مقدمة
يواجه قطاع الطاقة، الذي يشمل إنتاج وتوزيع النفط والغاز وإنتاج وتوزيع الكهرباء، والذي لازال يشكل شريان الحياة الاقتصادية والاجتماعية في دول المجلس، تحديان جديدان كبيران، أولهما تحدي التدابير الدولية لمكافحة ظاهرة تغير المناخ، والتي تشمل الضغط الأوروبي والعالمي بصفة عامة لفرض مصادر الطاقات المتجددة بديلاً لمصادر الطاقة الأحفورية (النفط والفحم والغاز)، باعتبار النفط والفحم المصادر الأكثر نفثاً لغازات الاحتباس الحراري. اما التحدي الثاني فهو تحدي تحرير قطاع الطاقة في الخليج، إنتاجاً وخدماتاً، والذي برز في المفاوضات متعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية. تطرح هذه التحديات على بساط البحث والنقاش مسألة الفرص والمساحة المتاحة لتأمين أمن واستدامة هذا القطاع بالغ الأهمية للاقتصادات وللمجتمعات في الخليج بصفة عامة، خصوصاً بحكم اعتماد اقتصاد ونمط حياة هذه المجتمعات اعتماداً كبيراً على انتاج وتصدير الطاقة بالشكل الحالي. ستناقش هذه الورقة التهديدات التي يواجهه قطاع الطاقة بسبب ارتفاع الأصوات المنادية بتدارك الوضع البيئي، وخصوصاً الغربية منها، حيث انه من المؤكد ان تؤثر الاتفاقيات الدولية في هذا المجال على دول المجلس وبشكل سلبي، وما هي ردود فعل واستراتيجيات دول المجلس لمواجهة هذه التحديات.
خلفية عامة حول قطاع الطاقة في دول مجلس التعاون
يشكل قطاع الطاقة الذي تناهز نفقاته حوالي 10% من إجمالي الناتج العالمي، والذي لازال يهيمن عليه النفط، العمود الفقري لحركة الاقتصاد العالمي بالمجمل، فلنا أن نتصور الدور المحوري والخطير الذي لازال يضطلع به القطاع في صنع وتنفيذ الاستراتيجيات والسياسات الدولية ذات الصلة.[1] لهذا تتمسك شركات النفط العالمية العابرة للجنسيات بمواقع استحواذاتها القارية وامتيازاتها البرية والبحرية وتعمل على إحاطتها بكل أشكال الحماية والدعم بما في ذلك تمويل رؤساء حكومات ونواب بلدانها لضمان استمرار الإبقاء على انتشارها العسكري الميداني، البري والبحري، وتقوية العلاقات مع مختلف لوبيات النفوذ في بلدانها وداخل بلدان عملياتها. ولهذا السبب أيضاً صار الحديث عن أمن امدادات الطاقة، لا سيما إمدادات النفط، على رأس جدول اهتمامات ومداولات مختلف البلدان، المنتجة والمستهلكة لمصادر الطاقة. وهو ما أكسب البعد الجيوسياسي لسلعة النفط خاصة أبعاداً جديدة زادت من قيمتها الاستراتيجية.
بالنسبة لدول مجلس التعاون، فإن قطاع الطاقة لا زال يشكل المحرك الأساس لدورتها الاقتصادية، مع استمرار اطمئنانها لحيازتها حوالي 57% من الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط والمقدرة بحوالي 133,3 مليار برميل، واضطلاعها بحوالي 30% من الانتاج النفطي العالمي أو ما يقارب 24.5 مليون برميل يومياً. لكن بقدر ما شكل النفط – ولا يزال يشكل – عماد التنمية في هذه الدول، فإنه يمكن أن يكون سبباً في تعطل ماكيناتها بسبب الاغراق في استمرار الاعتماد عليه لتحريك دواليبها الاقتصادية كافة.[2]
أولاً: التحديات المحلية والنمو القياسي للطلب المحلي على استهلاك الطاقة
يشكل ارتفاع استهلاك الطاقة في دول مجلس التعاون تحدياً لها في الوقت الراهن، وسيغدو على مدى السنوات العشر القادمة منذ تاريخ كتابة هذه السطور في بداية 2016 أكثر التحديات تهديداً لمكانتها الاقتصادية ومقدرتها التنافسية العالمية، في ضوء المعدل المرتفع للغاية من طلبها المحلي على استهلاك الطاقة. في أول تقرير بحثي تصدره مؤسسة عبدالله بن حمد العطية للطاقة والتنمية المستدامة، مطلع نوفمبر 2015، والذي حمل عنوان “عواقب النجاح أو الفشل: قلب مسار توجهات استهلاك الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي”، أكدت المؤسسة “إنه ينبغي على دول الخليج التصدي للارتفاعات الحادة في استهلاكها المحلي من الطاقة، وإلا سيتعين عليها مواجهة خطر فقدان مواردها التصديرية الثمينة التي تمثل نحو 90% من ايراداتها الحكومية”.[3] بحسب التقرير، فإن معدل استهلاك دول الخليج العربية، الذي كان يشكل أقل من 1% من الطلب العالمي على الطاقة في عام 1973، ارتفع إلى 5% في عام 2014، وهي التي لا تشكل سوى 0.5% من التعداد السكاني العالمي. كما كان معدل النمو السنوي لاستهلاك الطاقة في هذه الدول، بحسب إحصائيات العقد المنصرم، أسرع بنسبة الضعف من معدل نمو الاستهلاك العالمي من الطاقة البالغ 2.5 بالمائة”. ذلك أنه وبحسب التقرير المذكور، في حين كان إجمالي استهلاك منطقة الخليج من الطاقة في عام 2001 قد بلغ 220 مليون طن مكافئ من النفط، فقد تضاعف هذا الاستهلاك في عام 2010، وأنه من المتوقع أن يتضاعف مرة أخرى في عام 2020. وأشار التقرير الى أن متوسط الطلب على الكهرباء بلغ 10% سنويا منذ عام 1973 قبل أن يتراجع إلى 7% بين عامي 2000 و2010، علماً بأن 60% من الطاقة الكهربائية في دول التعاون يتم توليدها بواسطة محطات كهربائية تعمل بالغاز (دولة قطر، سلطنة عمان، دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين تحديداً)، و40% بواسطة محطات تعمل بالوقود السائل مثل النفط الخام والديزل وزيت الوقود الثقيل بالنسبة للدول الأقل حظوة بمخزونات الغاز (المملكة العربية السعودية ودولة الكويت تخصيصاً). وقد أدى هذا الارتفاع الكبير في استهلاك النفط بدول المجلس من نصف مليون برميل يومياً في عام 1973 إلى أكثر من 4 ملايين برميل يومياً في عام 2014، إلى تقليص الصادرات النفطية وإيراداتها.
