اتخذ مسار التصعيد الإسرائيلي تجاه الجبهة اللبنانية منعطفات جديدة خلال الأيام الماضية، وخصوصًا خلال الـ 24 ساعة الماضية، وذلك على وقع انتفاء كل قواعد الاشتباك بالنسبة لإسرائيل، والشروع في عمليات عسكرية هي الأوسع نطاقًا والأكثر تدميرًا تجاه الأراضي اللبنانية منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، وهي العمليات التي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي اسم “سهام الشمال”، مما عكس أن الاحتلال الإسرائيلي يعمل حاليًا وفق استراتيجية كبرى غير معلنة بدأت في غزة، ثم نقلت مركز الحرب نحو الشمال، وربما تمتد لتشمل لاحقًا إيران، وفي ظل هذه التطورات المتسارعة تصاعدت التساؤلات المرتبطة بالمدى والطبيعة المحتملة للعملية الإسرائيلية تجاه لبنان، وما إن كان لبنان سيتحول إلى غزة ثانية، في إشارة إلى إعادة سيناريو الأرض المحروقة في لبنان، وطبيعة وأنماط تعاطي حزب الله اللبناني مع هذا التصعيد الكبير، وكذا موقف الجبهة الداخلية اللبنانية من هذا المسار، جنبًا إلى جنب مع موقف الأطراف الخارجية الفاعلة والمنخرطة في الملف اللبناني، كلها أسئلة أصبحت تفرضها الضرورة، وتسهم في بناء رؤية تجاه مسارات الأحداث المرتبطة بالعدوان الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية.
طبيعة الأهداف الإسرائيلية
اعتمدت إسرائيل خلال الأسبوع المنصرم على ما يمكن تسميته بـ “استراتيجية الصدمة”، بمعنى توسيع دائرة العدوان والعمليات العسكرية بشكل يتجاوز حدود تقدير حزب الله اللبناني لذلك، وبشكل يُحدث حالة من الإرباك الداخلي للحزب، وقد تجسد ذلك في مجموعة من المؤشرات الرئيسية، ابتداءً من تفجيرات البيجر يومي 17 و18 سبتمبر، مروراً بالاستهداف الذي حدث لأحد المباني بالضاحية الجنوبية لبيروت في 20 سبتمبر، خلال اجتماع لمجموعة من القادة العسكريين للحزب، مما أدى إلى مقتل قائد فرقة الرضوان إبراهيم عقيل، وأحمد وهبي القائد السابق للفرقة، وصولاً إلى هجوم 23 سبتمبر الواسع على المنطقة الجنوبية اللبنانية والبقاع الغربي، وكذا استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت في عملية قالت إسرائيل إنها استهدفت علي الكركي القائد العسكري لقطاع الجنوب في حزب الله، وأدت هذه العملية إلى مقتل نحو 558 مواطن لبناني بالإضافة لإصابة نحو 1835 ()، واستمراراً لهذه السلسلة من العمليات، شنت إسرائيل صباح اليوم 24 سبتمبر 2024، ضربة قالت تقارير عبرية نقلاً عن الجيش الإسرائيلي إنها “كانت محددة الهدف في الضاحية الجنوبية لبيروت، واستهدفت طابقين من مبنى في منطقة الغبيري” ()، وبالوقوف عند مجمل التطورات التي تشهدها الجبهة اللبنانية، وهذا التصعيد النوعي المتلاحق، يبدو أن إسرائيل تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية:
1- إحداث حالة من الارتباك الداخلي لحزب الله: تسعى إسرائيل من خلال “استراتيجية الصدمة” التي تبنتها خلال الأيام الماضية إلى تجاوز كافة التقديرات التي رسمها حزب الله لمسار التصعيد الثنائي، خصوصًا في ضوء وقوف الحزب عند مقاربة “قواعد الاشتباك”، وهي المقاربة التي تجاوزتها إسرائيل عمليًا وانتهت بالنسبة لها، وحاولت إسرائيل توظيف هذه المعطيات من أجل الإطاحة بالقدر الأكبر من قادة الصف الأول والثالث في الحزب، بما يتبع فراغًا قياديًا، وربما حالة من العزلة بالنسبة للأمين العام للحزب حسن نصر الله، جنبًا إلى جنب مع تدمير البنى التحتية الخاصة بالحزب في مناطق الجنوب خصوصًا، لا سيما منصات إطلاق الصواريخ، وتسهم هذه الحالة التي تسعى إسرائيل إلى إحداثها في إرباك حسابات حزب الله اللبناني، وخلق فراغ قيادي، وربما إحداث حالة من الصدام بين قيادة الصف الأول في الحزب وقواعده.
