتحالفة مع مصر منذ وصول الرئيس الراحل أنور السادات إلى الحكم، إلى جانب إثيوبيا في هذا الصراع، وأين هو دور مجلس الأمن الدولي في تقريب وجهات النظر بين الدول المتنازعة؟ وسنناقش خيارات مصر العسكرية في تقويض هذا المشروع الخطير عليها.
مقدمة
“لا يقل أمن المياه أهمية عن الأمن القومي، حيث إن التفسير المصري لمفهوم الأمن القومي لم يعد قائماً على الجانب الإستراتيجي وحده، بل امتد ليواكب ويتلاءم مع الأمن المائي. ولقد كانت المياه محلاً للصراعات منذ أمد بعيد، ومثّلت صراعاً على مياه البحار نظراً إلى أهميتها في مجال التجارة وتوزيع مناطق النفوذ، إلا أنه ظهر مؤخراً على المسرح العالمي أن المياه العذبة هي محل الصراع القائم، بعد أن تمّ حسم الصراع على المياه المالحة (بحار ومحيطات بموجب اتفاقيات عقدتها الدول في اتفاقيات بينية). و يُعدُّ عقد التسعينيات هو عقد الصراع على موارد المياه، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، حيث المصادر المحدودة للمياه، والتي تتركز في أحواض الأنهار الرئيسية مثل نهر النيل”[1]
وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي تمت من خلال التطورات المتلاحقة التي شهدها العالم منذ نهاية الثمانينيات والتسعينيات فإنّ مصر تواجه تحدياً حقيقياً، وهو دخول فاعلين جدد إلى منطقة حوض النيل ك “إسرائيل” والولايات المتحدة، والبنك الدولي -وما أطلقه من مفاهيم جديدة، منها تسعير المياه وخصخصتها، وبورصات المياه- بما قد يعنيه من نشوء صراع بين تلك الدول خلال السنوات التالية. لذا يمكن أن تخرج القضية عن النطاق الإقليمي، ويصبح للأطراف الخارجية دور فاعل فيها، ومن ثم ظهور أعباء إضافية على عاتق صانع القرار المصري، وتهديد للأمن القومي المصري. وتؤدي القوى الخارجية دوراً فاعلاً ومؤثراً في أنشطة النظم الإقليمية وتفاعلاتها، وذلك من خلال تأثيرها في أنماط تفاعلات النظم الإقليمية. ويتجلى الدور الذي تمارسه القوى الخارجية في نمط تفاعلات النظم الإقليمية في أحد أمرين. فقد تؤدي دوراً منشئاً لتلك التفاعلات (صراعات – تعاون) وقد تؤدي دوراً محفزاً لتلك التفاعلات. وقد تؤدي الدورين معاً.”[2]
مفهوم النّهر الدولي والأمن المائي
يُعرّف النهر الدولي كما ورد في اتفاقية جنيف سنة 1815 بأنه النهر الذي يمر عبر أراضي دولتين أو أكثر، أو يصل بين هذه الأراضي. تمييزاً له عن النهر الوطني الذي يقع بأكمله (أي من منبعه إلى مصبه) داخل إقليم دولة واحدة، وعندما تطور استخدام الأنهار، أطلق على الأنهار التي يهتم بها القانون الدولي مصطلح جديد هو ” الطريق المائي الدولي “. واشترطت اتفاقية برشلونة لسنة 1921 في شأن الملاحة في الأنهار الدولية، أن يتوافر في النهر ثلاث صفات حتى يصبح نهراً دولياً للملاحة، وهي: الصلاحية للملاحة، والاتصال بالبحر، وأن يقع في أقاليم أكثر من دولة. ونتيجة لاتساع استغلال الأنهار واختلاف أوجهها، ظهر اصطلاح جديد، حل محل وصف النهر الدولي، هو اصطلاح “نظام المياه الدولية” ( (waters System of Internal. يقصد بهذا الاصطلاح تلك المياه التي تتصل فيما بينها في حوض طبيعي، ومتى امتد أي جزء من هذه المياه داخل دولتين أو أكثر، ونظام المياه الدولية يشمل المجرى الرئيسي للمياه، كما يشمل روافده.
استقرت لجنة القانون الدولي التي صاغت اتفاقية الأمم المتحدة استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، على استخدام مصطلح “مجرى مائي دولي”International Water Course وعرفته بأنه شبكة المياه السطحية والمياه الجوفية المتصلة ببعضها بعضاً، وتشكل كلاً واحداً، وتتدفق صوب نقطة وصول مشتركة، وتقع أجزاؤها في دول مختلفة يشمل هذا المفهوم – كما طورته اللجنة “النهر الدولي”، وهو الاصطلاح الأكثر تقليدية، ومن المهم أن نلاحظ أن تعبير “النهر الدولي” لا يزال، وربما لأسباب مبررة، قيد الاستعمال في الأدبيات القانونية.”[3]
ما المقصود بالأمن المائي؟
“تُعرِّف منظمة الأغذية والزراعة للأمم المُتحدة “ثلاثية الماء والغذاء والطاقة” بأنها مفهوم شامل للطبيعة المترابطة لمنظومة الموارد العالمية، فهي ثلاثية يؤثِّر كل منها في الآخر، ولا يمكن فهم أيٍّ منها أو إدارته إدارة كفؤة وفعالة، تحقق الأهداف التنموية والاجتماعية وتضمن توازن النظام الإيكولوجي واستدامته، بمعزل عن الآخر، وكما يشير اسمها فهي تشمل ثلاثة أهداف أساسية هي : أمن الماء، وأمن الغذاء، وأمن الطاقة.
وتنتمي الأهداف الثلاثة إلى نطاق البنية التحتية الاجتماعية؛ ما يوسِّع آثارها وينشرها عبر مُجمل قنوات الأداء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدولة، ويبرز ضمنها الأمن المائي،”[4]
“ويعدّ الأمن المائي كأحد أهم الأهداف الإنمائية للألفية، بما له من آثار مباشرة على الغذاء والطاقة، وغير مباشرة على الصحة ومستويات المعيشة والأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي؛ ما يتجلى فيه الارتباط بين الموارد الطبيعية واحتياجات التنمية والصراعات الإقليمية والدولية، ما زاد من اعتباره “النفط القادم” مع شُحِّه الذي بدأ فعلاً، ما يفسر الأطروحات المتداولة منذ عقود عن حروب المياه المُتوقعة، كتوقع ورقة تقييم المخاطر التي أعدتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية في التسعينات لعشرة مواقع مُحتملة لهذه الحروب، معظمها في منطقة الشرق الأوسط”[5]
وما حددته دراسة أحدث في العام 2018، كأكثر المناطق المحتمل أن تعاني توترات هيدروبوليتيكية، وضعت على رأسها منطقة حوض النيل، وبعدها مناطق نهري الغانج براهما بوتر ونهر السند ونهري دجلة والفرات ونهر كولورادو.
المقصود بالأمن المائي هو القدرة على توفير الماء بشكل مستدام، والوصول إليه واستخدامه. ويجب أن يكون هذا الماء صالحاً للشرب أو للاستخدام في عدد من المجالات، ويتطلب ذلك مجموعة من الإجراءات التي تقوم بها الدول أو المنظمات لتوفير الماء، بالإضافة إلى تحسين وسائل توصيل المياه ونقلها واستخدامها وترشيدها، ما يعني ضرورة وضع سياسة عامه لإدارة الماء تهدف إلى عدم الهدر.
وعندما يتوفر الأمن المائي؛ فإن الكثير من النتائج الإيجابية سوف تتحقق بما في ذلك: توفير الماء الصالح للشرب بأسعار معقولة لجميع أفراد المجتمع من دون استثناء، ووالحد من المشاكل المترتبة على تغير المناخ وتقلبه، والظواهر المرتبطة به كالتصحّر، وتوفير الشعور بالأمن لدى أبناء المجتمع، والذي ينعكس بشكلٍ إيجابي على نشاط أفراد المجتمع بشكلٍ عام، ما يؤدي إلى تحسين الاقتصاد، وتحقيق استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي في الدولة.