ويرينا الشكل البياني استمرار الاتجاه الصعودي للطلب على الطاقة بقفزات كل خمس سنوات في دول المجلس حتى عام 2020. وهنا علينا أن نذكر أن نفس الأمر ينطبق على استهلاك المياه، والذي يتزايد بشكل تصاعدي، علماً بأن انتاج المياه الصالحة للشرب في دول المجلس يتم باستخدام مصدري الطاقة، النفط والغاز (بحسب وفرتهما في كل دولة من دول المجلس)، من خلال محطات تحلية مياه البحر التي تقوم بإنتاج الكهرباء بموازاة إنتاج المياه. [4]
ثانيا: التحديات العالمية: التغير المناخي وانعكاساتها على السياسات الاقتصادية
خلص التقرير الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في أن العقد الأول من القرن الواحد والعشرين (2001 ـ2010) كان الأكثر ارتفاعاً في الحرارة منذ 1850.[5] وتأكدت زيادة معدل الحرارة على سطح الكرة الأرضية، وتأكد أيضاً ارتفاع مستوى المحيطات وتسارع ذوبان الجرف الجليدي، كوقائع علمية لا ريب فيها، وارتفاع مستويات البحر بشكل أسرع من المعدل المتوسط على مدار الألفي سنة الماضية، وسيستمر الصعود في التسارع بصرف النظر عن سيناريو الانبعاثات حتى في ظل وجود أنشطة تخفيف قوية لآثار تغير المناخ. وحتى بالنسبة لأفضل السيناريوهات، لا يزال أفضل تقدير لمعدل الاحترار بحلول عام 2100 أدني من 4 درجات مئوية. فقد كان كل عقد من العقود الثلاثة الأخيرة على التوالي أكثر احتراراً عند مستوى سطح الأرض من أي عقد سابق منذ عام 1850. ومن المرجح أن الفترة من عام 1983 إلى عام 2012 كانت أدفأ فترة 30عاما خلال فترة الـ 1400 سنة الأخيرة في نصف الكرة الأرضية الشمالي الذي ينطبق عليه هذا التقييم. ويتوقع الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ بأن زيادة درجة الحرارة في منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط ستتسبب في أن تصبح المناطق الجافة أكثر جفافاً، ويمكن أن يكون لتغير المناخ تأثيراً هاماً حتى في ظل وجود تكيف ناجح مع ظاهرة تغير المناخ.
مما تقدم يتضح أن العالم مقبل على كوارث مناخية، بحسب التقرير، إذا ما بقي العالم يشتغل اقتصادياً على النمط السائد حالياً، حيث أن ارتفاع درجة الحرارة بواقع حوالي 4 درجات فوق المعدل المسجل قبل الثورة الصناعية (1750-1850)، بنهاية القرن الحالي، سوف يفضي الى الكوارث التي يحذر منها التقرير، ومن ضمنها ارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار، وغمر مناطق جزرية وساحلية بكاملها. لذلك جاء نص المادة الثانية في اتفاقية باريس لتغير المناخ الجديدة، بأن الهدف العالمي هو أن لا يتجاوز ارتفاع درجة الحرارة درجتين مئويتين بل والعمل على جعل هذا الارتفاع عند حدود 1.5 درجة. وليست دول المجلس استثناء من هذا السيناريو المفزع، بالنظر لكونها محاطة بمياه البحار من الشرق والغرب والجنوب. هذا فضلا عن الآثار الاقتصادية الخطيرة التي سوف تنجم بالضرورة عن ما يسمى تدابير الاستجابة التي تتخذها مختلف البلدان الأعضاء في الاتفاقية للوفاء بالتزاماتها في خفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري وفي مقدمها غاز ثاني أكسيد الكربون، إضافة الى الالتزامات التي ترتبت بفعل الاتفاقية الجديدة على دول مجلس التعاون بضرورة الشروع في اتخاذ المبادرات لخفض انبعاثاتها، بما يعنيه ذلك من تخصيص أموال إضافية لهذه المبادرات وبالتالي ارتفاع تكاليف عملياتها الانتاجية وخفض تنافسية منتجاتها وخدماتها، ناهيك عن اضطرارها لإبطاء دورتها الاقتصادية من أجل تقليل حجم انبعاثاتها.
مخصصات دعم الوقود الأحفوري
ويعتبر موضوع الدعم المالي، المباشر وغير المباشر، الذي تقدمه حكومات دول مجلس التعاون للوقود الأحفوري، أحد أكثر المواضيع إثارةً للجدل في المداولات الدولية. ويمكن القول أن الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) يتعرض في الآونة الأخيرة لضغط لا سابق له، من زاويتين، مالية وبيئية. على هذين المسوَّغين تتركز موجة النقد الحالية الموجهة لمخصصات دعم الوقود الأحفوري. فهي، أي مخصصات دعم هذا الوقود، تتسبب – من وجهة نظر الناقدين – في سوء تخصيص الموارد في الاقتصاد، سيما فيما يخص الاستهلاك المفرط للوقود الأحفوري نفسه، وإضافة أعباء على المالية العامة، فضلاً عن مساهمة هذا الدعم في زيادة انبعاثات الكربون.
