بقلم : سائد حامد أبو عيطة – كاتب سياسي ومختص في الشؤون السياسية درس التاريخ والعلوم السياسية والقانون الدولي الإنساني
مقدمة :
- كيف يتم التخطيط لتنظيم العالم؟
- كيف نفهم جزءً من السياسيات الامريكية في قيادة النظام العالمي ؟
في الحقيقة القوى العالمية ترى خريطة العالم كطاولة لعبة الشطرنج، تسقط دول أثناء اللعب وتنتصر دول أُخرى ضعيفة وتابعة لقوى الإقليم والعالم، الترجمة الحقيقية للعبة تظهر في واقع الحروب السياسية والعسكرية والاقتصادية والتطور التكنولوجي والعسكري والاقتصادي والأداء السياسي كأسس للتنافس بين القوى وكمحرك في هذا العالم بحسب ما تقضيه المصالح سواء كانت متناقضة أو متوافقة أو قائمة على المنفعية.
والمطلب الذي أطرحه هو ضرورة وجود قيادة عالمية وقت السلم والحرب سواء بقوة عالمية واحدة أو اثنتان أو ثلاث ولكل قوة محركاتها الأساسية المرتبطة بالتكنولوجيا والاقتصاد والقوة العسكرية على الأرض، في التاريخ كان لكل قوة عالمية قديمة مطلب أساسي وهو السيطرة على العالم وقيادته واليوم بات العالم المعاصر أكثر تشابكاً عما قبله ولم يعد يحتمل حروب إبادة وأصبحت قيادته أكثر تعقيداً وتشابكاً.
قيادة العالم مكلفة جداً وإن وقع التصادم بين القوى العالمية ستسقط بلدان وتتفكك قوى عالمية وإقليمية متناحرة، ما يقودنا للقول بأن الحل الوحيد لقيادة العالم المعاصر هو التشاركية بين قوى العالم في إدارته على النحو الأمثل والأكثر انضباطاً والذي سيسمح بتعايش البلدان والشعوب مع بعضها البعض.
التناقض العجيب هو أن بلدان وقوى العالم مجتمعة تنادي بالتعايش وفق مبدأ السلام العالمي ولكنهم يقبلون بالحروب في نفس الوقت، هذا المختصر حين نتابع تطورات مئات من القضايا السياسية والاقتصادية والاحداث العالمية على مدار عقود، ذلك يرجع لتضارب المصالح العالمية والإقليمية ومصالح مختلف البلدان التي تسعى في معظمها للارتقاء والتقدم.
لكن كيف يتعايش العالم مع هذا التناقض العالمي المبني على قواعد سيطرة القوى العالمية على النظام العالمي؟
الأمر معقد جداً، فعلى الشعوب النامية والمعدمة أن تعيش في كنف الشعوب المتقدمة سواء كانت إقليمية أو عالمية والحكومات النامية أن تعيش في كنف القوي الإقليمية والعالمية، يحدث التوازن في هذا العالم في حالة واحدة هي أن تتوزع السلطات العالمية والإقليمية وفقاً لمبدأ الترضية بحسب المصالح مقابل التعايش السلمي كبديل عن الدخول في حروب مدمرة للعالم.
التنافس على قيادة العالم في السياسة والاقتصاد – الولايات المتحدة الامريكية نموذج
الولايات المتحدة الأمريكية التي قادة العالم منذ الحرب العالمية الثانية ربما لا ترى في نفسها عدواً للشعوب فهي تصنع وتُساهم في تطور التكنولوجيا لتجعل من هذا العالم المعاصر متشابكاً وسهل القيادة في المستقبل ولتربط حكومات العالم ببعضها البعض والنتيجة هي إدارته بشكل منضبط وفقاً لمصالحها العالمية، الأمر أشبه بتفويض شخص قوي نفسه لقيادة مجموعة من الأشخاص الضعفاء وحين يقوى أحدهم أو يعقد تحالفاً مع آخر يتمرد على قائده الذي يحب السيطرة والقيادة حتى لو كان هذا القائد قد فرض نفسه بالقوة ودون اختيار المجموعة – نفترض أن القائد هو أمريكا وأسلوبها في قيادة العالم.
هكذا تصبح الأمور أكثر تعقيداً ولكن يمكن ضبطها في حال تم الاتفاق على توزيع أدوار القيادة العالمية، ذلك مع دخول الصين وروسيا معترك التنافس على القيادة العالمية، حينما خرج كلٍ منهما عن للولايات المتحدة الأمريكية التي تقود العالم منفردة.
