سقوط بوريس جونسون.. إقالة أم استقالة؟

مي صلاح

 

بعد أسابيع قليلة من اقتراع سحب الثقة الذي مر بسلام على رئيس الوزراء البريطاني ” بوريس جونسون” إثر فضائح أخلاقية واتهامات مختلفة، يواجه اليوم زعيم حزب المحافظين تحديًا جديدًا، ويكافح من أجل حياته السياسية مرة أخرى، عقب حراك جماعي غير مسبوق في التاريخ السياسي البريطاني أسفر عن استقالة 50 عضوًا من حكومة جونسون من بينهم خمسة وزراء، فيما يتصاعد المزيد من الغضب الذي يطالب برحيل رئيس الوزراء الفوري عن الحكومة، وهو ما استجاب إليه بالفعل، ليشهد العالم اليوم سقوط جونسون المرتقب.

تغير الحال من الدعم إلى قمة “التمرد”

في وقت قياسي، يتحول الدعم الاستثنائي لرئيس الوزراء الذي خلف “تريزا ماي” إلى رفض استثنائي، وتحولت الأصوات المؤيدة إلى استقالات ودعوات للتنحي، ليشهد الحال السياسي في بريطانيا انقلابًا غير مسبوق بعد سلسلة من الأزمات على مدار عامين ونصف.

وكانت أول الضربات الموجهة إلى جونسون من “بارتجيت” الحفلة التي تمت إقامتها في “داونينج ستريت” حيث يعيش ويعمل رؤساء وزراء بريطانيا، خلال ذروة جائحة كورونا التي كانت تتطلب إغلاقًا مشددًا وتباعدًا صارمًا، ما جعل الغضب يشتعل عقب هذه الحادثة، وخرجت سلسلة من التقارير تدين جونسون بشدة أدت إلى إجراء تحقيق داخلي أثبت تورط 83 شخصًا، منتهكين القواعد خلال هذه الحفلات، فضلًا عن إلحاق الضرر بالممتلكات والاشتباك مع بعضهم البعض.

وعلى إثر هذه الفضيحة، وجد جونسون نفسه أمام “تصويت بحجب الثقة” من حزب المحافظين الذي يتزعمه، بذريعة أن سلوكه “مهين” للناخبين، وأنه يسيء لسمعة حزب المحافظين، وشعورهم الكبير بأن جونسون لن يقوده إلى أي فوز قادم في الانتخابات، وعلى غير المتوقع، ينجو جونسون من الاقتراع بتصويت 148 نائبًا فقط ضده من أصل 359، بنسبة 41%، ظنًا منه بأنه نجا، ولكنه اصطدم بالدعم الهش له بعد ذلك في أروقة الحزب الحاكم.

وعن ثاني الضربات التي فتحت النيران على رئيس الوزراء، كانت بإقرار من جونسون نفسه بأنه ارتكب خطًأ بتعيينه ” كريس بينشر” في منصب مساعد المسؤول عن الانضباط البرلماني للنواب المحافظين، عقب فضيحة كبيرة لبينشر تتعلق بسوء السلوك الجنسي والتحرش، لتنهال الاتهامات على جونسون بأنه لا يقدر على إدارة حكومة تلتزم بالمعايير، وأنه كان يعلم بحقيقة بينشر- الذي كانت ضده شكاوى تتعلق بسلوكه المشين وصلت إلى خمس شكاوى منذ عام 2019- ورغم ذلك قام بتعيينه في منصب مهم بالحكومة، مدعيًا أنه “نسي” الاتهامات التي طالت به عندما قرر تعيينه في منصب مساعد المسؤول عن الانضباط البرلماني.

تساقط الأوراق من شجرة الحكومة البريطانية

بسبب هذا الأمر، استقال وزير المالية “ريشي سوناك”، ووزير الصحة” ساجد جاويد” من دون إنذار مسبق، بعد أن كانا أول داعمين له في تصويت الثقة، إلا أنهم صرحوًا بفقدانهم الثقة في قدرة جونسون على الحكم، ما أشار إلى أن الحكومة البريطانية تنهار بسبب الفشل والفساد والفضائح.