وتعبر الحملة الأوروبية الغربية المنسقة ضد الدعم الموجه للوقود الأحفوري، عن ارتياح دوائر صناعة قرارها لدول مثل الأردن والمغرب وإندونيسيا وماليزيا، التي استجابت لدعوات التخلص من دعم الوقود الأحفوري عبر خفض الدعم أولاً ثم إلغائه، ومن هناك رفع أسعار الوقود. مع ذلك، يقول البعض في هذه الأوساط بأن دوافع هذه الدول لخفض مخصصات الدعم اقتصادية ومالية في الأساس، ولا تتعلق بالبيئة. فقد أصبح العبء المالي لهذا الدعم غير محتمل بعد أن تضاعفت أسعار النفط خلال الفترة من 2009 الى 2012، ما رفع كلفة الدعم في الأردن على سبيل المثال عشر مرات، فيما هو يشكل أكثر من 5% من اجمالي الناتج المحلي.[6]
وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن حجم دعم الوقود الأحفوري قد ارتفع في العالم من 311 مليار ولار في عام 2009 الى 544 مليار دولار في عام 2012.[7] ويزيد الصندوق على ذلك بالقول أن 15% من إجمالي الانبعاثات العالمية ناجمة عن الإفراط في استهلاك الوقود الأحفوري. وبتخفيض الدعومات المخصصة له فإن الدول المتقدمة ستتمكن من مقابلة أهدافها الخاصة بخفض الانبعاثات فوراً، وبإزالتها كلياً سيتمكن العالم من رفع الكفاءة الاقتصادية ويحرر الإنفاق الحكومي ويوجه مخصصاته لأوجه إنفاق تتسم بالاستدامة مثل التعليم والبنية التحتية لوسائل المواصلات العامة.
هل من حلول يعرضها المنادون، في أوروبا الغربية خصوصاً، بالتخلص من الدعم الذي يلقاه الوقود الأحفوري؟
في الواقع، تتعدى مساحة الذم والحط من شأن الوقود الأحفوري نطاق الحلول العقلانية والعملية المطروحة. صندوق النقد الدولي هو الأكثر عملية في هذا الجانب، فهو يعتبر أن فترة 5 سنوات، كمرحلة انتقالية، كافية للتخلص نهائياً من مخصصات دعم الوقود الأحفوري. ولكنه، كبقية المتحمسين في دعوتهم للتخلص من هذا الدعم، لا يملك إجابات مقنعة إزاء المعطيات الواقعية المحيطة بموضوع الدعم، والمتمثلة أساساً في ما يلي:
- ان الابقاء على هذا الدعم في جميع بلدان العالم، المتقدمة والنامية على حد سواء، مرتبط بالحالة السياسية للحكومة المعنية، وورقة انتخابية للمتنعمين بمزايا عضوية السلطات التشريعية. إذ لولا الخشية من ردود فعل الرأي العام، لما تطلب أمر ازالة الدعم كل هذا الجدل الواسع والمتجدد من جهة والفاقد لإرادة وآليات التطبيق من جهة أخرى. وهو بالضبط ما يفسر الحل الذي اقترحه صندوق النقد للتخلص من الدعم بصورة هادئة ومتدرجة تمتد على خمس سنوات، يراها مناسبة لاستيعاب ردات الفعل الغاضبة لجمهور المستهلكين.
- وإذا كان بالإمكان استيعاب ردة فعل الجمهور، “بتجريعه” مرارة إزالة الدعم بصورة متدرجة (على مدى خمس سنوات) كما يقترح صندوق النقد، فكيف سيتم التغلب على مصدر المقاومة الرئيس لهذا القرار، وهو الشركات النفطية الكبرى وشركات صناعة السيارات المرتبط مصيرها بإنتاج وتسويق النفط، والتي تشكل من أقوى لوبي مصالح ذي نفوذ على السلطتين التنفيذية والشريعية.
- إن التحول من نمط استهلاكي طاقوي عالي الكلفة إلى نموذج طاقوي متقشف – إن جاز التعبير – يتطلب تغيير ثقافة الاستهلاك السائدة. وهذا يتطلب توفير شروط تتجاوز الآلية التقنية (الزمنية) التي اقترحها صندوق النقد، وذلك بشهادة تراجع مجموعة العشرين (G-20) عن قرارها السابق القاضي بالتخلص الكامل من دعم الوقود الأحفوري بحلول عام 2020، وتمديد الموعد حتى عام 2030.
- بعد إقرار الاتفاقية الجديدة لتغير المناخ في مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين في باريس، لم تعد مسألة التخلص من الدعم ترفاً وإنما مطلباً إلزامياً، لأنه من دون التخلص منها لن يكون بوسع الدول البترولية الأعضاء في الاتفاقية وضع أهداف تخفيف للانبعاثات ورفع تقرير شفاف بشأنها كل خمس سنوات، ذلك أن التخلص من الدعم، ولو بصورة متدرجة، سيكون الوسيلة المُثلى لتحقيق نتائج فعالة وسريعة وكبيرة في خفض هذه الانبعاثات.
- لم تبلغ ضراوة الحملة الموجهة ضد الوقود الأحفوري، لا سيما النفط والفحم، ذروتها بعد، ومع ذلك فقد وضعتهما تحت مجهر الاستهداف الشرس، سواء في أجهزة الاعلام العالمية أو في تصريحات كبار مسؤولي الدول العظمى المستوردة للنفط، أو تقارير المنظمات الدولية المتخصصة، باعتبارهما تحديداً، أي النفط والفحم، المسؤولين الرئيسيين عن تعاظم الانبعاثات. وهذا ما ستترتب عليه ضغوط هائلة لتهميشهما في ميزان الاستهلاك العالمي من مصادر الطاقة المختلفة.
أُنشئت منظمة التجارة العالمية (World Trade Organization – WTO) على أنقاض الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية (GATT) لعام 1947، وهي المؤسسة الأممية الحصرية التي تمثل النظام التجاري العالمي الجديد.وهذه المنظمة التي تضم غالبية أعضاء الأسرة الدولية (153 دولة)، معنية أساساً بتحرير التجارة العالمية في السلع والخدمات وما يتفرع عنهما مثل الاستثمار المتصل بالتجارة وحقـوق الملكية الفكـرية والمشتريات الحكومية. ولذلك فإن موضوع تغير المناخ لم يكن ضمن نطاق تفويضها ونطاق عملها، وإن كان الاتفاق لإنشاء منظمة التجارة العالمية قد أكد على أهمية الربط بين التنمية المستدامة وبين ضوابط تحرير التجارة من أجل ضمان أن يكون انفتاح الأسواق متماشياً مع الأهداف البيئية والاجتماعية.