ويتحقق الأمن المائي عندما يكون هناك كمية كافية من الماء لجميع الأفراد المقيمين في منطقة جغرافية أو دولة ما، بالإضافة إلى وجود إمدادات مستدامة من الماء لتعويض الماء الذي يستهلكه الأفراد، ويشمل الأمن المائي أيضاً حماية أفراد المجتمع من الأضرار الناجمة عن عدم استقرار إمدادات المياه مثل التصحر والجفاف والفيضانات.
يمكن السعي إلى تحقيق الأمن المائي أيضاً عن طريق تنفيذ خطط لتأمين الماء بطرق غير تقليدية مثل تحلية مياه البحر أو المحيط أو سحب المياه الجوفية الموجودة تحت الأرض أو حتى شن الحروب من أجل السيطرة على الموارد المائية في الدول الأخرى.
وبدأت أدبيات العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي تركز على إعادة تعريف مفهوم الأمن، بحيث لم يعد فقط يعني القوة العسكرية لدولة ما، بل توسعت لتشمل قوتها الاقتصادية، ومدى قدرتها على الحفاظ على مواردها الطبيعية وتنميتها، وفي مقدمتها المياه. وصار مفهوم الأمن المائي أحد مكونات مفهوم الأمن القومي.
وفي اطار السعي إلى وضع معيار محدّد لتحديد درجة الإحساس بالأمن المائي طوّر بعضهم مفهوم “حدّ الأمن المائي” الذي يشير الى متوسط نصيب الفرد في دولة ما من الموارد المائيّة العذبة المتجدّدة لتلبية احتياجاته المختلفة، وقد توافق الخبراء على المستوى العالمي على اعتبار معدّل ألف متر مكعب من المياه للفرد في المتوسط سنويّا هو الحدّ الأدنى الذي دونه يمكن أن تتعّرض دولة ما لمشاكل ندرة مائيّة، ربّما تهدّد صحة المواطنين، وتصبح المياه عاملاً محدّدا لعمليّة التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولنوعية البيئة، وهناك شبه اتّفاق على أن معدّل خمسمئة متر مكعب من المياه يعتبر شحاً مائياً، وليس ثمّة شك في وجود علاقة عضوية وطيدة بين الأمن المائي وبين الاستقلال الاقتصادي والسياسي، بمعنى أن تحقيق الأول يقود الى ضمان تحقيق الثاني، كما أ ّن فقدان الأّول يؤدي بشكل طبيعي الى فقدان الثاني، الأمر الذي دفع بالكثير من المعنيين الى القول بأنّ الأمن الغذائي يقود إلى الأمن المائي.
أهمية نهر النيل بالنسبة لمصر
يشّكل نهر النّيل أهميّة وازنة في اقتصاد دول حوضه، وخاصة في المجال الزراعي، فكانت سهول النّيل الفيضيّة من أوائل المناطق التي مارس فيها الإنسان حرفة الزراعة، واستقر فيها، وأنشأ فيها القرى والمدن. وكانت مياه نهر النيل هي السبب الرئيسي في انتشار العمران في الأراضي المصرية، والتي تعدّ مناطق صحراوية، وعلى طول هذا النهر تمت إقامة الكثير من المراكز والاستراحات السياحية، فقد تطوّر هذا القطاع بشكل كبير في كل من مصر والسودان، وكما استُخدم النيل في النقل منذ العصور القديمة، فقد أنشئت بعض القنوات التي تصل بين نهر النّيل والبحر الأحمر، واستخدمت هذه القنوات كطرق تجاريّة تصل ما بين قارتي آسيا وإفريقيا، حتّى تطّورت الى فكرة حفر قناة السويس التي تصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط. وتشارك مصر في نهر النيل تسع دول وهي : السودان و إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي والكونغو. ثم انضمت إليهم جنوب السودان لتصبح عشر دول لاحقاً.
سد النهضة
مشروع سد النّهضة ليس مشروعاً جديداً، بل كان مطروحا منذ العام 1926 من القرن الماضي، ولم يصبح محل إشكال لدول المصب إلا مع ظهور الشحّ المائي. “وتعود الأصول التاريخية لفكرة سد النهضة إلى أربعينيات القرن العشرين، عندما حدد مكتب الاستصلاح الأميركي (26) ستاً وعشرين موقعاً لإقامة سدود في إثيوبيا، على رأسها أربعة سدود على النيل الأزرق، كان ضمنها سد النهضة الحالي، وعاود الأميركيون الاهتمام بسدود النيل الأزرق في العام 1964، رافعين عددها إلى أربعة وثلاثين سداً على ذلك النهر وحده، وهو عٌدَّ رداً بحسب بعض الخبراء على إنشاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، للسد العالي بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي.”[6]
ومن المعلوم أيضاً أنّ السدود الإثيوبية الأربعة لها خلفية تاريخية حيث ترجع إلى المخطط الأميركي، “وهي جاءت رداً على قيام مصر بإنشاء السد العالي، فأرسلت الولايات المتحدة بعثة دبلوماسية كبيرة من مكتب الاستصلاح الزراعي الأميركي في العام 1985 لدراسة عدة مشروعات وإنشاء سدود وإقامتها على النهر الأزرق، حيث يبلغ حجمه أربعة أخماس حجم مياه نهر النيل، واستصلاح أراض جديدة قابلة للزراعة. وانتهى مكتب الاستصلاح الأمريكي من وضع مخطط يضم إنشاء ثلاثة وثلاثين مشروعاً منهم أربعة سدود على النهر الأزرق بسعة تخزينية تقارب سبعين مليار متر مكعب من المياه، وتوليد طاقه كهربائية بسعة 5,500 ميغاوات، بالإضافة إلى الأراضي الزراعية التي سيتم استصلاحها بعد إنشاء السدود، والتي حددها مكتب الإصلاح الأمريكي، وتبلغ مليون فدان، يستهلك ما يقرب من خمس مليارات متر مكعب من المياه سنوياً”[7]
وقد تغيرت تسميات المشروع، مع تطورات مُخططاته ونطاقاته، فمن سد (بوردر) Border أو السد الحدودي في دراسة مكتب الاستصلاح الأميركي بسعة(13.3) ثلاثة عشر مليار متر مكعب أعوام 1958-1964، إلى مشروع إكس X Project برعاية الشركة الإثيوبية للطاقة الكهربائية في العام 2011، إلى سد الألفية الإثيوبي العظيم بسعة سبعة عشر مليار متر مكعب في العام نفسه، لينتهي أخيراً إلى اسم سد النهضة الإثيوبي العظيم في العام ذاته كذلك، لكن بزيادات جديدة كبيرة في سعته من 62 إلى 67 ثم 70 مليار متر مكعب، انتهت إلى 74 مليار متر مكعب في العام 2012.”[8]
المواصفات، الموقع، ومعطيات التشييد
يقع سد النّهضة على النّيل الأزرق بولاية بني شنقول في إثيوبيا، وذلك بالقرب من الحدود الإثيوبيّة السودانيّة، ويبعد عنها بين العشرين والأربعين كيلومتراً. وسَدّ النهضة الإثيوبيّ هو واحد من أضخم السدود في العالَم، إذ يتمّ إنشاؤه في نهاية نهر النيل الأزرق، وضمن حدود الدولة الإثيوبيّة؛ بهدف تحسين قدرة إثيوبيا على توليد الطاقة الكهربائيّة، وتصديرها إلى دُول الجِوار. ومن الجدير بالذكر أنّ إثيوبيا قد حوَّلت مجرى نهر النيل الأزرق في أيّار/مايو من العام 2013م؛ بهدف إنشاء جسم السدّ، وفي 26 كانون الأوّل/ديسمبر من العام 2015م، تمّت إعادة المسار الطبيعيّ إلى النهر بعد الانتهاء من إنشاء الأنفاق السُّفلية للسدّ.[9]
ويتكوّن سد النهضة في تصميمه الأخير من سد رئيسي على مجرى النيل الأزرق بارتفاع 145 متراً وامتداد بطول 1800 متر، مع سد مُكمل لزيادة التخزين، وارتفاعات ركامية محيطة بجوانبه المنخفضة بحوالي 45 متراً، وبحيرة تخزين، مع ثلاث قنوات تصريف ومحطتي توليد كهرباء بالتوربينات على جانبي السد، ويغطي مساحة 1680 كم2، ما سيجعله أكبر سد كهرومائي في إفريقيا، والعاشر عالمياً.” وهو واحد من بين ثلاثة سدود تُشيد في إثيوبيا بهدف توليد الطاقة الكهرومائية، وسيحتوي على خمس عشرة وحدة لإنتاج الكهرباء، قدرة كل منها ثلاثمئة وخمسين ميغاوات، حيث ستنتج مستقبلاً من خمسة إلى ستة آلاف ميغاوات من الطاقة الكهربائية، وتشير التوقعات إلى أن التكلفة الإجمالية للسد -الذي أسندت عمليات إنشائه إلى شركة “سالني” الإيطالية- ستقارب خمسة مليارات دولار. [10]“
إيجابيات وسلبيات
تتخوف كل من مصر والسودان من تأثير سد النهضة على حصصهما المائية، ولا سيما أن مصر تعدّ فعلياً ضمن الدول الفقيرة مائياً، بانخفاض حصة الفرد من المياه فيها تحت المعدل المُعتمد دولياً للندرة المائية البالغ حوالي ألف متر مكعب للفرد سنوياً، وتشير التقديرات لاحتمال وقوع مصر تحت عجز مائي يبلغ أثنين وثلاثين مليار متر مكعب في العام 2025.
