ان المناورات السعرية الراهنة في سوق الصرف، تشكل اداة تتنافس فيها الولايات المتحدة كقوة اقتصادية على النفوذ الاقتصادي في مناطق جغرافية معينة وتحديدا اسواق الصرف في اقليم شرق المتوسط. وهنا تعبر الحالة الجيو-اقتصادية عن تفاعل العوامل الاقتصادية مع الأبعاد الجغرافية والجيوسياسية، وتؤدي دورًا مهمًا في تفسير الصراعات والتعاون بين الدول…
– تمهيد :
ليس من المنطق الاقتصادي ان تتمتع بلادنا بأعلى احتياطيات اجنبية لتلامس 100 مليار دولار واكثر وتتمتع بأعلى كفاءة تجارية في تاريخ البلاد النقدي والتي تزيد على 15 شهر استيرادي في حين ان المعيار العالمي يعُد تلك الكفاءة بنحو 3 اشهر من استيرادات البلاد، مع توافر تغطية كاملة للأساس النقدي monetary base وتحرير كامل للحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي، وهو امر يتفق وتطبيقات المادة (8) من اتفاقية صندوق النقد الدولي The Articles of Agreement of the International Monetary Fund في تحرير الحساب الجاري المذكور، فضلاً عن المنافع ذات الصلة بالاستثمار والعمل الاجنبي(اي عوائد الاستثمار والعمالة الاجنبية) يرافق ذلك سياسة تدخل قوية في العمليات النقدية للبنك المركزي العراقي في سوق الصرف والتي ترمي الى السيطرة على مناسيب السيولة المحلية ضمن ما يسمى (بالتعقيم من خلال التدخل في سوق الصرف Sterilization intervention ) وتوفير العرض الكافي من العملة الاجنبية بسعر صرف رسمي ثابت قدره 1320 دينار ازاء الدولار الامريكي الواحد، ذلك لتمويل التجارة الخارجية للقطاع الاهلي ومتطلبات التحويل الخارجي الاخرى للسوق الوطنية وبما يتناسب والتحرير شبه المباشر للحساب المالي في ميزان المدفوعات العراقي.
وعلى الرغم مما تقدم، فان هيمنة سعر الصرف الرسمي في تحديد القيمة الخارجية للدينار external value والذي خلف استقراراً عاليا في معدلات نمو المستوى العام للاسعار في البلاد، حيث مازال معدل التضخم السنوي لاتتعدى نسبته 4,7% وعلى وفق الاحصاءات المعتمدة.
ازاء كل ما تقدم من حريات في التحويل الخارجي وتوافر احتياطيات دولية عالية، نجد ان (معدّل التغير) بين السعر الرسمي للصرف والسعر الموازي يبلغ قرابة 16% ويؤشر ان ثمة ضوضاء ملونة colored noises تلف نظام المعلومات التي تتشكل بموجبها تحركات السوق الموازية او غير النظامية في بلادنا .
كما لايخفى ان النظام النقدي monetary regime في العراق يعتمد الربط المباشر والثابت للدينار العراقي بعملة الدولار الامريكي، وان مثل هذا الارتباط يلازم بلا شك حركة النظام النقدي والسياسة المالية للولايات المتحدة الامريكية، وان واحدة من متطلبات ذلك النظام المالي هي ان لا تستخدم عملة الولايات المتحدة الأمريكية باي شكل من الأشكال وعلى نطاق واسع في المعاملات غير القانونية ولاسيما تمويل العمليات التجارية العابرة للحدود.
فعلى الرغم من ان ذلك قد يضر بسمعة الولايات المتحدة وقدرتها على التحكم في النظام المالي العالمي، أي تآكل في الثقة بالدولار نتيجة استخدامه في أنشطة غير قانونية، ما قد يؤدي إلى محاولات من دول أخرى للبحث عن بدائل للدولار في التجارة الدولية، نجد ان اصراراً عالياً في انظمة الامتثال المصرفي Banking Compliance Systems تطبق على العمليات المالية للنظام المصرفي العراقي بشكل صارم، وهو الامر الذي قاد الى حرمان 50% من المصارف العراقية من التعاطي بالعملة الأجنبية، فضلاً عن حصر التمويل بعملة الدولار بمصارف مراسلة دولية تخضع بصرامة لمتطلبات السيطرة على الاصول الخارجية في وزارة الخزانة الأمريكية والمسماة OFAC، وهي متطلبات تقتضي ان لا تستخدم عملة الدولار بما يؤدي الى انتهاك الامن الوطني والسياسة الخارجية للولايات المتحدة .