2- السعي لتغيير الواقع الأمني للحدود الشمالية: بتحليل الخطاب الإعلامي الرسمي للمسئولين في الاحتلال الإسرائيلي، سوف نجد أن هناك مجموعة من الأهداف الاستراتيجية والأمنية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من جراء التصعيد النوعي الذي حدث؛ وأولها: استنزاف قدرات حزب الله العسكرية، والقضاء على قدراتها القتالية، بما يحيد تهديده نسبيًا. وثانيها: الدفع باتجاه تراجع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني. وثالثها: بناء منطقة عازلة جديدة على الحدود مع لبنان. ورابعها: الدفع باتجاه عودة المواطنين الإسرائيليين تدريجيًا إلى المناطق الشمالية للأراضي المحتلة. ويبدو أن إسرائيل وبعد فشل الجهود الدبلوماسية الرامية إلى الوصول لتفاهمات بخصوص هذه الملفات، وكذا فشل استحضار سيناريو غزة والتلويح به في مواجهة اللبنانيين (الأمر الذي تكرر على لسان المسئولين في تل أبيب)، بدأت في الاعتماد على الحل العسكري، لكن تل أبيب تتجاهل في المقابل أن هذا التصعيد العسكري يدفع باتجاه المزيد من تقويض الجبهة الداخلية، خصوصًا مع الرد المحتمل من حزب الله اللبناني، والذي سيدفع على أقل تقدير باتجاه تأجيل عودة سكان المناطق الشمالية، جنبًا إلى جنب مع ما سيسهم به ذلك على مستوى تأجيج الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
3- التمهيد لعملية عسكرية تجاه لبنان: أحد الافتراضات المطروحة في إطار فهم طبيعة الأهداف الإسرائيلية من جراء هذا التصعيد تتمثل في أن عمليات القصف الضخمة التي تتم خصوصًا في مناطق الجنوب اللبناني تستهدف تهيئة منطقة الجنوب لعملية برية إسرائيلية (ليس بالضرورة عملية اجتياح شامل)، وما يعزز من هذه الفرضية مجموعة من الاعتبارات الرئيسية؛ أولها: أن تجربة الحرب في غزة تعزز من هذا الافتراض، حيث بدأت إسرائيل منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى 27 أكتوبر (تاريخ بدء العملية البرية في غزة) في تبني عمليات قصف واسع على كافة مناطق القطاع وخصوصًا الشمال من أجل التمهيد للعملية البرية الواسعة التي تمت بعد ذلك. وثانيها: أن استمرار عمليات إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة من حزب الله -بما يعني عمليًا عدم تحقيق إسرائيل لرغبتها في تقييد القدرات القتالية للحزب وتحييدها، يقتضي تنفيذ مناورة برية غير موسعة على أقل تقدير. وثالثها: أن إسرائيل ومن خلال مجموعة من التحركات التي حدثت خلال الأيام الماضية غيرت نظرتها لجبهة الشمال من جبهة ثانوية إلى جبهة رئيسية؛ مما تجسد في إعلان المستوى الأمني الإسرائيلي عن الدخول في مرحلة جديدة فيما يتعلق بجبهة الشمال، جنبًا إلى جنب مع الإعلان عن نقل الثقل العسكري من الجنوب إلى الشمال، وكذا الإعلان عن نقل اللواء 98 في الجيش الإسرائيلي إلى الحدود الشمالية للأراضي المحتلة.