ولكن، وبما أن موضوع التغير المناخي قد فرض نفسه على رأس الأجندات العالمية، فقد كان لا بد وأن تحاول الدول الغربية إقحامه في المفاوضات متعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية من أجل زيادة الضغط على الدول النامية لكي تسلم بمبدأ الخفض الجماعي للانبعاثات كأمر واقع، وذلك من خلال العمل على إزالة المعوقات التي تعترض التجارة العالمية في السلع والخدمات بما ينعكس إيجاباً على البيئة. ذلك أن تسهيل الوصول إلى هذه السلع والخدمات (المصنفة على أنها منتجات بيئية) من خلال خفض أو إلغاء التعرفات الجمركية المفروضة عليها سوف يسهم – بحسب رأي الدول الأوروبية المتحمسة لهذا الربط بين التجارة وبين التغير المناخي – في رفع كفاءة استخدام الطاقة وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتحسين نوعية الهواء والماء والأرض والمحافظة على الموارد الطبيعية، فضلاً عن تحفيز وتسريع وتيرة الابتكارات والمخترعات التكنولوجية في المجالات والأنشطة المتصلة بحماية البيئة. حتى أن البنك الدولي أعد دراسة خصيصاً لهذا الربط (بين التجارة والبيئة والتغير المناخي) خلص فيها إلى أن إلغاء القيود الكمية (التعرفات الجمركية) وغير الكمية، من شأنه أن يزيد قيمة التجارة الدولية بنسبة 14%. وتشمل المنتجات المعنية هنا المحركات الهوائية والمحركات الكهرومائية، وسخانات المياه الشمسية وخزانات إنتاج الغاز الحيوي ونحوها، إضافة إلى الخدمات البيئية مثل حماية الطبيعة والغطاء الأخضر وخدمات مراقبة الانبعاثات الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري. وقد تقدم كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بمقترحين منفصلين في ديسمبر 2007 يتضمنان قوائم للسلع والخدمات التي وصفاها بأنها صديقة للمناخ، وهي تشكل حوالي ثلث السلع والخدمات البيئية الجاري التباحث بشأنها في أروقة المنظمة.[8]
كما توجد محاولات جادة وقوية من قبل الأطراف الغربية في منظمة التجارة العالمية لإدراج قطاع إنتاج واستهلاك الوقود الحيوي في جولة الدوحة من المفاوضات، والخاصة بالنفاذ إلى أسواق السلع الزراعية وغير الزراعية. كما أنها تدفع باتجاه جعل لجنة المعوقات الفنية المتصلة بالتجارة المنبثقة عن اتفاقية المعوقات الفنية المتصلة بالتجارة (Agreement on Technical Barriers to Trade)، إطاراً ملائماً لمناقشة الأنظمة والضوابط التي يمكن أن تتخذها الدول الأعضاء في المنظمة للتعامل مع قضية التغير المناخي، على اعتبار أن هذه الاتفاقية تشتمل على ضوابط لتجنب أي معوقات غير ضرورية للتجارة وانسيابيتها. وناقشت إحدى لجان المنظمة، بإيعاز من الدول الغربية الأعضاء، المعايير والمقاييس المطلوبة فيما يتعلق بمنتجات كفاءة استخدام الطاقة والتحكم في مستوى الانبعاثات مثل معايير الوقود الاقتصادي للسيارة، ومتطلبات البيئة للمنتجات المستخدمة في الطاقة، وبرامج كفاءة الطاقة للمنتجات الاستهلاكية، وحدود انبعاثات محركات الديزل.
ومن أجل إحداث الربط بين التجارة والبيئة، فقد نجحت الدول الغربية في إنشاء آليات تواصل واتصال بين سكرتارية منظمة التجارة العالمية وبين سكرتاريات الاتفاقيات البيئية متعددة الأطراف(Multilateral Environmental Agreements Secretariats)، وبين سكـرتارية منظمـة التجـارة العالمية وسكرتارية اتفاقيـة الأمم المتحدة الإطارية لتغير المنـاخ، وذلك بدعوة ممثلـي سكرتـارية الاتفاقية لحضـور اجتماعات لجنـة منظمة التجـارة العالمية للتجـارة والبيئة (CTE).وتعتبر لجنة التجارة والبيئة بمثابة الحاضنة للأفكار والاقتراحات لإحراز التقدم المستهدف على الأجندة التجارية والبيئية، وبوابة العبور لأي ربط محتمل بين التجارة والتغير المناخي ترغب الدول الأعضاء في المنظمة في التطرق إليه.
من جانبها، تعمل دول المجلس على تنسيق مواقفها بأكبر قدر ممكن من الإحكام والإتقان من أجل عدم الخلط بين التكليفات المختلفة للهيئات والمنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، وبالتالي العمل على كبح اندفاع بعض الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، لاسيما الدول الأوروبية والولايات المتحدة، نحو مزيد من الزج بمواضيع التغير المناخي في جداول أعمال ومفاوضات منظمة التجارة العالمية الجارية. و ذلك من خلال أطرها المتخصصة والفاعلة في مجال تنسيق ومتابعة كافة الأمور المتعلقة بمنظمة التجارة العالمية، مثل لجنة منظمة التجارة العالمية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وفريق مجلس التعاون لشئون الطاقة في المنظمة ،واتفاقيات التجارة الحرة.
ولكن، نظراً للشوط الكبير الذي قطعته الدول الأوروبية والولايات المتحدة في جهودها الرامية إلى تمرير وإدماج موضوع التغير المناخي في قنوات التفاوض المختلفة لمنظمة التجارة العالمية وجعله أمراً واقعاً، فقد كان لا بد لدول مجلس التعاون التعامل مع هذا الواقع اضطراراً، رغم أن القبول بمبدأ التفاوض هنا ينطوي ضمناً على اعتراف صريح بأحقية وتفويضية منظمة التجارة العالمية للدخول على خط موضوع التغير المناخي.
ميزان القوى التفاوضي داخل اللجان والأطر، التي نجح الطرفان الأوروبي والأمريكي في إنشائها، مختل بشكل واضح لصالح الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي تتوفر على أطقم تفاوضية مؤهلة ومدربة ومكرسة خصيصاً لمتابعة مواضيع التجارة والبيئة، والآن التجارة وتغير المناخ، وهي دول تحرص أشد الحرص على التواجد القوي والدائم في كافة اجتماعات هذه اللجان وفعالياتها الجانبية. هذا بالإضافة إلى تأثير هذه الدول الواضح على بقية الدول الأعضاء المنتمية إلى عضوية هذه اللجان، حيث تتمتع الدول الأوروبية والولايات المتحدة بسطوة المساعدات المالية والفنية على ممثلي هذه الدول النامية.
التحدي الذي يطرحه مثل هذا الاصرار على إدراج مواضيع البيئة وتغير المناخ ضمن اختصاصات منظمة التجارة العالمية يتمثل في المغزى الذي يحمله مثل هذا الإصرار بالنسبة لتصنيف السلع مستقبلاً وتمييزها على أساس مدى صداقتها للبيئة من عدمها. وهو أمر باشرت فيه المنظمة بالفعل، وقد ينتهي الى اعتبار النفط الخام والمنتجات النفطية، سيما ذات القيمة المضافة العالية الموجهة للتصدير مثل الديزل والكيروسين ووقود الطائرات.
هذا بالإضافة الى ما ستحمله إعادة فتح ملفات تحرير مختلف قطاعات البترول والخدمات البترولية وفتحها تحت آلية “النفاذ الى الأسواق” (market access) و”المعاملة الوطنية” (national treatment) أمام المنافسة الأجنبية، خصوصاً بعد أن أصبح لدى الدول الأوروبية والولايات المتحدة متسع من الوقت – بعد إقرار اتفاق تغير المناخ في باريس – لإعادة بعث وتنشيط مسارات التفاوض في منظمة التجارة العالمية، بهدف كسب المزيد من حصة الاسواق لصادراتها السلعية والخدمية، ولاستثماراتها المباشرة وغير المباشرة.
وقد يكون لدى منظمة الأقطار المصدرة للنفط “أوبك من الإمكانيات ومن الأسباب ما يدعوها لتشكيل فرق تفاوض إسنادية متخصصة في أعمال اللجان المختلفة في المنظمة، خصوصاً الموضوعات المتصلة بالطاقة، ومن ضمنها مواضيع البيئة والتغير المناخي، وذلك على النحو الذي تفعله الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، اللذان يتعاملان مع المنظمة وهيئاتها بكل حِرفية من أجل الدفاع عن مصالحهما، إلا أن هذا لم يتبلور فعلياً على أرض الواقع بعد.
فرض ضريبة على النفط الخام
وبالإضافة الى مفاوضات التجارة العالمية، فكانت هناك محاولة اخرى للحد من الآثار البيئية المترتبة من إنتاج النفط، وذلك عبر تقديم فكرة ربط الإنتاج بضريبة. ففي عام 2011، تقدمت الاكوادور الى سكرتارية اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ بمقترح يقضي بأن يأتي تمويل برامج التكيف أساساً من مصادر التمويل الحكومية للدول المتقدمة الى الدول النامية، وأن يتم فرض ضريبة على مبيعات النفط الخام المصدَّر الى الدول المتقدمة من أجل تمويل صندوق المناخ الأخضر (Green Climate Fund – GCF) ، والذي تم الإعلان عن إنشائه في مؤتمر الأطراف السادس عشر في كنكون بالمكسيك عام 2010، والمفترض رصد 100 مليار دولار له سنويا بحلول عام 2020. وبتحديد أكثر، يدعو المقترح الاكوادوري الى إنشاء آليات مبتكرة على شاكلة ضريبة دالي-كوريا (Daly-Correa Tax)، وفرض ضريبة على العمليات المالية واعتماد آلية صافي الانبعاثات التي يمكن تفاديها (Net Avoided Emissions Mechanism).[9] تعود فكرة فرض ضريبة على مبيعات النفط الخام الى عام 2001، حين اقترحها كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي هيرمان دالي (Herman Daly) قبل أن يتبنّاها في عام 2007 رئيس الاكوادور رافائيل كوريا (Rafael Correa) بعد أن عُرِض هذا المقترح عليه وعلى وزيره للتخطيط فاندر فالكوني من قبل الاقتصادي المتخصص في قضايا البيئة وتغير المناخ البروفيسور جوان مراتينيز أليرحيث(Joan Martinez Allier) . اكتسبت الفكرة فيما بعد مسماها المعروف ذريبة داي – كوريا (Daly – Correa Tax) .
تفاجأت دول الاعضاء في الاوبك بهذا المقترح الإكوادوري الذي لا يخدم مصالح المنظمة، خصوصاً وأن الإكوادور عضو في أوبك. في الواقع، فإن المقترح الإكوادوري يعبر عن رؤية طاقم العمل البيئي داخل الحكومة الإكوادورية الذي يُرجِّح، كما هو بائن، البعد البيئي على بعد النمو الاقتصادي البحت. وعلى أية حال فإن المقترح لم يلقَ آذانا صاغية لدى الدول المتقدمة، فضلاً عن بقية الدول النفطية الأعضاء في اتفاقية الامم المتحد الاطارية لتغير المناخ. ولكن قد يستمر ذلك إلى حين وحسب، فهنالك تصورات عملية لدى العديد من البلدان النافذة في الاقتصاد العالمي، تدور حول فكرة فرض ضريبة على النفط الخام، سواء على وارداته أو استهلاكه في المصب النهائي.
وقد قامت الوفود التفاوضية الأوروبية، على مدار أيام انعقاد مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين لتغير المناخ الذي عُقد في باريس في نهاية عام 2015، على إجبار المؤتمر على تضمين الاتفاقية نصاً يشير الى إنشاء سوق عالمية لتداول شهادات انبعاثات الكربون. ورغم مقاومة الدول البترولية المشاركة في المؤتمر لهذا المسعى، والتي أبدت موافقتها على انشاء أسواق وطنية طوعية لتداول هذه الشهادات وليس سوقاً عالمية، إلا أن التحالف الأوروبي-الأمريكي نجح في تمريرها ولو بصورة مخففة، وذلك توطئة لفرضها في مفاوضات لاحقة وربما في مؤتمر تغير المناخ القادم والمزمع عقده في مدينة مراكش المغربية في شهر نوفمبر 2016.
مصير النفط في اتفاق باريس لتغير المناخ
ولقد كان الوقود الأحفوري مستهدفاً تاريخياً من قبل كبريات الدول الصناعية المسؤولة عن حجم تركيز انبعاثات غازات الدفيئة، وتخصيصاً البلدان الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، منذ الجولة الأولى من المفاوضات الدولية المتعددة الأطراف لوضع صياغة اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (UNFCCC) في عام 1992 وما تلاها من مفاوضات لإبرام بروتوكولها التنفيذي الذي تم في مدينة كيوتو اليابانية في عام 1997. ولكن نفوذ الدول المصدرة للبترول، من داخل وخارج أوبك، بالإضافة إلى تركيز الدول النامية المؤتلفة في مجموعة الـ77 زائد الصين على تثبيت المسؤولية التاريخية للدول الصناعية المتقدمة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، وإلزامها هي وحدها بدفع ثمن الإثراء والرفاه الاقتصادي والاجتماعي الذي تنعم به منذ الثورة الصناعية وما نتج عن ذلك من أضرار بيئية ومناخية كارثية، قد حال دون نجاح ضغوط الدول الأوروبية خصوصاً لإدارج الدول البترولية ضمن قائمة الدول الملزمة بتحمل قسط من مسؤولية خفض الانبعاثات.
ولكــن سرعان ما بدأت تتهاوى اعتراضات الدول المصدرة للبترول شـــيئاً فشيئاً مع كل انعقــــاد سنوي لمؤتمر أطـــراف اتفاقية الأمــــم المتحدة الإطارية لتغــــير المناخ وأطـــــراف بروتوكول كيوتو، وصولاً الى المؤتمــــر الأخــــير وهو مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين، والذي حضره مؤلف هذه الورقة. ففي كل مؤتمـــــر من هذه المؤتمرات كانت ضغـــــوط الدول المستوردة والمستهلكة للنفط، وخصوصا الدول الأوروبية، تدفع باتجاه تجاوز أحد أهم بنود اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ والذي ينص على “المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة” للدول في تحمل مسؤولية خفض الانبعاثات وذلك بهدف إنشاء التزامات جديدة بصورة متساوية بين الدول المتقدمة والدول النامية. وحين يحصل ذلك سوف يتعين على الدول المنتجة للنفط اتخاذ تدابير وطنية للحد من انبعاثاتها، بما في ذلك سن تشريعات وضوابط صارمة من شأنها تضييق الخناق على قطاعاتها البترولية وزيادة تكاليفها الإنتاجية، الأمر الذي سيؤدي إلى تخفيض درجة تنافسيتها التسويقية، خاصة تنافسيتها السوقية الخارجية.
شهد المؤتمر مشاركة 150 من رؤساء الدول والحكومات، منها رؤساء الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند. ومع أن القضية المكرس لمناقشتها وإيجاد الحلول العالمية لها هي ظاهرة تغير المناخ في العالم، إلا أنه في جوهره مؤتمر اقتصادي عالمي بامتياز، من حيث تعلقه مباشرة بطريقة اقتسام وتوزيع الكلفة الاقتصادية العالمية الناتجة عن المشكلة على الدول المشاركة في المؤتمر الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ. ونظرا للتكلفة الباهظة لهذه العملية، ولأن إنجازها سوف يستغرق كل العقود الثمانية المتبقية من القرن الحالي، في حال التزام كافة دول العالم بلا استثناء بتنفيذ التزاماتها، فإن هذه القضية قد غدت أكبر بؤرة للصراع بين الدول المتقدمة والدول النامية.
كان هذا المؤتمر مكرس لإبرام اتفاق جديد لحل محل بروتوكول كيوتو، وقد جرى التفاوض عليه لمدة اربع سنوات (من أواخر عام 2011). لذلك حشدت الولايات المتحدة، التي رفضت الانضمام الى البروتوكول، ومعها الاتحاد الأوروبي، قواهما الذاتية ونفوذهما على مجموعة كبيرة من الدول النامية، من أجل انهاء الإعفاء من الالتزامات بخفض الانبعاثات الذي تمتعت به الدول النامية في بروتوكول كيوتو. وعلى مدار أسبوعين من المفاوضات الشاقة، أنجز الاتفاق، والذي يُتوقع ان يؤثر على مسار العلاقات الدولية على المدى المتوسط والبعيد، لا سيما للدول العربية البترولية. وهو أمر بالغ الخطورة، إذا لم تنجح دول الخليج في استغلال فسحة الوقت المتاح أمامها حتى عام 2030 بتجاوز الواقع الراهن لنماذجها الاقتصادية التي تعتمد على تصدير سلعة واحدة، وهي النفط. وقد يكون تشبيهه بالحال الذي أضحى عليه اقتصاد الخليج بعد أن نجح اليابانيون في بداية القرن العشرين في تجاربهم الخاصة بزراعة اللؤلؤ الذي أُطلق عليه اللؤلؤ الصناعي وما ترتب منه من اندثار صناعة اللؤلؤ، عصب اقتصاد الخليج في تلك الفترة.
وتُلزم الاتفاقية الجديدة جميع الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، الغنية والفقيرة (الدول المتقدمة والدول النامية) على حد سواء، بخفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون. كما تطالَب الدول بتقديم تقرير حول خفض الانبعاثات كل خمس سنوات الى سكرتارية الاتفاقية، كما تتضمن الاتفاقية أهدافاً كمية طموحة لحجم ونسبة الخفض، وإن أخذت بعض ظروف الاقتصادية للدول النامية بعين الاعتبار. ولما كان مصدر غاز ثاني أكسيد الكربون هو الوقود الأحفوري الذي يشمل النفط (الى جانب الفحم والغاز)، فإن خفض الانبعاثات سيترتب عليه تقليص الاستهلاك من النفط وبالتالي تقليص الطلب عليه. بل وفي مرحلة لاحقة، تأمل الاتفاقية بأن يفضي ذلك إلى الابتعاد عنه كلياً، وإحلال مصادر الطاقة المتجددة، لا سيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، محله.
وخلافاً لبروتوكول كيوتو لعام 1997، فإن اتفاقية باريس لتغير المناخ، التي ستحل محل البروتوكول كأداة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، تُلزم الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء باتخاذ اجراءات لخفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري من خلال ما تسمى “مساهمتها الوطنية المعتزمة والمحددة” (Intended Nationally Determined Contribution – INDC)، التي يجب أن تشتمل على خفض كمي منسوب إلى سنة أساس (base year)، وأن تكون معلوماتها شفافة وخاضعة للفحص والتدقيق، وأن يتم تحديث هذه البلاغات الوطنية كل خمس سنوات للوقوف على التقدم الذي تحرزه الدول الأطراف في الاتفاقية في مجال خفض الانبعاثات بهدف التأكد من تحقيق الهدف الوارد في المادة الثانية من اتفاقية باريس، والمتمثل في ارتفاع درجة حرارة الكوكب الأرضي بأقل من درجتين مئويتين أو درجة نصف كما تطمح لذلك أطراف الاتفاقية.
من الواضح أن الدول الأوروبية سوف تقود بحماسها الجهود الدولية لخفض الانبعاثات. ففي أكثر من مناسبة دعا كبار مسؤوليها، ومنهم على سبيل المثال الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، الاقتصادي والدبلوماسي جوزيه آنخيل غوريا (Jose Angel Gurria) الذي دعا في يناير 2014 في منتدى دافوس باسم 24 من كبريات الدول المتقدمة، الى تحقيق هدف صفر انبعاثات من الوقود الأحفوري (النفط والفحم أساساً) في النصف الثاني من القرن الحالي. ولتحقيق ذلك تقترح منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فرض ضريبة على انبعاثات الكربون عبر نظام لتجارة الانبعاثات (Emission Trading System – ETS)، وهو ما شرعت في تطبيقه فعلا أكثر من 40 دولة، وكذلك إعادة النظر في الدعم المالي الذي يخصص لدعم الوقود الأحفوري، والتي تتراوح قيمتها في بلدان المنظمة بين 55-90 مليار دولار سنوياً، إضافة الى الدعم الذي يتلقاها الوقود الأحفوري في الدول النامية والدول الصاعدة والتي يقدرها وكالة الطاقة الدولية بحوالي 544 مليار دولار سنويا.[10]
كما قامت الأمم المتحدة بالإعلان، باسم مجموعة من الشركات المتطوعة، عن خطة عمل بمعايير مسؤولية تجاه الجهد الدولي لمواجهة مخاطر تغير المناخ حملت اسم “مبادرة الاهتمام بالمناخ” (Caring for Climate Initiative)، بما يجعل من هذه الشركات المتطوعة رائدة في السوق منخفض الكربون المستقبلي. وهي مبادرة تندرج في إطار استراتيجية المنظمة الدولية لإلزام الشركات بالمواءمة بين عملياتها واستراتيجياتها وبين المبادئ العالمية العشرة المتوافق عليها في الميثاق العالمي للأمم المتحدة (UN Global Compact)، المبادرة المكرسة لاستقطاب الشركات من مختلف أنحاء العالم لتحمل مسؤولياتها تجاه مجموعة مؤشرات التنمية المستدامة في مجالات حقوق الانسان والعمل والبيئة ومكافحة الفساد، وذلك بهدف جذب قطاعات الأعمال، باعتبارها المحرك الأساس للعولمة، للمساهمة في جعل الأسواق والتجارة والتكنولوجيا والتمويل تتقدم في اتجاه يعود بالفائدة على جميع الاقتصادات والمجتمعات العالمية. وقد تطوعت أكثر من 12,000 شركة ومؤسسة من أكثر من 145 بلداً للمشاركة في هذه المبادرة والعمل على تطبيق مبادئها العشرة. تتضمن تلك المبادرة 5 استراتيجيات هي على النحو التالي:
- تسعير انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقاربة اقتصادية فعالة تحاكي تحدي تغير المناخ.
- إحلال الطاقة المتجددة بديلاً: فمع تواصل انخفاض أسعار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، تتلاشى أسباب التمسك بمصادر الطاقة غير المتجددة، ويقصد بها النفط والفحم والغاز تحديداً. والآن وقد أصبحت أسعار المصدرين، الطاقة التقليدية والطاقة المتجددة، متقاربة، بحسب زعم الأمم المتحدة صاحبة المبادرة، فإن بعض الشركات أخذت عهداً على نفسها بتوليد 100% من طاقتها باستخدام الطاقة المتجددة.
- الاستثمار في التقنيات النظيفة: فلقد ارتفع هذا الاستثمار بأكثر من 300 مليار دولار خلال العقد الأخير، حيث اكتشفت الشركات هذه الفرصة الاستثمارية الواعدة فراحت تستثمر في التكنولوجيات، وفي المنتجات والخدمات ذات الطبيعة المستدامة، وفي المباني الذكية مناخياً، وفي إجراءات تخزين الطاقة وكفاءتها.
- اظهار التأييد عمليا لسياسات مكافحة تغير المناخ: وهنا يتعين على الشركات أن تنسق وتتعاون مع الحكومات لتحديد سبل خفض الانبعاثات والمحافظة على الموارد الطبيعية. فمن شأن مثل هذه الجهود المشتركة أن تشجع على النمو (الاقتصادي) منخفض الكربون.
- وضــــع أهــــداف مؤسسة علمياً وقابلة للتبني: بغـــض النظر عن الحجم أو القطـــــاع أو الموقع، فإن كل أنشطــــة قطاعات الأعمال يمكن أن تبدأ وتشارك لتكــــون جزءاً من حل مشاكل تغير المناخ. ولقد بـــادر عــــدد صغير من الشركات باتخاذ خطوات لوضع أهداف بعيـــــدة المدى لخفض غازات الاحتباس الحراري وذلك وفقاً لما اقتضتـــــه المشورة العلمية التي تســديها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ(IPCC) لسكرتارية اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (UNFCCC)، حيث تقوم هذه الشركات بأعمال رصد وقياس وتقرير الانبعاثات سنوياً.[11]
كيف تواجه دول المجلس هذه الضغوط؟
كل ما تقدم يتمحور ويتكثف حول المأزق الحقيقي الذي ستجد دول المجلس نفسها فيه خلال المستقبل المنظور، فكل الدلائل والمؤشرات تدل بأن عصر الوقود الأحفوري وبضمنه النفط، قد بدأ يتحول الى طور الأفول، كسلعة تتمتع بجاذبية الشراء خارج أسواقها المحلية. الاستثناء الجدير بالملاحظة والتنويه في هذا الجانب هو تجربة دولة الامارات العربية المتحدة، التي تميزت بفتح مسارات جديدة في قطاع الطاقة الجديدة، متمثلا في الطاقة النووية التي من المفترض ان يتم تدشين أُولى محطاتها لإنتاج الكهرباء بحلول عام 2017، لتتبعها بثلاثة مفاعلات نووية أخرى سيتم تشغيلها في عام 2020 لتنتج طاقه كهربائية اجمالية تعادل 5,600 ميجاوات، وكذلك الطاقات المتجددة، حيث وضعت إمارة أبوظبي لنفسها هدف تأمين 7% من حاجاتها من الكهرباء بواسطة الطاقات المتجددة بحلول العام 2020. فيما تهدف إمارة دبي إلى بلوغ نسبة 5% من الطاقات المتجددة بحلول عام 2030. كما بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة عدداً من مشاريع ومحطات الطاقة المتجددة، أبرزها مدينة “مصدر”، التي من المفترض ان تعمل منشآتها بالطاقة الشمسية، ومشروع محطة شمس 1 للطاقة الشمسيّة المركزة الذي دشن في شهر مارس من عام 2015 لإنتاج 100 ميغاواط من الطاقة الكهربائية النظيفة، والذي من المفترض ان يكفي لإمداد 20 ألف منزل في مختلف مناطق البلاد.[12]
لقد قرأت دولة الإمارات العربية المتحدة تحديات الطاقة واستدامتها مبكراً نسبياً قياساً ببقية دول المجلس، التي أبقت نفسها أسيرة موقفها الدفاعي عن الموقع المكتسب تاريخياً وتراكمياً لسلعة النفط، من دون أن ترفد هذا الموقف بتحرك موازٍ على صعيد مصادر الطاقة الأخرى. لذلك فإن دولة الإمارات العربية هي الدولة الخليجية الوحيدة التي ضمنت بثقة عرضها “المساهمة الوطنية المعتزمة والمحددة” هدفاً كمياً لخفض انبعاثاتها، وهو رفع نسبة مساهمة الطاقات الجديدة والمتجددة في إجمالي مزيج طاقتها من 0.2% حاليا الى 24% بحلول عام 2021. لذا، فالإمارات متفائلة، على ما هو واضح، إلى تشغيل أول مفاعلاتها النووية في عام 2017، والذي من المخطط ان يتلوه بناء ثلاثة مفاعلات تعمل بالماء الخفيف لكل محطة بحلول عام 2020، حيث كانت الإمارات قد تعاقدت بشأنهما نهاية عام 2009 مع اتحاد شركات كورية جنوبية تقوده مؤسسة “كيبكو”، إضافة الى عقود أخرى بقيمة 20 مليار دولار أخرى لتشغيل وصيانة وتزويد وقود مفاعلات نووية خلال 60 عاماً من التشغيل.[13] وعلى المدى البعيد، تخطط دولة الإمارات لبناء المزيد من محطات الطاقة النووية لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية في دولة الإمارات، فضلاً عن بدءها في إنشاء البنية التحتية للطاقات المتجددة، لاسيما الطاقة الشمسية، من مرافق ومؤسسات تنظيمية وشركات تشغيل وإدارة مشاريع هذه المصادر المتجددة من الطاقة. إضافة الى ذلك، فتخطط إمارة أبوظبي لزيادة مساهمة الطاقة الشمسية إلى 7% من مزيجها من الطاقة بحلول عام 2020، في حين تخطط إمارة دبي إلى تحقيق زيادة مقدارها 5% بحلول عام 2030. وقد وضع المجلس الأعلى للطاقة في دبي خطة تهدف إلى إقامة مزيج من الطاقة المتنوعة بحلول عام 2030 بتوليد 71% من الطاقة من الغاز الطبيعي و12% من الطاقة النووية و12% من الفحم النظيف و5% من الطاقة الشمسية، وخفض الطلب على الطاقة بنسبة 30%. يُذكر بأن مساهمة الطاقة الشمسية تساهم حاليا بأقل من نسبة 1% من إجمالي إنتاج الكهرباء في الإمارات العربية المتحدة.[14]
في الجهة المقابلة، تبقى مملكة البحرين في وضع قد يكون الأصعب على مستوى الخليج من ناحية حشد الطاقات والقدرات اللازمة لتأمين أمن واستدامة الطاقة، خصوصاً وإن احتياطيات الغاز لديها، والموجهة كلياً لتأمين احتياجات الداخل، عرضة للنضوب في غضون ربع القرن القادم بحسبان معدلات الاستهلاك السارية على الغاز ونمو الطلب عليه. ولذلك تخطط المملكة لاستيراد الغاز من الخارج. وقد شرعت بالفعل في التعاقد لإنشاء مرافق استقبال ناقلات الغاز الطبيعي المسال، الأمر الذي سيؤدي إلى رفع الكلفة الإنتاجية ليس لقطاع الطاقة وحسب وإنما، وبالتداعي، كافة قطاعات الاقتصاد.
لذا لابد لدول مجلس التعاون من التحرك بسرعة، فوراً ومن دون إبطاء، لإحداث تحول نوعي في نموذجها التنموي الحالي. على دول المجلس أن تقوم بعملية “تحوير” رئيسية في تركيبة خطوط إنتاج صناعاتها النفطية، بحيث تحول جزء كبير من إنتاجها النفطي الخام الى مصافيها – التي يجب العمل سريعا على رفع طاقاتها التكريرية – لإنتاج منتجات بترولية ذات قيمة مضافة عالية أقل نفثاً للانبعاثات بحيث تكون قابلة للتصدير.
وقبل ذلك يتعين مسابقة الوقت للقيام برفع الطاقات التكريرية للمصافي الخليجية بالاستعانة بأحدث أنواع التكنولوجيا التي يمكن التعويل عليها في انتاج منتجات بترولية نظيفة ملتزمة بأكثر المعايير البيئية العالمية صرامةً. والتحرك لوضع الخطط الطارئة لكيفية وأوجه توجيه “الجزء المعطل” من النفط الخام، غير القابل للتصدير، سواء بسبب متطلبات التوافق مع المعايير البيئية العالمية أو ضيق مساحة أسواق تصريفه تنافسياً، في دولاب الاقتصادات الوطنية الخليجية.
هذه، على ما نزعم، هي المقاربة المطلوبة في الخليج في الزمن الراهن لتحقيق اختراق نوعي في الهياكل التقليدية للاقتصادات الخليجية، لمقابلة تحديات الاستدامة وأمن الطاقة المستقبلي: فرق عمل ابتكارية عالية الكفاءة والمهارة مع صناديق دعم مالية متخصصة ومكرسة حصراً لهذا التوجه الاستثماري طويل الأجل.
https://e-services.dewa.gov.ae/arabic/newshist/details.aspx?id=0256903800000000000000002569038