ان صرامة تطبيق قواعد الامتثال المصرفي في التدقيق عن المستفيد الاخير ونوع البضاعة والمصرف المحلي الذي يتولى ادارة التحويل الخارجي بات امرا متشددا ومبالغاً احياناً في رفض وتقييد عمليات التحويل الخارجي في بلادنا .
فبين منصة الامتثال (فريق k2 ) يذكرنا بلجنة 660 التابعة لمجلس الامن الدولي ابان الحصار الاقتصادي التسعيني في العراق، اذ كانت لجنة 660 لمجلس الأمن الدولي الخاصة بالعراق و هي لجنة تأسست في إطار العقوبات الدولية المفروضة على بلادنا بعد غزوه للكويت في عام 1990. اذ تأسست هذه اللجنة بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 660 الصادر في 2 آب 1990، والذي أدان غزو العراق للكويت وطالب بسحب القوات العراقية فورًا من الأراضي الكويتية.
الا ان مهمتها انصرفت الى تدقيق السلع المدنية الموردة للعراق بشكل مفرط بموجب برنامج اتفاق النفط مقابل الغذاء الموقع مع الامم المتحدة في العام 1996، اذ كان دور تلك اللجنة جزءًا من سلسلة تطبيقات قرارات لاحقة تضمنت فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على العراق لضمان التزامه بالتراجع عن الغزو ضمن تطبيقات الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة .
وعلى الرغم من تباين الاحوال الا ان التدابير الاحترازية العالية من جانب الادارة المالية الامريكية اليوم، تجسد ان ثمة قلق يدفعها إلى تشديد مراقبتها على تدفقات الدولار على الصعيد الدولي وهذا ما حدا بها الى حرمان 32 مصرفاً عراقياً من التعاطي بعملة الولايات المتحدة وعلى وفق تطبيق الاسس والآليات المصرفية الدولية المشددة ، فضلاً عن تعزيز التعاون مع حلفائها للحد من استخدام الدولار في النشاطات غير القانونية (حسبما تعتقده واشنطن ) وكأنما ثمة حصارا ناعما soft sanction يطوق العمليات المالية للنظام المصرفي الاهلي في بلادنا حالياً وحتى في المرحلة القادمة ، اي مرحلة مابعد لجنة k2 او ما يمكن تسميته post K2 ، وهي مرحلة الانتقال التي يتم بموجبها غلق نافذة التحويل الخارجي للبنك المركزي العراقي والتحول الى مايسمى بالتعزيز النقدي الدولاري Dollar
Replenishment
ذلك لدى كبريات المصارف العالمية المراسلة الشديدة الامتثال. ولكن يبقى التساؤل لماذا هذا التشدد في استخدام اموال بلادنا السيادية وماهي بواعث وآليات هذا التشدد على النظام المصرفي العراقي …؟
2- مصفوفة مصالح الولايات المتحدة و تفاقم السوق الموازي للصرف : التلاقي والتقاطع
من الواضح ان انتشار و تزايد استخدام الدولار في التجارة غير الرسمية يعزز من نمو الأسواق السوداء التي تعمل خارج إطار الرقابة المالية الدولية، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والتجارية .
فالتمويل غير المشروع للتجارة غير الرسمية، والعابرة للحدود، يمثل قناة رئيسة لتمويل الأنشطة غير القانونية مثل الإرهاب وتهريب المخدرات وغسل الأموال وغيرها.