4- تدحرج كرة الثلج نحو الشمال: تزامنت حالة التصعيد العسكري الراهنة على الجبهة الشمالية، مع مجموعة من المتغيرات المرتبطة بالجبهة الجنوبية أو جبهة قطاع غزة، خصوصًا ما يتصل بتراجع وتيرة العمليات القتالية داخل القطاع، ومن هنا بدأت إسرائيل في نقل كرة الثلج الخاصة بالحرب إلى فضاءات أخرى، وعلى رأسها جبهة الشمال، فضلًا عن متغير مهم تمثل في إشارة تقارير عبرية إلى تنفيذ فرقة إسرائيلية خاصة لعملية نوعية برية في سوريا ضد مجموعة تابعة لحزب الله اللبناني، في أواخر أغسطس الماضي، وتعكس هذه المعطيات مجموعة من الدلالات المهمة؛ أولها أن إسرائيل انتقلت تدريجيًا من التركيز الجبهة الشمالية، في ضوء الخفوت الراهن الذي تشهده جبهة غزة. وثانيها: أن التحركات الإسرائيلية تقوم على رؤية مفادها ضرورة تحييد التهديدات القادمة من الحدود وفرض أمر واقع جديد بهذه المناطق. وثالثها: أن اختبار إسرائيل لرد الفعل الإيراني ورد فعل حزب الله على بعض العمليات النوعية التي نفذتها ضد الطرفين حفزها إلى كسر كل قواعد الاشتباك، خصوصًا وأن ما بدا من الحزب حتى اللحظة عكس أنه لم يكن مستعدًا لهذا السيناريو. ورابعها: أن إسرائيل تسعى إلى تطويق ما يعرف بـ “الهلال الشيعي” بالمنطقة، من خلال سلسلة من العمليات النوعية التي تُضعف وتستنزف حلقات وفواعل رئيسيين في هذا الهلال، بما يضعف من قدرات إيران بشكل كبير، وقد تجسد ذلك في التصعيد بلبنان، والعمليات في سوريا، والعمليات ضد الحوثيين وخصوصًا في ميناء الحديدة اليمني.
5- حسابات الجبهة الداخلية الإسرائيلية: لا يمكن فصل هذا التصعيد النوعي من قبل إسرائيل تجاه لبنان، عن الحسابات الداخلية الخاصة بالائتلاف الحاكم في إسرائيل، والحسابات الشخصية لبنيامين نتنياهو، وليس من قبيل المبالغة القول إن “نتنياهو” يسعى إلى توظيف هذه الحالة التصعيدية كغطاء لمواجهة الضغوط الداخلية، وذلك على أكثر من مستوى؛ أولها: أن هناك قناعة لدى “نتنياهو” أن إطالة عمر الحرب وتوسيع رقعتها، هي ضمانة للحيلولة دون إجراء انتخابات داخلية مبكرة في إسرائيل تصاعدت المطالب بخصوصها في الآونة الأخيرة، وتنطلق هذه القناعة من قاعدة مستقرة في إسرائيل منذ عقود بأنه “لا انتخابات في ظل الحرب”. وثانيها: أن هناك ما يشبه التوافق بين المستويين الأمني والسياسي في إسرائيل على مسألة التصعيد تجاه حزب الله اللبناني، في مقابل خلافات بخصوص جبهة غزة، وثالثها: أن هناك تأييدًا ملحوظًا من قبل المعارضة الإسرائيلية لهذا التصعيد ضد حزب الله، ما عبرت عنه تصريحات متفرقة ليائير لابيد وبيني غانتس.
وفي مقابل هذه الحسابات الإسرائيلية، جنح حزب الله اللبناني إلى تبني مقاربة تحاول التماهي مع هذه التطورات، ركزت على عدد من الأبعاد الرئيسية؛ أولها: استمرار عملياته التقليدية ضد بعض المناطق في الداخل المحتل، بما يبعث رسائل بعدم قدرة العمليات العسكرية على كسر شوكة الحزب، ووقف عملياته “الإسنادية” تجاه غزة. وثانيها: توسيع قواعد الاشتباك، وقد تجسد ذلك في الرد الأولي للحزب على عملية “البيجر” واستهداف الضاحية الجنوبية لبيروت؛ حيث قام الحزب بتوسيع نطاق عملياته، وتجسد ذلك في استهداف قاعدة رامات ديفيد الجوية، بالإضافة إلى مجمع الصناعات العسكرية رفائيل شمال حيفا ()، بما يعني أن الحزب وسع نطاق عملياته ليصل مداها إلى ما يتجاوز الـ 60 كم من منطقة الحدود، لتشمل مناطق قريبة من حيفا والناصرة وطبرة، كذلك استخدم الحزب للمرة الأولى صاروخ فادي 1 و2، وهو من الصواريخ متوسطة المدى التي يملكها حزب الله ويصل مداها إلى 70 إلى 120 كم. وثالثها: أن الحزب وسع قاعدة استهداف المستوطنات؛ مما تجسد في استهداف مستوطنة كريات بياليك، في مسعى لنسف سردية عودة الإسرائيليين إلى مناطق الشمال وإلى المستوطنات المحاذية للحدود، جنبًا إلى جنب مع هدف يرتبط بتوسيع ترحيل المستوطنين. ورابعها: أن الحزب اعتمد على تكثيف معدلات إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة خلال الـ 48 ساعة الماضية، فيما يبدو أنه مسعى يستهدف إلهاء الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وتجاوز منظومة القبة الحديدية، خصوصًا وأن ذلك يجعلها تستنزف مخزونها من الصواريخ الاعتراضية.