“أما السودان، فوضعه أفضل إلى حدٍّ ما، فبحصته البالغة 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، وحصة الفرد المتجاوزة لمُعدل الندرة دولياً؛ يظل خارج نطاق الندرة المائية، وإن كان مع اعتماده على النيل بحوالي 80% من احتياجاته، يظل مُعرضاً لقصور موارده المائية عن الوفاء باحتياجاته التنموية الحالية والمُستقبلية، بما يصل إلى 10 مليارات متر مكعب حالياً، تتزايد بالطبع مع الضغوط الناتجة عن السد”[11]
ويعني ما سبق هشاشة الوضع المائي لمصر والسودان فعلياً في الوقت الحالي؛ ما يفاقم الآثار المائية المباشرة المُتوقعة للسد عليهما، إضافة إلى لآثار الجيولوجية والبيئية، كما يلقي بظلال كئيبة على الآثار التابعة لها على الغذاء والطاقة معاً، وبالمُجمل تشير التقديرات إلى الآثار العامة التالية:
1- فقدان مصر والسودان لكمية مياه تتراوح ما بين 14 و24 مليار متر مكعب، حسب سعة التخزين الميت للسد، وقد أعلنت إثيوبيا أنها ستكون بمقدار 14 مليار فقط، وسيتم حجزها بالسد على مدى ثلاثة أعوام؛ ما يقلِّل الخسائر السنوية للبلدين من المياه حال التزامها بذلك، وإن كانت مصر ستفقد ثلاثة أمثال ما سيفقده السودان وفقاً لحصصهما في اتفاقية 1959.
- ستفقد مصر والسودان المياه المتسربة عبر صخور الخزان، والتي لم تُقدر كمياتها بعد.
- سترتفع خسائر تبخر المياه بنسبة 5.9%؛ ما سيزيد فاقد المياه وملوحتها.
- ستنخفض سرعة تدفق المياه؛ ما سيزيد معدلات الترسيب بها.
- قد تتوقف زراعة 29.47% و23.03% من الأراضي الزراعية بصعيد ودلتا مصر على التوالي.
- انخفاض مساحات الأراضي المزروعة بالري الغمري والحوضي في مصر والسودان.
- سيفقد السودان بخاصة وارد الطمي السنوي الذي يخصب أراضيه الزراعية حول النيل الأزرق.
- سينخفض منسوب بحيرة ناصر بحوالي عشرة أمتار؛ ما سيؤثر على معدلات توليد الطاقة الكهربائية من السد العالي، وقد يصل الانخفاض إلى ما يتراوح بين 20 و40% منها.
- سيتأثر السودان بالموجات الزلزالية المُحتملة بسبب كميات المياه الكبيرة التي سيخزنها سد النهضة قرب حدوده الجنوبية، والتي ستبلغ مع وزن السد ما يقرب من 150 مليار طن.
- في حالة انهيار السد، كما يتوقع بعض الخبراء بسبب الطبيعة الجيولوجية للأراضي الإثيوبية ([12])، فستغرق المدن السودانية بفيضان هائل من مياهه المُخزنة، بما فيها منطقة الجزيرة والعاصمة الخرطوم ومعظم الأراضي المصرية.”[13]
وأثار إعلان إثيوبيا تحويل مجرى مياه النيل الأزرق -استعدادا لإنشاء السد- قلقاً في مصر، ما جعل خبراء ومتخصصين في شؤون المياه يطالبون الحكومة المصرية والجهات المعنية بهذا الملف بممارسة الضغط على الجانب الإثيوبي، لمنع أو تقليل أي مضار محتملة لإنشاء السد على حصة مصر من مياه النيل.
وتقول إثيوبيا في تصريحات رسمية إنها حريصة على عدم الإضرار بمصالح مصر المائية، وتؤكد أن سد النهضة لن يؤثر على حصة مصر من مياه النيل وفقاً لدراسات تم إجراؤها، بل إن مصر يمكنها الاستفادة من الطاقة الكهربائية الكبيرة التي سينتجها السد.
مخاوف مصر
تنبع مخاوف مصر من سد النهضة، ومن عدم التنسيق معها، وعدم تطبيق الاتفاقيات المعترف بها “من أن السدود الإثيوبية الأربعة المقترحة على النيل الأزرق تهدف إلى التحكم الكامل في مياه النيل الأزرق، وهو الرافد الرئيس لمياه النيل، وبالتالي؛ التحكم في حصة مصر المائية وإلغاء (أو على أقل تقدير “تقزيم”) دور السد العالي في تأمين مستقبل مصر المائي. وأنّ سد النهضة وحده بتصميمه الحالي بسعة 74 مليار متر مكعب ستكون له آثار سلبية عنيفة على حصة مصر المائية، وعلى إنتاج الكهرباء من السد العالي، وخزان أسوان، وذلك أثناء فترات ملء الخزان، وأثناء تشغيله، وتزداد حدة هذه الآثار السلبية خلال فترات الجفاف؛ حيث تتعارض مصالح إمداد مصر والسودان بالمياه الكافية مع تعظيم إنتاج الطاقة من سد النهضة.”[14]
المتابع الجيد لأزمة سد النهضة سيجد أن الهدف الرئيسي الذي تسعى مصر إلى تحقيقه في المفاوضات مع إثيوبيا هو توقيع “اتفاق قانوني ملزم” حفاظاً على حصة مصر المائية من نهر النيل، وهو ما يمكن أن نسميه الهدف الإستراتيجي، ليس فقط في المفاوضات مع إثيوبيا، بل وأيضا في بناء سياساتها مستقبلاً مع دول حوض النيل.
فالمشكلة أعمق من سد النهضة، ومن التعبئة الثانية، المشكلة الحقيقية تكمن في بناء سدود أخرى في المستقبل، قد تؤثر بشكل مباشر على مصر، وفي حال تم بناء سد النهضة من دون إبرام اتفاق قانوني وملزم مع إثيوبيا، فسيشجع ذلك دول حوض النيل الموقعة على مبادرة حوض النيل على بناء سدود أخرى في المستقبل.