ولكن على الرغم مما تقدم فان الصراعات الجيو اقتصادية التي تحيط اقليم الشرق الاوسط برمته، وتحديدا ما تتعرض اليه الجمهورية الاسلامية في ايران من حظر للعمليات المالية والمصرفية من جانب الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الغربيون، فان ثمة رابطة جدلية (تمثل مصفوفة المصالح المشتركة) بين تصاعد سعر صرف الدولار في السوق الموازية ومصالح الولايات المتحدة في موضوع انتشار استخدام الدولار في مختلف الأنشطة سواء التجارة المدنية العابرة للحدود من دول تخضع للتقييد والمقاطعة الامريكية او الحد من تعزيز قدرة الجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية على العمل بحرية أكبر وعلى وفق الرؤية الامريكية .
وبناء على ما تقدم، فان معتقد تمويل التجارة المدنية من السلع والخدمات مع دول الجوار بشكل عام وايران بشكل خاص، يمثل اس التوافق بين تعاظم كلفة الحصول على الدولار الامريكي ومصالح الولايات المتحدة في قمع تمويل العمليات التجارية العابرة للحدود، وجعل الميزة التنافسية بين السلع الممولة بالطرق التقليدية المصرفية والتي يجري فحصها وتدقيقها Screening عبر النظام المالي الدولي للامتثال، اقل كلفة مقارنة بتكاليف ومخاطر تمويل العمليات التجارية العابرة للحدود والممولة من الاسواق الموازية، وهو ما يمكن تسميته اصطلاحا (بالاستبعاد او التنافي المتبادل mutual exclusion ).
اذ يصف (الاستبعاد او التنافي المتبادل) في علم الاحصاء حدثين أو أكثر لا يمكن أن يحدثا في نفس الوقت. ويُستخدم هذا المصطلح عادةً لوصف موقف معين ،حيث يحل وقوع نتيجة واحدة محل الأخرى. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للحرب والسلام أن يتعايشا في نفس الوقت. وهذا يجعلهما متنافيين حقاً.
وبهذا وحسب معتقدات السياسة المالية الخارجية للولايات المتحدة فان تجارة العراق العابرة للحدود مع ايران او غيرها ينبغي ان تخضع لقاعدة ( النفي المشترك mutual exclusion ).
اي بالمعنى الصريح، كلما ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية يجعل تمويل الاستيرادات العابرة للحدود اكثر كلفة وهي منافسة حادة بين سياسة الاغراق السلعي غير الرسمي لجعل السلع المهربة اكثر تنافسية وبين تدهور سعر الصرف في الاسواق غير الرسمية .
وهي منافسة يطلق عليها (قطع الحنجرة او الحلق cut throat competition)ويحكمها جميعا قيد الامتثال المصرفي.
فكلما تعاظم قيد الامتثال المصرفي في السوق المصرفية المنظمة ،تزايد سعر الصرف في السوق الموازي، واصبح عنصر الكلفة او كلفة الفرصة تميل الى التجارة الرسمية بسبب عامل سعر الصرف الرسمي الثابت بالرغم من شروط قيد الامتثال. وبهذا اصبحت العمليات التجارية الممولة من سوق الصرف النظامية مقارنة بمثيلاتها في السوق السوداء، اشبه بصيرورة برنامج يمنع مستخدمين متعددين من الوصول إلى نفس المتغير المشترك وهو الدولار في آن واحد ويسمى باستخدامات الاقسام الحرجة، وهي منطقة من (التعليمات البرمجية) حيث يمكن لعمليات أو خيوط متعددة الوصول إلى نفس المورد المشترك نفسه، او ما يسمى بالبرمجة المتزامنة concurrent
programming ولكن بكلفة مختلفة.
وبغض النظر عن هذا وذاك، فان الصراع الجيواقتصادي بين الولايات المتحدة وايران وآخرين ممن تراهم اعداء او خصوم في صيرورات السياسة الخارجية الامريكية، قد اعتمدت فرصة تنامي السوق الموازي في بلادنا واسعار صرف الدولار فيها لتحقيق (التنافي المتبادل) بين الحصول على الدولار التنافسي الاقل كلفة بسعر الصرف (The least expensive dollar) ذلك من خلال قنوات الامتثال المصرفية الدولية المعنية بالتحويل الخارجي وتمويل التجارة الخارجية للعراق، وبين (الدولار الاكثر كلفة The most expensive dollar ) الذي يتم تحصيله من السوق الموازي لتمويل سلع مماثلة ولكن بكلف دولارية عالية.
وبناء على ماتقدم فان صراع الجغرافيا الإقتصادية بين الولايات المتحدة وايران و أطراف دولية اخرى هي مازالت في (منطقة النفي المتبادل )
فكلما ارتفعت قيمة الدولار في السوق المحلية غير الرسمية او الموازية كلما قلت تنافسية السلع العابرة للبلاد بالطرق غير الرسمية.
انها اشبه بمعركة اقتصادية تجري في الخفاء بين الاطراف الدولية، ساحتها سوق الصرف الموازي وكلفة اسلحتها التجارية هو قيمة دولار الولايات المتحدة في اسواق العراق .
3- الاستنتاجات
أ-يلحظ مما تقدم ، ان وجود السوق الموازي غير النظامي للصرف و استخدام الدولار على نطاق واسع في المعاملات غير القانونية،يشكل ضرراً بسمعة الولايات المتحدة وقدرتها على التحكم في النظام المالي العالمي وتنفيذ عقوباتها على الدول والكيانات المالية والمصرفية المختلفة في العالم وعلى وفق سياساتها الخارجية ، وهو امر كما تراه الولايات المتحدة يؤدي الى تآكل في الثقة بالدولار نتيجة استخدامه في نشاطات غير قانونية .
و قد يتسبب في الوقت نفسه إلى محاولات من دول أخرى للبحث عن بدائل للدولار في التجارة الدولية ، حراء التشدد في عمليات (النفي المتبادل) لتصبح من الشدة التي تتضارب والمصالح الوطنية الرسمية للبلدان وتهدد الاستقرار الاقتصادي .
ب-ما يمكن استنتاجه أيضاً، ان السوق الموازية وارتفاع سعر الدولار فيها يأتي بدون شك لخدمة مصالح الولايات المتحدة في تشديد العقوبات الاقتصادية على ايران وغيرها من خلال سياسة (النفي المتبادل) وتوليد سوق صرف ذات كلف عالية لمصلحة صراعاتها الجيواقتصادية وفرض الحصارات على الاخرين، وان درجة تقييد او مرونة التحويلات الخارجية عبر الامتثال الدولي يتناسب طردياً مع ارتفاع سعر الصرف الدولار في السوق الموازي في بلادنا.
ج-ان سوق الصرف الموازي بالدولار الامريكي وتقلباته بات اشبه ما بحصان طروادة Trojan Horse في صراع الجغرافيا الاقتصادية للولايات المتحدة مع خصومها واعداءها الدوليين، ذلك للإشارة إلى ان أي تكتيك أو استراتيجية سوف تُمكّن من اختراق شيء مغلق أو محمي بشكل غير مباشر.
حيث ان مصطلح( حصان طروادة) يستخدم في العصر الحديث، للإشارة إلى البرمجيات الخبيثة (فيروسات الكمبيوتر) التي تُدخل نفسها إلى الأنظمة عن طريق التخفي كبرامج مفيدة، الا ان ما نعنيه في المسالة الجيو اقتصادية هي التصادم المتعاكس في سوق صرف الدولار الموازي .
فعلى الرغم من متانة الاحتياطيات الدولية للعراق يأتي دور سوق الصرف الموازي كأداة في نطاق هيمنة استراتيجية غير مباشرة للسيطرة على (النظام المالي الدولي الموازي) اضافة الى (النظام المالي الدولي الريمي) وفي آن واحد، وعد الدولار وتقلب اسعاره مع عملات الاخرى واحدة من اذراع صراع الجغرافيا الاقتصادية لاستمرار هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
4- ختاماً
ان المناورات السعرية الراهنة في سوق الصرف، تشكل اداة تتنافس فيها الولايات المتحدة كقوة اقتصادية على النفوذ الاقتصادي في مناطق جغرافية معينة وتحديدا اسواق الصرف في اقليم شرق المتوسط. وهنا تعبر الحالة الجيو-اقتصادية عن تفاعل العوامل الاقتصادية مع الأبعاد الجغرافية والجيوسياسية، وتؤدي دورًا مهمًا في تفسير الصراعات والتعاون بين الدول في العالم المعاصر.