عقود من الزمان صنعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية شراكة مع الحكومات والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية في كل بلدان العالم لتنظيم إدارة الحكم المحلي والعالم بالطريقة التي ترغب بها لتسهيل مهمة القيادة، بغض النظر عن الفشل أو النجاح وقبول تلك الحكومات والشعوب بالشراكة فهي لم تخطئ النهج في الحقيقة، لكنها أخطأت في اسلوب استغلال الحكومات والشعوب لفترات طويلة من الزمن وكان يجب فيها العمل من أجل التنمية والشراكة الحقيقية بدلاً من الاستغلال أو فرض القيادة بالقوة على باقي العالم، أما عن الدخول في حروب بمفهومها التاريخي التقليدي فهو أمر لا يمكن الفرار منه في هذا العالم الذي قد مر بمراحل مضطربة وغير مستقرة أشبه بمراحل انتقالية تسقط فيها إمبراطوريات ودول وتنشأ أُخرى في التاريخ القديم والحديث، لكن الحاضر اليوم يفرض علينا واقعاً آخر يشمل مفاهيم عالمية جديدة في السياسة والحرب والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والديمغرافيا وقيادة العالم المعاصر وهو ما يتطلب التعايش مع الواقع لتجنب الخسارات الفادحة للحروب المحلية والدولية أو الانزلاق في مربع الحروب العالمية الغير تقليدية والمدمرة.
اليوم لازلت تركز الولايات المتحدة الأمريكية على العمل من أجل تعزيز الديمقراطيات من خلال استخدام التكنولوجيا لتكون أكثر شمولية في العالم وتحقق نتائج فعلية تهدف لنجاح الأسلوب القيادي للعالم.
مثلاً، معظم الحكومات في مختلف البلدان تستخدم التكنولوجيا لدعم أسس الديمقراطية من خلال التواصل مع شعوبها وتعزيز نظام الحكم الديمقراطي، حيث تستخدم التكنولوجيا في جلسات البرلمان والانتخابات وفي التواصل مع الشعوب والتشاركية بين الشعوب والحكومة وبين الحكومات ببعضها البعض وكذلك في صناعة الحكومات التكنولوجية من خلال ربطها بأدوات التكنولوجيا، وهكذا في البنوك وفي التعاملات المالية وغير ذلك مما يتعلق بالاقتصاد ومختلف المجالات كالأعمال سواء كانت الوجاهية أو عن بعد وفي الاعلام والدعاية والتجارة والتواصل بين الشركات العالمية والمحلية والعمل المؤسساتي وفي قطاع الاتصالات والنقل والمواصلات والصحة والعلاقات على مستوى الافراد والجماعات والشعوب.
هكذا يمكنني اختصار مدى أهمية تكنولوجيا أمريكا المطورة في العالم الذي أصبحت مرتبطاً ببعضه البعض ولا يمتلك أي فرد أو حكومة أو جماعة أو قطاع خاص وغير خاص أو مؤسسة تعليمية او خدماتية القدرة على الاستغناء عن هذه التكنولوجيا بأي شكل من الأشكال وهي مرتبطة بالديمقراطية الشمولية التي تسعى الولايات المتحدة الامريكية لتعزيزها في العالم.
هنا تتضح إحدى وسائل إدارة العالم تحت إمرة الولايات المتحدة الأمريكية.
في الوجه الآخر من العالم الصين كقوة اقتصادية عالمية منافسة للولايات المتحدة الامريكية، هي دولة تقود اقتصاد عالمي ولديها سوق استهلاكي في كل أرجاء الأرض بما فيها أمريكا، فعلياً ليس هناك منزل أو مؤسسة أو مكان في العالم يخلو من منتج صنع في الصين وهذا يعني أن العالم أجمع لا يمكنه الاستغناء عن الصين كقوة عالمية صناعية تغطي كافة أرجاء الأرض بمنتجاتها الأساسية والغير أساسية وتستهدف كل فئات وطبقات سكان الأرض، وهذا يعني أن هناك قوى عالمية واحدة جعلت العالم بحاجة للتكنولوجيا والثانية جعلت العالم بحاجة إلى الصناعات وكافة المنتوجات ولا يمكن لأي دولة الاستغناء عنهما، ذلك بغض النظر عن التنافس الاقتصادي بين الدول الصناعية في العالم، في النهاية هناك رأسمالية عالمية تسيطر على الاقتصاد المحلي والعالمي منذ عقود.