اتجاهات الجبهة الداخلية اللبنانية
كانت الحرب الدائرة بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، مدخلاً للعديد من الأزمات الداخلية في لبنان، وذلك على أكثر من مستوى، أولها أنها زادت من حدة الاستقطاب السياسي والطائفي، وثانيها أنها دفعت باتجاه المزيد من التعطيل لبعض الاستحقاقات المهمة وأبرزها الفراغ الرئاسي المستمر منذ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022، وثالثها أن التداعيات الأمنية والإنسانية الكبيرة لحالة التصعيد الراهن على الداخل اللبناني المأزوم بالأساس، وقد بدأت مظاهر هذه الأزمات في التجلي من خلال موجات النزوح من مناطق الجنوب اللبناني سواءً نحو العاصمة بيروت أو تجاه الأراضي السورية ()، عبر معبري القصير (شرق لبنان) والدبوسية (شمال)، وعبر معبر المصنع الذي يربط بيروت بدمشق.
وفي هذا الإطار يوجد حاجة إلى رصد اتجاهات ومواقف القوى اللبنانية من مسألة التصعيد الراهن، على اعتبار أن الجبهة الداخلية تمثل معيارًا مهمًا لمآلات التطورات في الفترات المقبلة، ويمكن في هذا الإطار التفرقة بين اتجاهين رئيسيين في الداخل اللبناني:
1- الاتجاهات الموالية لحزب الله: كان هناك العديد من الاتجاهات اللبنانية، المؤيدة لحزب الله في تصعيده ضد إسرائيل وانخراطه في تداعيات “طوفان الأقصى”، وتجسدت هذه الاتجاهات بشكل رئيسي في البيئة الحاضنة للحزب خصوصًا في الضاحية الجنوبية لبيروت، وحركة “أمل” الحليف السياسي للحزب، التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، فضلًا عن بعض القطاعات الدرزية، مما تجسد في حالة التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، فضلًا عن بعض القطاعات السنية ومنها “قوات الفجر” ودائرة الإفتاء اللبنانية وبعض قواعد تيار المستقبل.
2- الاتجاهات الرافضة لمبدأ “وحدة الساحات”: في المقابل كان هناك اتجاه لبناني يُعبر عن رفضه لحالة التصعيد الراهنة، ورفض مبدأ “وحدة الساحات” الذي تبناه حزب الله منذ 8 أكتوبر 2023، وعلى رأس هذه القوى أحزاب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، وحزب الكتائب اللبنانية برئاسة سامي الجميل، فضلًا عن التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل والذي كان متحالفًا مع حزب الله من قبل، لكن تصريحات مسئولي التيار كانت تؤكد دائمًا على “رفض مبدأ وحدة الساحات والتصعيد في الجنوب”، وأن “لبنان غير مرتبط بمعاهدة دفاع مع غزة” () وفق ما صرح الرئيس الأسبق والزعيم الروحي للتيار العماد ميشال عون.
وفي هذا السياق يمكن إبداء مجموعة من الملاحظات الرئيسية بخصوص موقف الجبهة الداخلية اللبنانية تجاه انخراط حزب الله في التصعيد الراهن، وذلك على النحو التالي:
- كانت الجبهة الداخلية اللبنانية أحد العوامل والمحددات الرئيسية التي قيدت تحركات الحزب على مستوى التصعيد ضد إسرائيل منذ 8 أكتوبر وحتى اليوم، والتزامه بما أطلق عليه “قواعد الاشتباك”، وذلك على أكثر من مستوى؛ أولها: أن التحركات العسكرية الإسرائيلية منذ ذلك الحين أثبتت أن لبنان كله مهدد وليس مناطق نفوذ حزب الله فقط. وثانيها: أن أزمة الشغور الرئاسي في لبنان ووجود حكومة محدودة الصلاحيات، وسيادة حالة من الاستقطاب السياسي والطائفي، بما ينعكس على عدم وجود موقف موحد تجاه مسألة التصعيد، كلها عوامل تزيد من التكلفة السياسية لهذه الحرب. وثالثها: أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يعيشها لبنان خصوصًا منذ انفجار مرفأ بيروت، تفرض المزيد من القيود فيما يتعلق بالبيئة الداخلية على الحزب.
- أدى التصعيد الراهن بين حزب الله وإسرائيل إلى تغيرات نسبية على خريطة التحالفات الداخلية الخاصة بحزب الله اللبناني؛ إذ إن الحرب دفعت من جانب بشكل كبير إلى زيادة حجم التقارب بين حزب الله مع الظهير السني، خصوصًا بعد انخراط الجماعة الإسلامية ممثلة في قوات الفجر في إطار التصعيد، ومن جانب آخر دفعت الحرب والتصعيد باتجاه التقارب بين الحزب والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، في مشهد أعاد للأذهان التحالف القديم بين الجانبين، في مرحلة التسعينيات وحتى اغتيال رفيق الحريري.
- أدت الحرب الجارية عمليًا إلى تعميق الفجوة بين الحزب وبين المكونات السياسية المسيحية في لبنان، وبعيدًا عن كون مسألة الاستقطاب السياسي كانت السمة التقليدية للعلاقات بين الحزب وكلٍ من القوات والكتائب اللبنانية، إلا أن الحرب دفعت باتجاه زيادة الفجوة بين حزب الله وبين حليفه المسيحي خلال الفترة من 2006 “اتفاق مار مخايل”، وحتى اليوم ممثلًا في التيار الوطني الحر، وهي الخلافات التي كانت قد بدأت منذ انتهاء ولاية الرئيس الأسبق العماد ميشال عون، وذلك على وقع دعم الحزب للدفع باتجاه وصول زعيم تيار المردة سليمان فرنجية للرئاسة، في مقابل رغبة التيار الوطني الحر في الدفع باتجاه تولي زعيم التيار جبران باسيل للمنصب، ثم جاءت الحرب الجارية لتؤكد على تفاقم الخلافات والرؤى بين الجانبين حتى في الملفات الخارجية والاستراتيجية التي كانت محل اتفاق في أوقات عديدة.
مواقف الأطراف الخارجية الفاعلة في لبنان
بشكل عام يوجد العديد من الأطراف الخارجية المؤثرة بشكل كبير في الملف اللبناني والفاعلة به، بما يعني أن استقراء مواقف وحسابات هذه الأطراف تجاه التصعيد الراهن، يعد أمرًا مهمًا على مستوى استقراء المشهد خلال الفترات المقبلة، وفي هذا السياق يوجد مجموعة من الاتجاهات الرئيسية للتعامل مع التصعيد الراهن، وذلك على النحو التالي:
1- الموقف الغربي من التصعيد في لبنان: ويُقصد بالموقف الغربي الموقف الأمريكي – الأوروبي (خصوصًا الفرنسي) على وجه التحديد، على اعتبار الارتباط الكبير لهذا المحور بالعديد من المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية في لبنان، خصوصًا في ضوء مجموعة من الاعتبارات الرئيسية التي تفرض على هذا المحور الانخراط بفاعلية في إطار تطورات الجبهة اللبنانية. أولها: أن هناك نظرة غربية سائدة مفادها أن توسيع رقعة الصراع في منطقة الشرق الأوسط والتوجه نحو الحرب الشاملة أو حافة الهاوية سوف يحمل العديد من التداعيات السلبية على مصالح هذه الدول. وثانيها أن هذا السيناريو يهدد شبكة التحالفات التقليدية لهذه الدول في المنطقة. وثالثها أن تصاعد وتيرة الحرب في منطقة الشرق الأوسط قد يحمل بعض الارتدادات السلبية الداخلية على بعض هذه الدول، وخصوصًا الولايات المتحدة مع قرب عقد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، ورابعها: أن هذا التصعيد يزيد من التكلفة الخاصة بالحضور العسكري لهذه القوى في منطقة الشرق الأوسط.
لكن الإشكال الرئيسي في حالة الموقف الغربي، يرتبط بعدم ترجمة هذه المحددات والتخوفات إلى سياسات فعلية تحول دون الوصول إلى نقطة حافة الهاوية، إذ لم تتجاوز التحركات الغربية حتى اللحظة حدود التحذيرات الدبلوماسية والسياسية التقليدية من هذا السيناريو، دونما تبني إجراءات فعلية من شأنها الإسهام في وقف حالة التصعيد، وهي الإجراءات التي كان يُفترض أن تبدأ من فرض وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتتجسد هذه الإشكالات بشكل صارخ وواضح في حالة الموقف الأمريكي؛ إذ إن الولايات المتحدة يبدو أنها تراجعت عن أولوية وقف إطلاق النار في قطاع غزة، كذلك أشارت بعض التقارير إلى أن إسرائيل نسقت مع الولايات المتحدة قبل تفجيرات “البيجر”، ويبدو أن الموقف الغربي حاليًا متحفظ فقط على سيناريو الحرب الشاملة في الشرق الأوسط، والحرب الواسعة في لبنان، بما يعني ربما الموافقة ضمنيًا على عمليات عسكرية محدودة في الجنوب اللبناني، حال عدم قدرة الضربات الجوية على تحقيق الأهداف الإسرائيلية.
2- إيران ومتلازمة “التراجع التكتيكي”: كانت تصريحات المرشد الأعلى الإيراني على خامنئي في منتصف أغسطس الماضي ()، تعبيرًا في أحد أبعادها عن الاستراتيجية الإيرانية تجاه “الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية” واستهداف إسرائيل لعمق طهران، وكذا الموقف الإيراني من التصعيد الواسع ضد حزب الله، حيث أشار “خامنئي” إلى أن “التراجع أمام الأعداء في بعض الأوقات قد يكون تكتيكيًا، وقد يكون تطويرًا لتكتيك ما، ولا حرج في ذلك” وفق تعبيره، ثم جاءت يوم أمس 23 سبتمبر 2024، تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ()، والتي قال فيها: “إن بلاده مستعدة لبدء مفاوضات نووية إذا كانت الأطراف الأخرى لديها الرغبة نفسها، ويبدو أن إيران وعبر هذه الرسائل تؤكد على موقفها الراهن القائم بشكل رئيسي على مجموعة من المحددات؛ أولها: عدم الرغبة في التوجه نحو التصعيد الشامل. وثانيها: الاستعداد للعودة للمفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي على قاعدة التوقف المؤقت عن تخصيب اليوارنيوم مع عدم الاستغناء كليةً عن البرنامج النووي. وثالثها: أن فتح قنوات التواصل مع واشنطن والعودة إلى مفاوضات النووي، ربما تستهدف منه إيران حماية حزب الله عبر ضغط واشنطن على إسرائيل من أجل إلغاء أو تأجيل هجومها البري، الذي يبدو أن تل أبيب اتخذت قرارها بخصوصه.
3- الموقف العربي من التصعيد على الجبهة اللبنانية: تظل الدول العربية خصوصًا مصر والسعودية والإمارات تحظى بهامش حضور كبير في إطار التصعيد الذي تشهده الجبهة اللبنانية، حتى وإن كان ذلك بوتيرة أقل من تأثير الجانبين الغربي والإيراني، إما لجهة العلاقات الكبيرة التي تربط الدول العربية بالأطراف الغربية، أو لجهة الحضور العربي القوي في إطار التفاعلات الداخلية اللبنانية، ويوجد ما يشبه الإجماع لدى الدول العربية على بعض الأولويات الرئيسية، وفي القلب منها ضرورة تجنب سيناريو التصعيد الشامل بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، وضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزة بما يضمن وقف حالة التصعيد الإقليمي الراهنة، لكن الإشكال فيما يتعلق بالموقف العربي يرتبط بمجموعة من الاعتبارات والعوامل الرئيسية؛ أولها: يرتبط بغياب أي ضغوط غربية على إسرائيل لوقف أعمالها العدائية. وثانيها: يرتبط بوجود محددات خاصة تحكم مواقف بعض الأطراف العربية تجاه بعض الترتيبات الإقليمية التي جرت في السنوات الأخيرة. وثالثها: يرتبط بشخص بنيامين نتنياهو، والذي ينطلق من حسابات شخصية تتجاوز حتى أي مكاسب كانت الإدارة الأمريكية تراهن على تحقيقها، مما يتجسد بشكل واضح في حالة التطبيع مع المملكة العربية السعودية.
السيناريوهات المتوقعة
في ضوء استقراء كل الاعتبارات والسياقات السالف ذكرها، يبدو أن تطورات الجبهة اللبنانية، سوف تكون محكومة بأحد السيناريوهات التالية خلال الأيام المقبلة:
1- المواجهات البرية المحدودة: ويُقصد بهذا السيناريو أن تكون الضربات الجوية الإسرائيلية العنيفة الأخيرة على لبنان، تمهيدًا لعملية برية ستجري في الأيام المقبلة، على أن تكون هذه العملية محدودة النطاق، ويبدو أن إسرائيل تركز حاليًا على تكبيد حزب الله خسائر موجعة خصوصًا على مستوى الصف القيادي له، وعلى قواعد الصف الثالث، جنبًا إلى جنب مع البنى التحتية الخاصة بالحزب، وبناءً عليه سوف تُحدد أولويات تحركها على المستوى البري.
2- سيناريو المواجهات الشاملة: ويعد هذا السيناريو هو الأكثر تشاؤمًا، فرغم استبعاده بنسبة كبيرة بفعل تداعياته وتكلفته الكبيرة بالنسبة للجانبين، فإنه يظل مطروحًا كأحد السيناريوهات، خصوصًا مع الاعتداءات الإسرائيلية المتنامية والتي خرقت كل قواعد الاشتباك، جنبًا إلى جنب مع دفع الائتلاف الحكومي في إسرائيل باتجاهه، ورغبة إسرائيل في فرض واقع أمني جديد على حدوده الشمالية، وهو الأمر الذي سيفرض الحزب التعامل بمقتضيات وأنماط تحرك جديدة، وصفها الأمين العام لحزب الله بأنها ستكون “غير خاضعة لأي قواعد، وحيفا وما بعد حيفا”.
3- استمرار نمط التصعيد التدريجي: يفترض هذا السيناريو استمرار الطرفين في تبني أنماط من التعصيد تتجاوز أي قواعد اشتباك كان معمولًا بها منذ 8 أكتوبر 2023، مع الحفاظ على عدم الوصول إلى مرحلة المواجهة الشاملة، ويدعم فرص هذا السيناريو العديد من الاعتبارات؛ أولها: حفاظ حزب الله حتى اللحظة على العمل وفق قواعد اشتباك رسمها لنفسه. وثانيها: ما يبدو أنه مباحثات غير معلنة تجري بين طهران وبين الولايات المتحدة بخصوص الجبهة اللبنانية، واحتمالية تقديم إيران بعض التنازلات التي تضمن عدم الوصول إلى نقطة الانفجار. وثالثها: الرغبة الغربية في عدم الوصول إلى سيناريو الحرب الشاملة.
إجمالًا يمكن القول إن مآلات التصعيد في الجبهة اللبنانية، تظل غير معلومة، في ضوء حالة السيولة التي تطغى على تفاعلاتها، وتحرر هذه الجبهة تدريجيًا من كافة الأطر والمحددات والقواعد التي كانت حاكمة لها، لكن وبشكل عام سوف يكون مدى التصعيد الذي تشهده الجبهة اللبنانية مرتبطًا بمجموعة من المحددات الرئيسية؛ ومنها حدود رد فعل حزب الله على الاستهدافات الأخيرة للأراضي اللبنانية، ومآلات المباحثات الإيرانية مع بعض الأطراف الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وكذا طبيعة التفاهمات التي قد تتم بخصوص البيئة الأمنية في منطقة الحدود اللبنانية مع الأراضي الإسرائيلية؛ إذ إن إسرائيل تحاول تخيير حزب الله بين أمرين؛ فإما أن يتم فك الارتباط بين الجبهة الشمالية والحرب في قطاع غزة واتخاذ ضمانات لعودة المستوطنين إلى مناطق الشمال، وانسحاب مقاتلي الحزب إلى شمال نهر الليطاني، وإما أن يتم الذهاب نحو مواجهة شاملة، ويظل سيناريو التراجع التكتيكي من الحزب مطروحًا في هذه الثنايا، بالقدر الذي يُطرح به سيناريو استمرار حالة التصعيد.