سلاح الطاقة وإدارة العلاقات الدولية

د. أحمد سيد أحمد

 

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن أهمية الطاقة فى إدارة تفاعلات العلاقات الدولية ونمط التحالفات الدولية وتغير توجهات السياسة الخارجية لكثير من الدول واتسام مواقفها بالبرجماتية فى التعامل مع الأعداء والخصوم, وأن سلاح الطاقة أصبح أكثر فاعلية من الحروب العسكرية المباشرة.

فبعد اندلاع العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا فى فبراير الماضى لجأ الغرب, أمريكا وأوروبا, إلى سلاح العقوبات الاقتصادية، خاصة فى مجال الطاقة من خلال تقليل استيراد النفط الروسى بمعدلات كبيرة لمعاقبة روسيا ودفعها للانسحاب من أوكرانيا، ووقف عمليتها العسكرية ورفع التكلفة الاقتصادية عليها لأن وقف استيراد نفطها سيؤدى إلى تراجع مواردها المالية وهو ما يؤثر سلبا على اقتصادها وعلى مواطنيها، وقد يدفعهم إلى التذمر والغضب بسبب التداعيات السلبية لهذه العملية العسكرية. لكن روسيا فى المقابل وظفت سلاح الطاقة, خاصة الغاز, فى معركتها مع أوروبا, والتى تعتمد معظم دولها خاصة ألمانيا على أكثر من ثلث استهلاكها من الغاز من روسيا, وأدى هذا إلى ارتفاع أسعار الطاقة فى دول أوروبا بمعدلات مرتفعة خاصة مع وقف تصدير الغاز الروسى لأوروبا عبر خط نورد ستريم1, بسبب ما تعتبره روسيا إصلاح الأعطال الفنية, بينما يتهمها الغرب بتسيس الغاز واستخدام الغاز كسلاح ضد أوروبا.

استخدام سلاح الطاقة, من الغاز والنفط, فى الحرب الروسية الأوكرانية, هو جزء من الصراع الإستراتيجى بين الغرب وروسيا ومساعى أمريكا لتحجيم الصعود الروسى فى النظام الدولى, وذلك فى إطار الحروب غير العسكرية المباشرة بين الجانبين. وقد نجحت روسيا فى ترويض الغرب بسلاح الطاقة, مما دفعه للبحث عن بدائل أخرى لمعاقبة روسيا وحرمانها من موارد صادراتها النفطية, وتعويض النقص فى الغاز خاصة مع اقتراب فصل الشتاء.

لذلك دفعت حرب الطاقة بين روسيا والغرب إلى إعادة هيكلة التحالفات الدولية لكل من الطرفين. بالنسبة لروسيا اتجهت إلى البحث عن مصادر بديلة لتصدير منتجاتها من النفط والغاز بعد تبنى أوروبا إستراتيجية التقليل التدريجى فى الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية, بالتوجه نحو توثيق علاقاتها مع الصين, التى تعد أكبر اقتصاد عالمى, وكذلك تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع إيران والهند وكوريا الشمالية ودول وسط وجنوب آسيا, وهذا التقارب ليس فقط لاعتبارات اقتصادية لتصريف إنتاجها الكبير من الطاقة، وإنما أيضا لاعتبارات إستراتيجية تتعلق ببناء شراكات وتحالفات مع خصوم أمريكا, لمواجهة النفوذ الأمريكى وتكريس النظام الدولى متعدد الأقطاب.

فى المقابل تبنت أمريكا وأوروبا سياسة برجماتية واتجهت للتقارب مع دول, تعد من الخصوم, مثل إيران وفنزويلا, لتحقيق أهداف اقتصادية بإحلال النفط والغاز من هذه الدول محل النفط والغاز الروسيين, وذلك للسيطرة على الارتفاع الكبير فى أسعار الطاقة والذى سيكون له تداعيات اجتماعية وسياسية سلبية كبيرة، خاصة مع تزايد معدلات التضخم وتذمر المواطنين فى هذه الدول من سياسة حكوماتهم، واعتبارها المسئول عن تفاقم هذه الأوضاع بسبب مواقفها فى إشعال حرب أوكرانيا واستفزاز روسيا والصين عبر حلف الناتو مما يدفع ثمنه هؤلاء المواطنون, وهو ما يؤثر سلبا على مستقبل الحكومات الأوروبية فى الانتخابات المقبلة، خاصة بعد أن انعكست تداعيات حرب أوكرانيا فى رحيل رئيسى وزراء بريطانيا وإيطاليا, كما ان الرئيس بايدن يواجه تحديات كبيرة وتزايد احتمالات فقدان الحزب الديمقراطى الأغلبية فى الكونجرس بسبب ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم نتيجة للسياسة الأمريكية فى حرب أوكرانيا.

وبالتالى سعت أمريكا والدول الأوروبية لمواجهة هذه التحديات عبر الانفتاح على الخصوم, وهو ما يفسر التسارع الأمريكى والأوروبى وراء إبرام الاتفاق النووى الإيرانى, وتقديم تنازلات كبيرة لإيران من أجل توقيع الاتفاق, وهو ما يكرر أخطاء إدارة أوباما فى توقيع اتفاق عام 2015 والتغاضى عن أنشطة إيران الصاروخية وأنشطتها المزعزعة للاستقرار فى المنطقة, وعدم وجود ضمانات حقيقية لتحجيم برنامجها النووى ومنع امتلاكها للسلاح النووى مستقبلا, وكل ذلك من أجل تحقيق أمن الطاقة فى أوروبا وأمريكا.

ذات الحال فى توجهات السياسة الخارجية للدول الأوروبية البارزة مثل فرنسا التى قام رئيسها ماكرون بزيارة الجزائر أخيرا لإصلاح العلاقة معها، وإنهاء حالة الفتور التى سادت خلال الشهور الماضية بسبب تصريحات ماكرون حول قضيتى الأمة الجزائرية وأرشيف حرب تحرير الجزائر ضد فرنسا, وذلك من أجل الحصول على الغاز الجزائرى لتعويض النقص فى الغاز الروسى. كما أنه بعد اندلاع الحرب الروسية ( الأوكرانية اتجهت إدارة بايدن للانفتاح على فنزويلا وتغيير سياستها المتشددة تجاه الرئيس مادورو من أجل زيادة صادرات النفط والغاز الفنزويلية إلى أمريكا. كذلك فإن أمن الطاقة هو ما دفع الرئيس بايدن إلى تغيير السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والإتيان إلى السعودية وعقد القمة مع دول الخليج ومصر والعراق والأردن فى يوليو الماضى.

استخدام سلاح الطاقة غير كثيرا من نمط إدارة العلاقات الدولية، ويعكس القواعد التى تحكم النظام الدولى الجديد، وهى أن الاقتصاد هو الذى يقود السياسة وليست الأيديولوجيا, كما كان فى الحرب الباردة السابقة, وأن المصالح الاقتصادية هى التى تتحكم فى طبيعة وتحولات الكثير من سياسات الدول الكبرى, وهو ما يجب أن توظفه جيدا الدول الصغرى والنامية لتعظيم مكاسبها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية.

نقلا عن جريدة الأهرام بتاريخ 5 سبتمبر 2022

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20793/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M