وعن وزير المالية، فقد عبر أنه يصعب عليه أن يترك منصبه في ظل معاناة العالم من العواقب الاقتصادية للوباء والحرب في أوكرانيا، ولكنه يتوقع أن يتم تصحيح الوضع من بعده ومن بعد جونسون، وأن تدار الحكومة بشكل صحيح.

كما استقال “براندون لويس” من منصب وزير شؤون أيرلندا الشمالية، محذرًا جونسون من أن رئاسته للوزراء تجاوزت مرحلة “اللا عودة”، تلاه وزير الدولة للأمن والحدود “داميان هيندز”، ووزير العلوم “جروج فريمان”، ووزير المعاشات “جاي أوبرمان”، ووزير التكنولوجيا “كريس فيليب، ووزيرة العدل ” فيكتوريا أتكنز”. ولكن وزير الدفاع البريطاني “بن والاس” أكد التزامه بالحفاظ على أمن البلاد، وأنه لا يستطيع أن يترك منصبه شاغرًا، ولكنه حث زملاءه في الحزب على إجبار رئيس الوزراء على الرحيل عن الحكومة، مستندًا إلى أن الحزب لديه آلية لتغيير القادة، وأن هذه هي الآلية التي ينصح زملاؤه باتباعها.

وبعد سيل الاستقالات التي فتحت الباب أمام استقالة المزيد من وزراء ومسؤولي الدولة، لم ييأس جونسون، وسارع بترميم حكومته معينًا “ناظم الزهاوي” وزيرًا للمالية ليحل محل “سوناك”، وقد كان وزير للتعليم قبل هذا المنصب، وحلت ” ميشيل دونيلان” محله وزيرة للتعليم، بينما عين جونسون مدير مكتبه “ستيف باركلي” وزيرًا للصحة، وأقال “مايكل جوف” وزير شؤون الإسكان، الذي ناشده في وقت سابق بالاستقالة.

والمفارقة في الأمر أن “ناظم الزهاوي” وزير الخزانة البريطاني الجديد طالب جونسون بالاستقالة عقب يوم واحد فقط من توليه منصبه، مؤكدًا أن الأمر لا يمكن أن يستمر كذلك، وأنه سيزداد سوءًا بوجود جونسون، وهو ما أكدته وزيرة الداخلية “بريتي باتيل”، ووزيرة التعليم الجديدة “ميشيل دونيلان”، وهو الأمر الذي يزيد الضغوط بشدة على رئيس الوزراء ويعزز التحدي. ويبدو أن الاستقالات ليست الأزمة الوحيدة التي تهدد بقاء جونسون، وذلك في ظل تأزم موقفه بخسائره في البرلمان ببعض المناطق.

بين العزلة والتمسك بالسلطة أو الاستسلام

بالإضافة إلى الفضائح التي تلاحق رئيس الوزراء وأعضاء من حكومته، لم يتوقف الأمر على الأخطاء الشخصية الجسيمة، فقد كانت هناك أيضًا أسباب أخرى لموجات الغضب المتزايدة، وانتقادات عديدة بسبب أن جونسون لم يبذل جهدًا كافيًا لمعالجة التضخم الذي ارتفع إلى 9.1%، وهي النسبة الأعلى في تاريخ المملكة المتحدة منذ 40 عامًا، حيث يكافح العديد من البريطانيين للتعامل مع ارتفاع أسعار الوقود والغذاء والسلع الأساسية، ومواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والخروج الصعب من الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن اتفاقية أيرلندا الشمالية التي لا تزال معلقة بقواعدها التي تضيق الخناق على بريطانيا يومًا بعد يوم، وسط توقعات بأن يكون الاقتصاد البريطاني الأضعف بين الدول الكبرى عام 2023 باستثناء روسيا.

وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد ” سافانتا كومريس” أن 74% من البريطانيين يرون أن على رئيس الوزراء أن يستقيل فورًا، ولو كان الأمر متعلقا بقضية واحدة لتجازوها البريطانيين، لكن هناك تراكم واستهانة بالقانون، فضلًا عن الكثير من الأكاذيب، وهي أمور خطيرة ولم يفعلها أحد من قبله في السياسة البريطانية.

ولكن في ظل كل هذه المشاحنات، أكد رئيس الحكومة أنه سيستمر دون توقف، وأنه متمسك بمنصبه، وأنه لا توجد آلية سهلة لإخراجه من السلطة، مصرَا على أنه لن يتحمل مسؤولية مغادرة السلطة ومنصبه في ظل الظروف الراهنة التي تعصف ببلاده، وهذا يفتح الباب أمام سيناريو محتمل وهو “الإقالة”، وإعادة طرح تصويت بحجب الثقة ضد رئيس الوزراء مرة أخرى داخل أروقة الحزب الحاكم.

وعلى الرغم من أن جونسون قد نجا بالفعل من الاقتراع الماضي، ضامنًا حصانة تصل إلى عام دون مساءلة أو تصويت جديد، إلا أن هناك احتمالات تتيح تغيير القاعدة الحالية التي تحمي جونسون، ومن المتوقع أن يشهد يوم الاثنين المقبل 11 يوليو عام 2022، انتخابات داخل المكتب التنفيذي الخاصة بـ “لجنة 1922” التي تملك صلاحية البت في هذه المسألة، وقد تتمكن من عزله داخل حزب المحافظين.

وعن هذه اللجنة، فهي لجنة مكونة من 18 عضوًا من أعضاء البرلمان من المحافظين، يجتمعون أسبوعيًا لمناقشة مسائل الحزب، وكانت تُعرف سابقا باسم لجنة الأعضاء المحافظين الخاصين، وتسمح للأعضاء الأقل رتبة في حزب المحافظين بالتعبير عن مخاوفهم، وتقديم تقرير عن عمل الدوائر الانتخابية وتنسيق جداول الأعمال التشريعية، وتعقد اللجنة اجتماعًا شهريًا مع رئيس الحزب وتقدم تحديثًا للآراء داخل الحزب دون خوف من الانتقام من وزراء الحكومة، ما يعني أن صلاحيات هذه اللجنة – عندما يطلب منها ذلك- يمكن أن تكون ضخمة.

وإذا غير رؤساء الأحزاب قاعدة مرور عام واحد على أي اقتراع بالثقة، سيستغل نواب حزب المحافظين المتمردين الموقف بالطبع من خلال إجرائهم اقتراعًا جديدًا بسحب الثقة، وإذا خسر جونسون التصويت، فسيتعين عليه الاستقالة أو الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، فالترشيحات حينها لزعامة الحزب ستكون مفتوحة، وسيقوم النواب بتقليص عدد المرشحين إلى اثنين قبل عطلة الصيف.

سيناريوهات كانت متوقعة

إقالة جونسون ستكون بمثابة فرصة كبير للأحزاب المعارضة، التي تصاعدت منها دعوات بالفعل بإجراء انتخابات مبكرة، وأن يحذو الوزراء الآخرون في الحكومة حذو من استقالوا، وكان على رأس هذه الأصوات ما صرح به زعيم حزب العمال “سير كير” الذي رحب بإجراء الانتخابات المبكرة حيث تحتاج البلاد تغييرًا جذريًا للحكومة، وسط تأكيدات منه أن حكومة المحافظين على وشك الانهيار والانتهاء، وهو الأمر الذي صدق عليه زعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين سير “إد ديفي”.

وقد يختصر جونسون –الذي اعتمد على النجاح الانتخابي للحفاظ على منصبه- كل هذه المسافات، ويستقيل بنفسه في مواجهة الضغوط المتزايدة عليه من الحكومة، وهو نفس الكأس الذي ذاقته “مارجريت تاتشر”، وأذاقه جونسون لـ “تيريزا ماي” زعيمة حزبه الذي أمضى شهورًا في زعزعة استقرارها قبل أن تستقيل، ويتجه نحو خروج يحفظ له كرامته بأن يحدد بنفسه جدولًا زمنيًا بدلًا من مواجهة تصويت على حجب الثقة، وقد يقرر جونسون الانتقام من معارضيه، والذهاب إلى قصر باكنغهام وطلب حل البرلمان، وإجراء انتخابات عامة، وتبقى كل هذه تكهنات  كانت موجودة حول الموقف الحالي قبل اجتماع صباح أمس.

استقالة جونسون بعد دراما ومعارك سياسية.. ما الخطوة التالية؟

بعد أيام من الشد والجذب، وفي صباح أمس الموافق 7 من يوليو، حسم جونسون الأمر واستقال رئيس الوزراء البريطاني من منصبه كرئيس تنفيذي لحزب المحافظين، مستجيبًا لدعوات أفراد الحكومة وأعضاء مجلس العموم من حزب المحافظين، معينًا حكومة جديدة قائمة بالأعمال، وسط تأكيدات منه بأنه سيستمر في عمله لحين انتخاب زعيم جديد، بعد أن بات متيقنًا أنه لم يعد يتمتع بالأغلبية البرلمانية التي تسمح له بالاستمرار في قيادة الحزب الذي يحكم بريطانيا منذ 12 عامًا، وعلى الرغم من ذلك، لم يقدم جونسون أي اعتذار عن الأحداث التي أدت إلى استقالته، إذ يرى أن رحيله القسري كان “غريب الأطوار”.

ولم ينس جونسون أن يتفاخر بإنجازاته التي يرى أن أعظمها هو الخروج من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مكافحة فيروس كورونا والإطلاق الأسرع للقاح، وتقديم المساعدات لبقية دول العالم، وصولاُ إلى دعم أوكرانيا في وجه الهجوم الذي شنته عليها روسيا، مشددًا على أنه حارب كثيرًا من أجل البقاء في منصبه، لأنه يشعر أن ذلك هو واجبه وعمله، وأنه يشعر بالأسف لأنه لن يستطيع أن يرى الإنجازات التي رسمها هو وحكومته بنفسه.

وقوبلت استقالة جونسون بترحيب كبير، من المحافظين والمعارضين، وسط تأكيدات بأن هذا هو القرار الصحيح والحتمي، والبعض الآخر عبر عن إحباطهم وخيبة أملهم من انسحابه، بينما ترى روسيا في سقوطه أمرًا عظيمًا، فقد اصطف سياسيون روس للاحتفال بسقوطه اللذين يرون أنه عادل بسبب موقفه من تسليح أوكرانيا ضد بلادهم.

وفيما يتعلق بعملية البحث عن خليفة جونسون، فهذه العملية ستستغرق أسابيعًا أو أشهرًا، إذ سيتعين أن يترشح اثنان من أعضاء البرلمان عن حزب المحافظين، بالإضافة إلى أي شخص يتقدم للمنصب، وسيجري النواب المحافظون بعد ذلك عدة جولات للتصويت من أجل خفض عدد المرشحين، حتى يتم استبعاد كل من يحصل على أقل الأصوات، وتتكرر هذه العملية إلى أن يصل عدد المتنافسين إلى اثنين.

ومن المقرر أن يبدأ البرلمان التصويت قبل العطلة الصيفية، التي تستمر 6 أسابيع في 21 يوليو، وذلك من أجل تسريع العملية الانتخابية، وبعد ذلك، سيجري تصويت بالبريد على المرشحين الاثنين الأخيرين، ويعين الفائز رئيسًا للوزراء.

ووفقًا للإحصائيات التي نشرتها “YouGov”، فقد جاء وزير الدفاع “بن والاس” كأول شخص محتمل أن يخلف جونسون في رئاسة الوزراء، فهو مفضل بشكل كبير لدى أعضاء حزب المحافظين ليحل محل جونسون، يليه وزيرة التجارة الصغيرة “بيني موردونت” ووزير المالية السابق “ريشي سوناك”.

وعن الصعيد الاقتصادي، يبدو أن استقالة جونسون ستؤدي إلى تعميق حالة عدم اليقين التي تحيط بالاقتصاد البريطاني، الذي يعاني بالفعل من ضغوط وتضخم، ومن شأن سقوط جونسون أن يترك خامس أكبر اقتصاد في العالم في خطر مزيد من الانجراف في وقت يقترب فيه الجنيه الإسترليني من أدنى مستوياته في عامين مقابل الدولار ويواجه بنك إنجلترا معضلة بشأن رفع أسعار الفائدة دون الإضرار بالنشاط الاقتصادي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/71330/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M