ولتفادي الإشكاليات مع إثيوبيا، فقد نظمت مصر اجتماعات الإسكندرية، يوليو 2009، ثم شرم الشيخ (أبريل 2010) لبحث ما يمكن عمله للتوفيق بين دولتي الحوض (مصر والسودان) ودول المنابع، ضمن اتفاق الإطار الذي نظمته اتفاقية 1929، والتي نظمت العلاقة على أساس ما تملكه كل دولة أو إقليم من أراض زراعية. وقد حاججت مصر بالإصرار على اتفاقية الإطار، باعتبارها اتفاقية دولية نافذة، العمل على إقامة علاقات طيبة وتعاونية مع دول منابع النيل، لكن اجتماعات شرم الشيخ انتهت إلى وقوف مصر والسودان معاً في جانب، وسائر دول النيل في الجانب الآخر.
فقد كانت الدولتان مستعدتين لقبول بعض التعديلات في الاتفاقية بما يراعي حصص الدول الجديدة ومشروعاتها، كما أن مصر كانت مستعدة لزيادة المساعدات والمشروعات التنموية، لكن هذه الدول أصرت على نقض اتفاقية 1929، وإعادة توزيع الحصص على أساسين: نسبة مساهمة كل دولة في مياه النيل، وتطورات الأراضي والموارد، والحاجة للمياه في السنوات الخمسين الأخيرة.”[15]
الأمن القومي المصري وإمكانيات الحرب
تعدّ السيطرة على استخدامات مصادر المياه هدفاً مهًما واستراتيجياً للدول الكبرى، فالدولة التي تتحكم في منابع المياه تستطيع أن تؤثر في إمكانية استخدام النهر من قبل دول أسفل النهر من خلال استخدام الضغوط، أو التهديد باستعمال القوة العسكرية الاقتصادية.
وأصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن في العام 1988 مبحثاً عن السياسة الخارجية الأميركية إزاء الموارد المائية في الشرق الأوسط بهدف انتهاج استراتيجية للمستقبل لتعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة، وقد حددت الدراسة أزمة مياه حوض نهر النيل وكيفية معالجتها، فذكرت “أدى الصراع حول توزيع مياه النيل بين مصر والسودان من ناحية، وإثيوبيا من ناحية أخرى، إلى زيادة تكثيف نقاش طال أمده في المجتمع الدولي حول مشكلة المياه. لقد ولّت منذ زمن بعيد تلك الأيام التي كان يُنظرُ فيها إلى المياه على أنها نوع من أنواع الموارد التي لا تنضب. لكنها، في الوقت نفسه، وزعت كما يبدو بطريقة غير عادلة، فبعض الدول لديها فائض كبير، ولدى البعض الآخر نقص حاد في وفرتها. وحتماً تشتد المنافسة وتبرز النزاعات، عندما يدور الحديث عن الأنهار العابرة للحدود، حول مشكلة توزيع مواردها في ظروف ازدياد أحجام استخدامها للاحتياجات الاقتصادية (الري الصناعي، وبناء السدود لإنشاء محطات الطاقة الكهرومائية، وما إلى ذلك). بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم المبالاة تجاه الاحتياطيات الطبيعية من المياه العذبة، وتلوثها بمياه الصرف بأنواعه وبالمخلفات، والضررَ الذي يلحق بالثروة السمكية الناجم عن الأنشطة الاقتصادية المتهورة… كل ذلك له عواقب سلبية للغاية على الاقتصاد.”[16]
ولأنّ قضية مياه النيل قضية مصيرية لمصر ولشعبها واقتصادها؛ فإنّ أموراً كثيرة مطروحة على طاولة البحث، منها العمل العسكري في وجه إثيوبيا إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود، ولكن هل الحرب ستكون هي الحل لهذه المعضلة؟
“لا يمكن القول أن احتمال العملية العسكرية غير وارد على الإطلاق، في ظل طبيعة توجهات السياسة الخارجية المصرية في المرحلة الراهنة، والتي ما زالت تعاني من أزمة شرعية، كون النظام الحالي جاء بانقلاب عسكري في العام 2013، ومصر ذاتها تعاني من حالة عدم استقرار سياسي، كما أن خيار الحرب لا يرتبط فقط بتوازنات القوى العسكرية، ولكنه يرتبط بأنماط التفاعلات الإقليمية والدولية والتحالفات القائمة، وموقع النظام المصري من هذه التحالفات، خاصة في وجود ما يمكن وصفه بالتحالف الاستراتيجي بين كل من إثيوبيا والولايات المتحدة وإسرائيل، والأخيرتان حليفان استراتيجيان للنظام في مصر، ولهما من أوراق الضغط الكثير لضبط حركته الخارجية، إلا إذا قاما هما بالدفع نحو هذه المواجهة، في إطار التدمير الذاتي للقدرات المصرية، التي ستبقى من المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي العدو الاستراتيجي الأول لها في المنطقة”[17]
“كما أن القواعد العسكرية المنتشرة في منطقة القرن تجعل إجراء عملية عسكرية شرق إثيوبيا أمراً غاية في التعقيد، حيث يوجد ما يقارب 19 قاعدة عسكرية ل16 دولة، إلى جانب أربع قواعد عسكرية يحتمل أن تنشئها تركيا وروسيا والسعودية قريباً.
وتعدُّ جيبوتي أحد المواقع المهمة في منطقة القرن الأفريقي، والتي يمر من خلالها قرابة 80% من تجارة إثيوبيا، والتي توجد فيها قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وصينية ويابانية وسعودية، وهو ما يحدّ من فاعلية السلاح البحري المصري في تهديد إثيوبيا التي لا تمتلك سواحل، في حين أن المناطق الحدودية الإثيوبية في الشمال والغرب تتميز بأنها ذات تضاريس وعرة، وهو ما يجعل تنفيذ عملية إنزال عسكري أو عملية برية أمراً معقداً لوجستيا، مما يجعل السودان خياراً مفضلا لمصر.”[18]
وتواجه مصر تحديات كبيرة إذا ما أرادت سلوك المسار العسكري في وجه إثيوبيا منها:
1- الموقع الجغرافي لإثيوبيا البعيد عن مصر، إضافة إلى وجود التضاريس الجغرافية الوعرة.
2- الأوضاع الداخلية السودانية المعقدة ومتعددة الأطراف، ما يجعل من الصعب التوصل إلى قرار جامع، بخلاف العلاقات التي بنتها إثيوبيا مع الأطراف المدنية والجماعات المسلحة المتمردة، وهو ما قد يدفعها إلى الوقوف على الحياد، وقد تمانع من استخدام أراضيها أو قواعد عسكرية لضرب السد.
3- من الممكن أن يؤدي العمل العسكري المصري إلى فرض عقوبات دولية على مصر.
4- تطور العلاقات الإثيوبية مع جيرانها بشكل إيجابي، يحدّ من فرص مصر في ممارسة الضغوط عليها.
5-الانتشار الكبير للقواعد العسكرية الأجنبية في منطقة القرن الأفريقي.
6-عدم وجود قواعد عسكرية مصرية بالقرب من إثيوبيا.
7-المآلات السلبية التي ستنعكس على علاقات مصر مع دول حوض النيل وأفريقيا.”[19]
دور الدول الإقليمية في أزمة سد النهضة
لقد أدّت الدول الإقليمية أدواراً متنوعة في قضية سد النهضة، تبعاً لمصالحها وعلاقتها مع دول الحوض، وكان لكل دولة إسهام معيّن في تسعير الخلاف بين الدول، وكان بارزاً الدور الإسرائيلي، وبعض الدول الأخرى في التدخل وتغليب فريق على الآخر لأهداف سياسية.
وكان للمملكة العربية السعودية دور في تشجيع إثيوبيا ودعمها في مشروع بناء السدّ، مع أنّ السعودية ترتبط بتحالف وثيق مع مصر، منذ ما بعد مرحلة الرئيس عبد الناصر، وتعزّز هذا التحالف مؤخراً في فترة حكم الجنرال عبد الفتاح السيسي وهناك رأي مصري يحيل التدخل والتنسيق بين السعودية وإسرائيل في الوقوف إلى جانب إثيوبيا في مسألة السد، هي لإضعاف الموقف المصري السياسي، وتطويع القاهرة لتنفيذ أجندات سياسية معينة.
وفي هذا السياق جاءت زيارة مستشار ملك السعودية في الديوان الملكي (أحمد الخطيب) لموقع سد النهضة الإثيوبي برفقة وفد اقتصادي وسياسي عالي المستوى، ثم لقاؤه برئيس وزراء إثيوبيا، الذي دعا السعودية إلى دعم سد النهضة مادياً، والاستثمار في إثيوبيا. وتزامنت هذه الزيارة الملتبسة والاتفاقات التي تمت فيها، فضلاً عن الدعم المالي للإسراع في الانتهاء من بناء السد، والاتفاق على مشاريع الطاقة والكهرباء والزراعة من خلاله؛ وتزامن ذلك مع زيارات لمسؤولين إسرائيليين اقتصاديين وعسكريين، والزيارة الشهيرة لنتنياهو في صيف العام (2016) وما نتج منها من اتفاقات سريّة جديدة بين الحليفين التاريخيين (الإثيوبي والإسرائيلي) على حساب الدولة الأكبر والأهم على حوض النيل؛ مصر!!
وأكد الدكتور هاني رسلان نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن الخطوة التي اتخذتها المملكة نحو تعزيز العلاقات مع إثيوبيا في قضية بهذه الخطورة، في إشارة إلى الخلافات حول سد النهضة، لأنه موقف يمسّ كل الشعب المصري – تشير إلى أنهم لا يقدّرون المواقف بشكل صحيح. وأنّ الإجابة عن سؤال لماذا موّلت السعودية وإسرائيل هذا السد، هي، باختصار، محاولة جديدة لتركيع مصر وإخضاعها للقرار والإرادة السعودية والإسرائيلية في تنفيذ ما يطلبانه في المنطقة حتى لو تعارضت مع الأمن القومي المصري.[20]
الدور الإسرائيلي
شغلت المياه موقعاً مهماً في الفكر الاستراتيجي الصهيوني منذ بدء التفكير بإنشاء دولة إسرائيل، وقد استند هذا الفكر إلى ادعاءات دينية وتاريخية باطلة ناتجة عن اعتقادها بما جاء في التوراة: “كل موقع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته… كما كلمت موسى من البركة ولبنان.. هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات… وإلى البحر الكبير نحو المغيب يكون تخمكم”. ولاعتقادها أن الحدود المثالية لدولة إسرائيل من النيل إلى الفرات كما ورد في التوراة أيضاً، وبناءً على هذه الادعاءات قامت الحركة الصهيونية بإيفاد الخبراء واللجان العلمية خلال القرن التاسع عشر لدراسة الموارد المائية في فلسطين، ومدى الاستفادة من مياه نهر الأردن لتوليد الطاقة الكهربائية بسبب انخفاض البحر الميت عن البحر المتوسط.
وأخذت أهمية المياه في الفكر الصهيوني تتبلور بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897، حين صرّح تيودور هرتزل في أعقاب المؤتمر قائلاً: “إننا وضعنا في هذا المؤتمر أسس الدولة اليهودية بحدودها الشمالية التي تمتد إلى نهر الليطاني”. وفي العام 1903، حاولت الدوائر الصهيونية الاتصال بالحكومة البريطانية لإرسال البعثات الفنية لإجراء الدراسات حول إمكانية سحب جزء من مياه نهر النيل إلى سيناء، ومن ثم جر هذه المياه إلى النقب لتطويره وبناء المستعمرات اليهودية فيه”[21]
التحالف الإثيوبي-الإسرائيلي، وتأثيره على الأمن القومي المصري
“تكشف الأدبيات السياسية الصهيونية في توجهها العام مع الوطن العربي بشكل خاص عن رؤية تقوم على تقسيم البيئة العربية إلى ثلاثة أبعاد هي؛ النظم السياسية العربية، والمجتمع العربي، والدولة العربية. ولما كانت النظم السياسية العربية هي الأقصر عمراً بين الأبعاد الثلاثة، فإن التركيز في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي على المجتمع العربي والدولة العربية. فقد عرفت المنطقة العربية في فترة ما بعد قيام “إسرائيل” ما مجموعه 54 انقلاباً ومحاولة انقلابية، ناهيك عن التغير في شخص الحاكم نتيجة الموت أو المرض. ولما كان القرار السياسي الاستراتيجي في الأنظمة السياسية العربية أسير إرادة وتوجهات فرد واحد أو نخبة محدودة العدد، فإن من الأفضل ل ”إسرائيل” أن لا تبني استراتيجيتها على أساس توجهات وسياسات “الحاكم الفرد”، حتى لو كان ذا توجهات مواتية للسياسة الإسرائيلية، وإنما الخيار الأنسب هو إبقاء الدولة العربية ضعيفة مما يجعل قدرة الحاكم المعادي للتوجهات الإسرائيلية غير ذات أثر نظراً لضعف دولته.”[22]
إن توجه إسرائيل نحو دول إفريقيا ظل دائماً يشكل جزءاً من الصراع العربي الإسرائيلي، وجزءاً من نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على التفوق العسكري، واكتساب الشرعية والهيمنة والتحكم في المنطقة وتطويق الدول العربية – خاصة مصر- وحرمانها من أي نفوذ داخل القارة الإفريقية. لذلك يحاول الكيان الصهيوني دائماً استغلال الخلافات العربية مع بعض الدول الإفريقية وتعميقها، وتهديد أمن الدول العربية المعتمدة على نهر النيل لمحاولة زيادة نفوذها في الدول المتحكمة في مياه النيل من منابعه، مع التركيز على إقامة مشروعات زراعية تعتمد على سحب المياه من بحيرة فيكتوريا.
وتستثمر إسرائيل في ذلك العداء التاريخي بين إثيوبيا والعرب، وإمكاناتها في التأثير في السياسات الإفريقية، إلى جانب قيامها بتشجيع الحركات الانفصالية في جنوب السودان، كما تسعى إلى خلق تيار مناهض للعرب، خاصة في المناطق المطلة على الساحل الشرقي في إفريقيا، وهكذا تولي إسرائيل أهمية خاصة للقرن الإفريقي لاعتبارات عديدة منها وجود السودان باعتباره دولة إسلامية لها نشاط إسلامي ملموس في الدول الإفريقية.
ولإحكام السيطرة السياسية والاقتصادية الإسرائيلية، تقوم إسرائيل بدعم أنظمة الحكم المتعاونة معها والموالية لها في القارة الإفريقية، وتوسيع دور حركات المعارضة في الدول غير الموالية لها لنشر حالة من عدم الاستقرار السياسي، وتتعامل إسرائيل مع الأشخاص الأفارقة ذوي النفوذ الذين لهم مستقبل سياسي فاعل في بلدانهم.
“يرتكز التحالف الإسرائيلي – الإثيوبي في مدخل البحر الأحمر، ومنابع نهر النيل، في الجانب الإثيوبي منه إلى عوامل عديدة، في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية المنهارة، والهزائم المتلاحقة التي مني بها الجيش الإثيوبي في إقليم التيغراين وفي أريتريا، ووقوع إثيوبيا تحت ضغط حاجتها إلى الأسلحة والكوادر الإسرائيلية لمواجهة هذه الهزائم، وملء فراغ انسحاب القوات السوفياتية من إثيوبيا، في مقابل أن يحقق الكيان الإسرائيلي أهدافه البعيدة المدى، ومحاولة ابتزاز مصر، والضغط عليها لإعاقة أي دور يمكن أن تؤديه على صعيد القضية الفلسطينية وتطوراتها، وكذلك إعاقة أي دور مصري لحل قضية جنوب السودان والذي يعدّ من الأهداف الإثيوبية – الإسرائيلية المشتركة.”[23]
وعند متابعة الدور الإسرائيلي في تأجيج موضوع سد النهضة بين مصر وإثيوبيا خلال الفترة 2011-2020، سنتوقف عند الملاحظات التالية التي تستحق التأمل وفهم دوافعها:
- تؤكد مصادر مختلفة وجود طابق كامل في مبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية يقيم فيه خبراء المياه الإسرائيليون، وهم يقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية، وأكد ذلك وزير الري والمياه المصري السابق محمد نصر علام، وكرره مسؤولون سودانيون من ذوي العلاقة بالمؤسسات الخاصة بالري والمياه. كما أعاد ذكره نائب رئيس الأركان المصري محمد علي بلال في أيار/ مايو 2013 متحدثاً عن وجود أعداد كبيرة من الإسرائيليين يعملون في السد الذي يتم بناؤه بتمويل غربي وأمريكي (البنك الدولي، وإيطاليا، وبنك الاستثمار الأوروبي)، وبنك التنمية الإفريقي، والصين، و”إسرائيل”
- نشاط الشركات الإسرائيلية، لا سيّما تلك التي لها علاقة باحتياجات بناء سدّ النهضة الإثيوبي، حيث تتواجد بشكل فاعل الشركات الإسرائيلية مثل: شركة سوليل بونيه Solel Bonehللإنشاءات في كل من كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، إلى جانب شركة أغروتوبAgrotopللزراعة، وشركة كور CORE للإلكترونيات، وشركة موتورولا الإسرائيلية Motorola Israel للكهرباء والماء، وشركة كارمل Carmel للكيماويات. ورفعت “إسرائيل” من حجم استثماراتها في قطاع الطاقة سنة 2018 بقيمة 500 مليون دولار من خلال شركة جيجاوات جلوبال Gigawatt Global، وهي شركة لها علاقات مع عشر جامعات إثيوبية، وهناك عشر مؤسسات أخرى إسرائيلية تعمل في إثيوبيا، كما أكد النائب المصري أحمد العضوي أن النشاط الإسرائيلي في إفريقيا، وخصوصاً في إثيوبيا، يستهدف التأثير على المصالح المصرية وأبرزها حصة مصر من النيل من خلال الدعم الإسرائيلي لمشروع سد النهضة.
- تدرك “إسرائيل” أهمية إثيوبيا لتطل منها على المحيط الهندي والبحر الأحمر الذي تمر منه 20% من تجارة “إسرائيل” الخارجية، ناهيك عن الأطلال على منابع النيل، وتتعزز كل هذه الجوانب بالتعاون في التصنيع والتدريب العسكري. وتعد هذه العلاقات جزءاً من نشاط إسرائيلي متسارع في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، ففي زيارة نتنياهو سنة 2016 التي أشرنا لها، رافقه فيها ممثلون عن نحو خمسين شركة إسرائيلية، وأدت إلى توقيع اتفاقيات مع إثيوبيا (الزراعة، والسياحة، والاستثمار)، ومع كينيا (الصحة، والري، والزراعة، والهجرة).
- التحريض الإعلامي والسياسي على مصر؛ فقد أشارت الصحف الإسرائيلية إلى أن السياسات المائية المصرية أضرت بالمصالح الإثيوبية، فقد ذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل The Times of Israel في أحد مقالاتها إلى أن “عواقب هذه السياسات المصرية قد أضرت بشدة بإثيوبيا على مدى عقود، وإن إثيوبيا، الغنية بالمياه، مكبلة باتفاقيات ملزمة قانوناً بعدم استخدام مواردها المائية لتوفير الشراب لسكانها البالغ عددهم 90 مليون نسمة، أكبر من سكان مصر، وهو ما جعلها تعاني فترات طويلة من الجفاف والمجاعة.”[24]
“ومن أهم المؤشرات السلبية لهذا التعاون على الوطن العربي أنه يشكّل في تطوره تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري عبر سيطرة إثيوبيا على 85% من مياه نهر النيل المتدفقة إلى مصر، وإن كانت قدرة إثيوبيا على التحكم في تدفق كميات المياه المنحدرة من الهضبة الإثيوبية شبة منعدمة، بسبب نقص التمويل والخبرة الفنية، ونظراً إلى طبيعة انحدار الهضبة نفسها، إلا أنها تظل مصدر التهديد الرئيسي لحصة مصر من المياه، فإذا توفر طرف قادر وراغب في مساعدة إثيوبيا – كالكيان الإسرائيلي- على القيام ببعض المشروعات التي تؤثر في هذه الحصة ؛ فإنّ ذلك سيشكل تهديداً واضحاً للأمن القومي المصري في المستقبل، وزيادة في الضغط علي مصر وإمكاناتها إقليمياً ودولياً من هاتين الدولتين”[25]
التنسيق الإسرائيلي الإثيوبي حول مياه نهر النيل
استغلت إسرائيل تقاربها مع إثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي،(Haile Selassie ) وقامت بتوظيف هذه العلاقة من أجل تهديد مصر من زاوية المياه، لأن 85% من احتياجات مصر المائية تنبع من إثيوبيا، حيث بلغت حصة مصر من مياه النيل 55.5 مليار م3 ارتفعت إلى 70 مليار م3 في العام 2000، ما شكل عجزاً مائياً بمقدار 14.5 مليار م3 . أما السودان فحصتها 18.5 مليار م3، وتهدف السودان إلى زيادة مساحة الرقعة الزراعية من 4.5 مليون فدان إلى تسعة مليون فدان، وهذا يحتاج إلى 14.8 مليار متر مكعب، وبذلك يكون العجز المائي لكل من مصر والسودان 38 مليار م3 من المياه، وهذه الكمية لا يمكن تدبيرها إلا بعد الانتهاء من مشروعات أعالي النيل التي تتولاها مصر والسودان معاً.”[26]
لذا، لن يهدأ بال لأعداء المنطقة حتى يستغلوا الموارد المائية، والخلافات بين الدول المنتفعة من مياه النيل. ومن جانب أخر نجد أن معالم الرؤية الإسرائيلية الجديدة للسلام في المنطقة تتضح من خلال طرحها نماذج للتكامل الإقليمي بين دول المنطقة في صيغ مشابهة للسوق المشتركة، وأحد مجالات ذلك التكامل هو مجال الزراعة، وتصدير تكنولوجيا الري لمصر، واستخدام نظام فعّال للمياه بهدف دعم التنمية الزراعية في مصر”[27].
“وترتبط هذه الرؤية الإسرائيلية، بالرؤية الأميركية التي تربط بين ضرورة استغلال الثروات المائية في المنطقة، وإعادة توزيعها، تماشياً مع عمليات التسوية السياسية في المنطقة، والأخذ في الحسبان، مشاكل نقص المياه في الكيان الإسرائيلي، وبالتالي فإنّ قضية المياه ستدخل في إطار قضايا التسوية، وإعادة صياغة بناء الوحدات المكوّنة للنظام الإقليمي في المنطقة. لذلك تطرح الصفوة الإسرائيلية (التكنوقراط) في إطار تطبيع العلاقات مع مصر، وتوزيع الموارد المائية في المنطقة نموذجين للتكامل المائي هما:
أ- نموذج المهندس “كلي تاحال”: الذي يقوم علي أساس أن مشاكل الكيان الإسرائيلي المائية يمكن حلها عن طريق استخدام 1% من مياه نهر النيل، وأن هذا المشروع يمكن أن يؤدي إلي حل بعض مشاكل المياه المصرية والعربية شمال سيناء، وإمداد قطاع غزة والكيان الإسرائيلي والضفة الغربية بالمياه.
ب- نموذج “يؤر” أو النيل الأزرق – الأبيض : الذي نادى به شاؤول أرلوروف نائب مدير هيئة مياه الكيان الإسرائيلي سابقاً، وهو مبني على حفر ثلاثة أنفاق تحت قناة السويس لدفع مياه نهر النيل إلى سيناء ثم إلي صحراء النقب”[28].