في الجهة الأسوأ سأضرب مثلاً لقوة عالمية تنافسية وهي روسيا التي أدركت في السنوات الأخيرة أن من الضروري الدخول في مربع التنافس لقيادة العالم أو الاشتراك فيها بأي شكل من الاشكال وهو ما ترجم مؤخراً في التدخل في الحرب السورية وتوسيع دائرة العلاقات والتحالفات مع دول العالم وحتى إعلان الحرب الروسية على اوكرانيا، النماذج الثلاث لقوى العالم تترجم لعبة الشطرنج إلى لعبة حقيقية تلعبها قوى العالم، كما ذكرت في بداية المقال.
تعمل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم على توزيع الإنترنت وتمويل وتطوير الشبكات بملايين الدولارات في أنحاء مختلفة من العالم من أجل تحقيق نتيجة عالمية وهي ضبط وتنظيم وإدارة العالم بطريقة ابداعية، كما وتسعى لدعم قطاع الطاقة البديلة لتقليل استخدام الكهرباء التقليدية بنسبة 60% في العالم وهو ما يُسهم بالحد من الاعتماد على المنتجات النفطية ويسهم في تقليل نفقات الفرد في العالم ويدعم قطاع الاقتصاد ويؤدي الى استخدام الحد الأقصى من التكنولوجيا وهو ما يتطلب ارتباط التكنولوجيا بالاقتصاد وتطوير كلاهما، ذلك في إطار إدارة العالم وازماته السياسية والاقتصادية العالمية التي تترجم في الغالب إلى حروب ومعارك وهنا تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لإحكام السيطرة على النظام العالمي وإدارة العالم وفقاً لما تقضيه المصلحة الأمريكية والعالمية.
في جانب السياسة تخدم التكنولوجيا المصالح الديمقراطية لأمريكا من خلال شبكات الإنترنت المفتوح والآمن وهو من أجل تنظيم ما يعرف بالحوكمه الرشيدة وإدارة قطاعات كالتعليم والاتصالات والصحة والأمن وغيرها من قطاعات في بلدان مختلفة، هذا ما يمكن تسميته بالديمقراطية الشاملة التي تساوي بين كل فرد وآخر في العالم سواء مساواة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو خدماتية وتربط المنظومات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ببعضها البعض وتلك الديمقراطية المعززة ترتبط بكافة الحقوق الانسانية والحريات التي تسعى الولايات المتحدة الامريكية لنشرها وتطبيقها في العالم أجمع.
ديمقراطية وحريات الولايات المتحدة الأمريكية والعلاقة مع التكنولوجيا
أين نجد الحريات في جانب السياسية والمجتمع المرتبط بالديمقراطية ومبادئها التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود لتثبيتها في العالم؟، يمكن فهم هذا على النحو التالي:
عندما يستخدم الأفراد والجماعات الإنترنت وأدوات التكنولوجيا في التعبير عن آرائهم ومطالبهم من الحكومات ويمثل ذلك نوع من المعارضة ونوع من الاتصال بين الشعوب والحكومات في نفس الوقت وهو في إطار ديمقراطي سواء استجابت الحكومات أو لم تستجب لمطلبهم، حيث أن الحكومات عليها أن تلتزم بقواعد الديمقراطية وعدم انتهاك حقوق الإنسان ومنها القمع والمنع والحرمان، فقد جرت العادة على أن تقمع معظم الحكومات معارضيها الذين لجأوا للتكنولوجيا من خلال حجب صفحاتهم على المنصات الاجتماعية ومحتواهم الرقمي أو منعهم وغير ذلك من أساليب وهو ما يتسبب عادةً باضطراب سياسي ومجتمعي إذا تراكمت الأزمات وأصبح من الصعب السيطرة عليها، وهذا يعني أن مثل هذه الحكومات قد اخترقت الديمقراطية ومزقتها مما يؤدي إلى الانهيار والتهالك للدولة التي ستصبح عبئاً على العالم فيما بعد وحتى شعوبها سيصبحون عبئاً على العالم وهنا تصبح الديمقراطية سلاح قاتل إذا استخدمت خطأً، في هذا الجانب سأطرح مثالاً هو ثورات الربيع العربي وكيف خدمت التكنولوجيا وادواتها الشعوب المعارضة لسياسات الحكومات والأنظمة الاستبدادية ومثالاً آخر ما حدث في إيران مؤخراً من تظاهرات واحتجاجات على ممارسات وسياسات الحكومة.
في حالة التزام الحكومات المحلية بالديمقراطية تصبح الدول أكثر انضباطاً وانصياعاً لمطالب القائد الذي يقود هذا العالم مقابل دعم القائد للسلطات في أي بلدٍ ما، يقرر القبول بالديمقراطية العالمية التشاركية – يقصد هنا بالقائد أمريكا.
سأضرب هنا مثلاً واحداً وهو الثورة السورية التي تحولت إلى حرب أهلية بسبب عدم تطبيق الديمقراطية ومبادئها وهو ما أدى الى تصدير قرابة 5 ملايين نازح ولاجئ سوري للعالم وتدخلات خارجية وتقسيم للدولة للسورية.
نستطيع أن نقول أننا أمام أزمة عالمية تتحمل نتيجتها دولة نامية ومتخلفة وتتحمل مسؤوليتها قوى اقليمية ثم عالمية، حتى لو كان الأمر مخطط له كما يرى البعض ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة، فإن العالم من خلال المنظمات العالمية والمجتمع الدولي يتحمل النتائج الكارثية والدولة التي وقعت فيها الحرب تتحمل المسؤولية عن عدم تطبيقها أدنى حد من الديمقراطية ومبادئها وبالتالي وقعت فريسه للدول الأُخرى.
ربما أن ترويج الولايات المتحدة الأمريكية للديمقراطية في العالم منذ عقود يكون هو المخرج الحقيقي لإدارة العالم وهو أشبه بنقل نموذج الديمقراطية الأمريكية إلى باقي بلدان العالم وربط البلدان مع بعضها البعض من خلال شبكة سياسية وحكومة مركزية وتكنولوجية ومنظومة اقتصادية، وهذا يتطلب تنازل بلدان مختلفة من العالم عن الكثير مما يتعلق بالسياسات العامة المحلية والسياسيات الاقتصادية للأمريكيين مقابل ضبط العالم وإدارته بالشكل الصحيح وذلك أشبه بالتفويض لأمريكا كقوة عالمية، في النهاية القوة هي من تحكم والتكنولوجيا في عالمنا المعاصر من أدوات القوة سواء في الحروب أو الاقتصاد أو الأمن والعلم والسياسة وغيرها.
ف هناك دول من العالم استفادة من تكنولوجيا وديمقراطية أمريكا كماليزيا وجزر المالديف واستونيا ودول أُخرى لازالت تسير نحو التقدم التكنولوجي والديمقراطية ومبادئها وما يرتبط بها من حريات وحقوق إنسانية كبديل عن تغيير نظام الحكم فيها وهو ما يبعث بالأمل لنجاح النموذج الأمريكي، لكن هناك نماذج لبلدان متعددة ترفض تطبيق الديمقراطية الشمولية ووقعت في فخ الانقسامات والحروب المحلية والتدخلات الخارجية وذلك يعود لسياسات خاطئة اتبعتها تلك البلدان، ربما يرى البعض أن هذا مخططاً له عالمياً لكن لا أحد يستطيع أن يؤكد على ذلك لأن مثل هذه النماذج من الدول لم ترتقي لتطبيق مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في المقابل هناك نموذج لعدد من البلدان ذات الحكم الاميري والملكي حققت نجاحاً على مستوى العدالة الاجتماعية والاقتصادية وهو ما ساعد على استقراراها ونموها ومضيها نحو التقدم.
أما عن جانب الحريات المرتبطة بالديمقراطية الشمولية، تحارب الولايات المتحدة الأمريكية العنف والتحريض والكراهية والتطرف وعدم المساواة وما إلى ذلك وهذا بحسب رؤية الأمريكيين على أي حال سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، يمكنني القول إن الولايات المتحدة الأمريكية قد صنعت ديمقراطيات وحريات حتى في البلدان العدو لها كما فعلت مع البلدان الأحلاف وهي مسألة معقدة يصعب فهمها إذا لم يكن الباحث والمختص متابعاً للأحداث في العالم عن كثب سواء كانت حروب أو علاقات دولية أو تحالفات سياسية واقتصاد أو أزمات وقضايا عالمية ودولية متشابكة ومؤثرة في كل العالم.
أخيراً
كل ما يرتبط بالديمقراطية الشاملة من حقوق إنسانية سياسية واجتماعية واقتصادية وحوكمة رشيده ليس مكتمل إلى حد المثالية وهي موضوعات وقضايا ومنظومات متطورة وتواجه تحديات كبرى في العالم وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية صانعة الديمقراطية والحريات، حيث سُجلت انتهاكات متعددة للديمقراطية وما يرتبط بها من حريات وحقوق طوال السنوات الماضية في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي تصدر الديمقراطية.
لازال العالم مضطرباً حتى لحظة كتابة هذا المقال ولازالت قوى عالمية جديدة كالصين وروسيا تفرض نفسها على النظام العالمي وهو تحدي كبير للولايات المتحدة الأمريكية واحلافها في العالم ولو أصبح الدخول في مربع الحرب مطلباً عالمياً لن يكون هذا في مصلحة قوى العالم بكل الأحوال.
.
رابط المصدر: