من الكم الهائل لعلاقات هذا السياسي القومي الكردي مع الأحزاب والتيارات والقادة القوميين العرب في العراق وسوريا، وكل المنطقة. استهلالا بعلاقة استثنائية جمعته منذ شبابه الأول مع قائد القومية العربية في المنطقة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مرورا بتحالف وثيق ضمه إلى الرئيسين السوري حافظ الأسد والليبي معمر القذافي، انتقالا لأنواع من التحالف والتداخل مع الحركات القومية في العراق، بما في ذلك حزب “البعث” نفسه قبل وصوله لسُدة الحُكم، والأجنحة المعارضة من التنظيم العراقي لـ”البعث” فيما بعد، وليس انتهاء بالانتماء والعضوية المباشرة في تنظيمات مثل “حركة القوميين العرب”، و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، حتى إنه بقي يحمل بطاقات انتظامه في تلك التشكيلات طوال حياته، مفتخرا بعلاقاته الوطيدة مع تلك التشكيلات، مصنفا إياها كشريك أولي ودائم في مشروعه السياسي.
كيف كان لزعيم قومي كردي أن يفعل كل ذلك وهو الذي من المفترض أنه يشغل مكانة من يقود حركة قومية ذات مطالب من ممثلي القومية العربية نفسها؟!
تتبعا للمذكرات نفسها والسيرة الذاتية، واعتمادا على ما كان الرئيس طالباني يكشفه على الدوام لساسة وقياديين أكراد مقربين منه، فإنه لم يكن يرى في هذا الاندماج والتواصل بين شخصية وحركة قومية كردية مع نظيرتها القومية العربية أي خطأ في الممارسة أو تناقض في المنطق السياسي، بل على العكس تماما، يجدها استراتيجية ضرورية للحركة القومية الكردية أولا، بكل تياراتها ونزعاتها الأيديولوجية التفصيلية، ومثلها طيف التنظيمات السياسية العربية في دول المنطقة، لكن تحديدا في سوريا والعراق.
كان الرئيس طالباني يرى ضرورة في “التحالف” بين التيارات المغبونة إقليميا، لما يجمعها من مصالح ومصائر
فالرئيس طالباني كان يصنف الحركات السياسية في منطقتنا- القومية في زمانه- إلى نوعين منفصلين ومختلفين تماما، وحتى متناقضين بالضرورة: أحدهما بنزعة للهيمنة المتجاوزة للحدود الكيانية، وذات ذاكرة وهوية إمبراطورية مستبطنة، تملك طموحا غير قليل لتفكيك الكيانات الأصغر حجما، وإلحاقها وتحطيم مجالها الوطني. كان الرئيس طالباني يرى ذلك في كل التيارات السياسية التركية والإيرانية بالضرورة الحتمية، المركزية السلطوية منها تحديدا. وكان يرى فيها طموحا مستداما لاستعادة “المجد” والشرط الإمبراطوري الذي كان. وتاليا سعيا حميما لاستضعاف دول المنطقة وتياراتها السياسية الرئيسة، أيا كانت الخطابات والأيديولوجيات التي تقدم نفسها بها.
على الطرف النظير، كان يجد في الحركات السياسية العربية والكردية، ومثلها تيارات ممثلة لجماعات أهلية أخرى أصغر حجما في المنطقة- كانت قومية في زمانه- قوى مغبونة، قابلة للكسر والخضوع على الدوام، لاهثة في سبيل تقليل حجم التدخل والهيمنة الإقليمية على بلدانها ومجالاتها الداخلية، ذات مصلحة تاريخية في حماية مجالها الداخلي.
وفي رؤيته السياسية الأكثر عمقا، كان الرئيس طالباني “مام جلال- حسب التسمية الشعبية الكردية” يرى في تدخل النوع الأول في بلدان النوع الثاني سببا أوليا ودائما لفشل هذه الأخيرة في تحقيق مراميها وتطلعاتها. لأجل ذلك، فإن الرئيس طالباني كان يرى ضرورة في “التحالف” بين هذه التيارات المغبونة إقليميا، لما يجمعها من مصالح ومصائر، ومواجهة ضرورية وحتمية لنزعات الهيمنة المتدفقة إلى بلدانها من خارج الحدود، ذات الأحلام الإمبراطورية. وكان يسرد أعدادا لا متناهية من التجارب السياسية، التي كادت فيها الحركات القومية العربية والكردية أن تتوصل إلى حلول ناجزة للمسألة الكردية أو أية قضية وطنية أخرى في بلدانها، لكنها كانت تفشل بسبب تدخلات هذين البلدين “الإمبراطوريين”، اللذين كانت القوى السياسية داخلهما تختلف وتتصارع على كل شيء، لكنها تتفق على نزعة الهيمنة على بلدان الضفاف حولهما.
ثمة تيارات سياسية كبرى في سوريا والعراق تملك مصلحة حتمية في التكاتف فيما بينها، يجمعها شرط واحد هو الخروج من دائرة الهيمنة الإقليمية
تبدو رؤية وقراءة الرئيس طالباني صالحة حتى في الحاضر الراهن، وإن تغيرت بعض التسميات والعناوين، لكن المضامين والسياق الجوهري لا يزال ذاته. فأية معاينة للحياة العامة في بلدان المنطقة، للظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية فيها، وفي سوريا والعراق أولا، وما يماثلهما من بلدان قلقة إلى جوارهما، تظهر كيف تنوس هذه البلدان بين النفوذين التركي والإيراني، اللذين يتبادلان الأدوار والمصالح بشكل موضوعي داخل هذه البلدان، دون أن يندفعا لأي نوع من الصِدام، ولو على المستوى السياسي، على الرغم من كل التناقضات الظاهرة فيما بينهما.
على دفة نظيرة، فإنهما يستخدمان طيفا واسعا من الحركات والقوى السياسية في هذه البلدان وظيفيا لمصالحهما، يصطنعان لها تناقضات وصراعات داخلية مزيفة، يدخلان الحياة السياسية في هذه البلدان في سرداب من الحروب الداخلية، الدموية والباردة، على الدوام.
ما يجمع بلدي الهيمنة هذين في المحصلة، هو الرغبة المستدامة في إبقاء سوريا والعراق، وكل بلدان المنطقة لو استطاعا، في دوحة مستمرة من الضعف الداخلي المكين، لتبقى فضاءاتها السياسية حاضرة وقابلة للاختراق، غير متوازنة وغير جاهزة لبناء سياق ورؤية وطنية، ينتشلها من حالة التفكك و”التلاشي الوطني” التي تعيشها.
وحسب السياق نفسه، ثمة تيارات سياسية كبرى في هذه البلدان، وفي سوريا والعراق أولا باعتبارهما مركزي الاستقرار الأساسيين، تيارات عربية وكردية بالضرورة، تملك مصلحة حتمية في التكاتف فيما بينها، يجمعها شرط واحد، أولي ودائم، هو إخراج بلدانها من دائرة الهيمنة الإقليمية، التي تحمل كل شرور الاستعمار القديم، دون أن تملك أيا من قيمه الإيجابية التحديثية.
المصدر : https://www.majalla.com/node/316341/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%AC%D9%84%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89