ما هو دور “إسرائيل” في الأزمة؟
على الرغم من أنّ الاهتمام الإسرائيلي بمصادر المياه ينصرف مباشرة إلى المياه المتدفقة إليها وإلى جوارها من الضفة الغربية وغزة ومرتفعات هضبة الجولان السورية والمياه الأردنية واللبنانية عبر نهري الأردن واليرموك؛ إلا أن إستراتيجية إسرائيل ترمي إلى الحصول على مصادر أبعد وأكثر غزارة (مياه النيل). ونظراً إلى أنها لم تنجح خلال قرن كامل في تحقيق هدفها أو حلمها في محاصصة مصر في مياه النيل، فقد بدأت تخطط لإستراتيجية أخرى للضغط على مصر من خلال إتباع إستراتيجية التطويق” Containment لمحاصرة دولتي المصب وبالخصوص مصر” “ويكمن هدف إسرائيل الثابت من وجودها في هذه المنطقة في رغبتها الحصول على مياه النيل، والضغط على صانع القرار المصري نظراً إلى حساسية (ورقة المياه) وخطورتها في الإستراتيجية المصرية، حيث تؤدي إسرائيل دوراً غير مباشر في صراع المياه بين دول حوض النيل، استفادة من نفوذها الكبير في دول (إثيوبيا – كينيا – رواندا).
كما ترى إسرائيل أن المياه المصرية التي تهدر في البحر المتوسط في الشتاء (خلال شهري ديسمبر ويناير ) من كل عام بسبب الطلب على المياه لأغراض الكهرباء والملاحة، ينبغي الاستفادة منها خلال المشروع المقترح لنقل المياه الى إسرائيل من خلال (ترعة السلام ) إلى صحراء النقب، وتسعى إسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف من خلال الضغط على مصر بالتعاون مع إثيوبيا”[29]
“وتؤدي إسرائيل من خلال علاقتها مع إثيوبيا والدول الأفريقية في حوض النيل دوراً تحريضياً ضد مصر والسودان، بحجة أنهما تستهلكان كميات كبيرة من المياه من دون الحاجة إليها على حساب الدول الأخرى. وفي ضوء هذا التحريض سيطرت الشركات الأميركية والإسرائيلية على معظم المشاريع المائية في المنطقة، وتولت الأبحاث العلمية الخاصة بموارد المياه. وأسفرت العلاقات الإثيوبية-الإسرائيلية عن تهجير أعداد كبيرة من يهود الفلاشا، كما قامت إسرائيل بإنشاء ثلاثة سدود مائية كجزء من برنامج أمثل يستهدف بناء 26 سداً على النيل الأزرق لري 400 ألف هكتار، وإنتاج 38 مليار كيلو وات ساعة من الكهرباء، وهذه المشاريع ستحرم مصر من خمس مليارات متر مكعب من المياه. كما قامت إسرائيل ببناء سد على منشأ أحد فروع النيل الأزرق الذي يمد النيل بحوالي 75% من المياه لحجز نصف مليار م3 من المياه مقابل قيام إثيوبيا بتسهيلات لإسرائيل في جزيرة “دهلك وفاتيما” لإقامة قواعد عسكرية فيها. وتحولت إسرائيل بعدها إلى أرتيريا لقربها من باب المندب، كما بدأت إثيوبيا ترفع دعاوى إعادة توزيع مياه نهر النيل وفق مبدأ عدالة التوزيع، كما أنها لم تشترك حتى الآن في مجموعة الأندوجو الخاصة بالاستفادة من مياه نهر النيل.”[30]
أسباب تراجع الدور المصري في حوض النيل
أولاً: على المستوى الرئاسي: لم يكن هناك اهتمام كاف بإفريقيا، وكانت الزيارات تقتصر فقط علي استقدام رؤساء الدول الإفريقية إلي مصر، ولم يكن هناك رد لهذه الزيارات من الجانب المصري، كما كان الرئيس السابق قليل المشاركة في القمم الإفريقية، خاصة بعد حادث أديس أبابا. لهذا كانت هذه الدول تأخذ موقفاً مضاداً من مصر. وبناء على ذلك كانت تفسر بالنسبة إليهم بقدر من التعالي، وعدم الاهتمام، ما يؤثر بالتالي تأثيراً سلبياً بالنسبة إلى الوضعية ومكانة مصر بالنسبة لإفريقيا. “[31]
ثانياً: “إنّ ضعف الدولة المصرية في الخارج، في مرحلة ما قبل الثورة، وعدم امتلاكها دبلوماسية نشطة ومقنعة خلق فجوة بين مصر وإثيوبيا الفاعل الرئيس في القضية محل الاهتمام كما أن الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، اتخذ موقف متشدد مع إثيوبيا في الوقت الذي لم تكن مصر تمتلك فيه أية أوراق تمكنها من وضع شروط لتأمين حقوقها في مياه النيل. فالخلاف بين مصر وإثيوبيا حول الاتفاقية الإطارية لتقسيم المياه بين دول الحوض، يمكن رده في جانب منه إلى “الاستعلاء المصري” على الدول الأفريقية، الذي خلق حالة من التوتر الدائم بين دول الحوض ومصر.”[32]
ثالثاً: إن إثيوبيا من وجهة نظر البعض ترى أن مرحلة ما بعد الثورة في مصر، تمثل لحظة تاريخية ومناسبة لها لانشغال مصر بشؤونها الداخلية، وفرصة لتكريس موقفها من أزمة المياه الذي يعد جزءاً من إستراتيجية أكبر تسعى من خلالها إثيوبيا إلى دور فاعل في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، تحت المظلة الأميركية التي تعتبر إثيوبيا نقطة ارتكاز أساسية لسياستها، ومن ثم فهي ترعى القيادة الإثيوبية من خلال توفير الاستثمارات والمساعدات لتحقيق هذا الهدف، خاصة وأن الولايات المتحدة سبق أن استخدمت إثيوبيا أداة لإجهاض حكم المحاكم الإسلامية في الصومال، وما زالت تلعب دورا مهما في الإستراتيجية الأميركية لمحاربة الإرهاب.”[33]
خاتمة
إنّ نهر النيل بالنسبة إلى مصر هو حاجة حيوية واستراتيجية، وأنّ مصر تعتمد على الكمية التي تستخدمها من مياهه بشكل كبير جداً، ولم تتحضّر لمرحلة الانخفاض الكبير في حصتها المائية، ولم تتنوّع خياراتها. لذا، فإنّ أي تدخّل من قبل دول الحوض، من خلال السدود المزمع إقامتها ستؤدي إلى مشكلة كبيرة لمصر وللزراعة فيها ولاقتصادها، وإنّ سد النهضة الإثيوبي، ورغم كل التطمينات التي تحاول إثيوبيا أن تمنحها إلى مصر، لا تخفف من القلق المصري المخيف، رغم عشرات الاتفاقيات المعقودة بين دول الحوض، والتي تم تجاهل معظمها من أديس أبابا، بمساعد الولايات المتحدة وإسرائيل.
لذا يشعر المصريون أنهم مستهدفون في أمنهم القومي، وأنّ تدخل الدول الإقليمية والدولية لمساعدة إثيوبيا في بناء السد، هو استهداف للأمن القومي المصري. ولاحظنا أن إثيوبيا استغلت الفوضى التي حصلت في مصر بعد العام 2011، لتسرّع من وتيرة بناء السد، لأنّ مصر كانت منشغلة في ترتيب أوضاعها السياسية بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، ومن ثم وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم، قبل الانقلاب عليهم، ما دفع بالكيان الإسرائيلي إلى ممارسة الضغوط على مصر من خلال تقديم المساعدة والمشورة للإثيوبيين للتقدّم بقوة نحو إنهاء بناء السد وملئه، ولأنّ الإسرائيليين يعتبرون أنّ إضعاف الدور المصري في المنطقة وتطويعه، يجعل مصر ضعيفة، وغير مؤثّرة في المشهد السياسي الإقليمي، ولأنّ المطامع الإسرائيلية التاريخية في مياه النيل ما زات حاضرة بقوة. وتطرقنا إلى خيارات مصر العسكرية في تقويض سد النهضة، ولاحظنا أن هذا الخيار دونه صعوبات كبيرة.
إنّ وضع المصريين لا يحسدون عليه، ولم يبقَ أمامهم سوى إعادة الاتفاق مع إثيوبيا على معالجة واقعية لتقاسم مياه النيل، بالاتفاق مع السودان، وبمساعدة القوى الدولية الكبرى الحليفة لمصر، وهو حل لا يلقى التجاوب من إثيوبيا، بسبب هذه القوى، ولكنها تتجاهل كل المخاوف المصرية المشروعة. وإلا على مصر مراجعة تحالفاتها الدولية، ولا سيما مع الولايات المتحدة الأميركية، وإعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد، ولا سيّما أنّ هاتين الدولتين أثبتتا أنهما تصطفان إلى جانب إثيوبيا في مواجهة مصر في قضية حيوية واستراتيجي للأمن القومي المصري[34].
الهامش
[1] – أشرف محمد كشك, السياسة المائية المصرية تجاه دول حوض النيل ( القاهرة : برنامج الدراسات المصرية الأفريقية, كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, 2006) ص 14 ..
[2] – بشير شريف البرغوث، المطامع الإسرائيلية في مياه فلسطين والدول العربية المجاورة ( عمان : دار الجليل،1986م) ص 86
[3] -بحري دلال، أهمية القانون الدولي للأنهار الدولية في استقرار العلاقات المائية : دراسة حالة نهري دجلة والفرات مجلة المستقبل العربي، العدد 453 شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016، ص 118
[4] – محمد عبد الهادي، سد النهضة: أبعاد الأزمة والمواجهة بين مصر وإثيوبيا. الجزيرة نت.4 نوفمبر 2019
[5] – بولوك ج ودرويش عن حروب المياه.. الصراعات القادمة في الشرق الأوسط، ترجمة: هاشم أحمد محمد، (المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999)، ص 24.
[6] – انتصار معاني علي، “الأبعاد الجيوبوليتيكية لبناء سد النهضة على دولتي المصب (مصر والسودان)”، مجلة كلية التربية للبنات، (المجلد 28 (1)، 2017م)، ص 284
[7] – حسام عربي عبد العظيم، المخطط الأثيوبي وتداعياته على الأمن القومي المصري، مجلة النهضة كلية الاقتصاد و العلوم السياسية – جامعة القاهرة
[8] – عباس محمد شراقي، “تداعيات سد النهضة الإثيوبي على الأمن المائي المصري”، مجلة الزراعة المصرية، (المجلد (40)، المؤتمر الدولي الخامس عشر لعلوم المحاصيل، أكتوبر/تشرين الأول 2018)، ص 5، 6.
[9] – د. فيصل حسن الشيخ، مستقبل العلاقات البینية لدول حوض النیل الشرقي على ضوء الواقع المائي لمرحلة ما بعد قيام سد النهضة الأثیوبي، دراسات إفريقية عدد 56صفحة 25،26،28. 2016.
[10] – محمد عبد الهادي، الجزيرة نت، سد النهضة: أبعاد الأزمة والمواجهة بين مصر وإثيوبيا.4 نوفمبر 2019
[11] – سوسن صبيح حمدان، “تأثير سد النهضة على مستقبل الموارد المائية في مصر والسودان”، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، الجامعة المستنصرية، مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية، بغداد، (ع (51)، 2015)، ص298
[12] – وهي احتمالية ليست بالهينة، في ضوء الحجم الكبير جداً للسد، مع معامل أمان منخفض يبلغ 1.5 ريختر فقط، وارتفاع معدل الفيضانات في منطقة السد، بما يصل لسبعة فيضانات كل عشرين عاماً، فضلاً عن إقامة السد على فالق أرضي خطر في منطقة زلزالية وبركانية نشطة، فقد سجلت البيانات حدوث ما يقرب من 10 آلاف زلزال في موقع السد خلال الفترة 1970-2013، ما يفوق معامل أمانه المنخفض بكثير، وبتواتر مرتفع، تؤيده سابقة الخبرة، كانهيار جزء من سد تيكيزي الذي أُقيم عام 2009، وسد جيبي2 بعد عشرة أيام فقط من افتتاحه رسمياً، ومع أول فيضان يواجهه، بل وتسجل خبرة إثيوبيا مع السدود عموماً انهيار 45 سداً من إجمالي سبعين سداً صغيراً، ولأخذ فكرة عن حجم الغرق والدمار المُحتمل حال حدوث هذه الاحتمالية الكارثية، يكفي أن نعرف ما تشير إليه التقديرات بأن ارتفاع المياه في مدينة القاهرة، ناهيك عن كل المدن على طول الرحلة الطويلة من السد إليها، قد يبلغ 30 متراً، ما يكفي لإغراق مبنى من عشرة أدوار!! لمزيد من التفاصيل، انظر: زكي البحيري، مصر ومشكلة مياه النيل.. أزمة سد النهضة، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2016)، ص 503-510.
[13] – لمزيد من التفاصيل، انظر: شراقي، تداعيات سد النهضة الإثيوبي على الأمن المائي المصري، ص 9.
[14] – عصام عبد الشافي، سد النهضة وقضية المياه والأمن القومي المصري، المعهد المصري للدراسات، 28/4/2020
[15] – عصام عبد الشافي، سد النهضة وقضية المياه والأمن القومي المصري، المعهد المصري للدراسات، 28/4/2020
[16]– فيتالي نعومكين، الماء والسياسة، الشرق الأوسط، الأربعاء – 11 ذو الحجة 1442 هـ – 21 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15576]
[17] – عصام عبد الشافي، سد النهضة وقضية المياه والأمن القومي المصري
[18] – الجزيرة نت خيار الحرب المحدودة ومفاوضات سد النهضة، 28/7/2021
[19] – الجزيرة نت خيار الحرب المحدودة ومفاوضات سد النهضة
[20] – رفعت سيد أحمد، لماذا تموّل السعودية وإسرائيل .. سد النهضة، الميادين .نت 22 كانون الأول 2016
[21] – رفعت سيد احمد، الصراع المائي بين العرب وإسرائيل ( القاهرة : دار الهدى للنشر والتوزيع، الأولى : 1993) ص 18
[22] -وليد عبد الحي، الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سدّ النهضة الإثيوبي، مركز الزيتونة للدراسات،8/6/2020
[23] – وزارة الخارجية – المملكة العربية السعودية، بحوث دبلوماسية ( الرياض : 1992م ).
[24] – وليد عبد الحي، الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سدّ النهضة الإثيوبي، مرجع سابق
[25] – عز الدين شكري، التعاون الإسرائيلي الإثيوبي والأمن القومي المصري، مجلة السياسة الدولية ( القاهرة، العدد 101،يوليو 1990م ) ص 170 ص 176
[26] -مركز المعلومات الوطني الفلسطيني ( وفا) تقرير بعنوان ( المياه في الصراع العربي – الاسرائيلى
[27] – عز الدين شكري، التعاون الإسرائيلي الإثيوبي والأمن القومي المصري، مجلة السياسة الدولية ( القاهرة، العدد 101،يوليو 1990م ) ص 170
[28] – حسين خلف موسى، إثيوبيا بين التواجد المصري والحضور الإسرائيلي في حوض النيل الرؤى و الإشكاليات، المركز الديمقراطي العربى، 20/4/2014
[29] – حمد الحسن عبد الرحمن، العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية، مركز الراصد للبحوث والعلوم.
[30] -حسين خلف موسى، مصدر سابق.
[31] -صبحي كحالة، المشكلة المائية في إسرائيل وانعكاساتها على الصراع العربي الاسرائيلى ( بيروت : مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الأولى : 1980). ص 45
[32] -رفعت سيد احمد، الصراع المائي بين العرب وإسرائيل ( القاهرة : دار الهدى للنشر والتوزيع، الأولى : 1993) ص 19
[33] -المرجع السابق، رفعت السيد أحمد.
[34] -الأعمال المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي المعهد المصري للدراسات، لكنها تعبر عن آراء كاتبيها.
.
رابط المصدر: