سياسة أكثر، تجارة أقل: واقع العلاقات الاقتصادية الإيرانية-الروسية وآفاقها

  • يُبيّن الواقع التجاري المدعوم بعشرات الزيارات الرسمية، والاتفاقات الاقتصادية والجمركية، أن حجم التبادل التجاري بين إيران وروسيا لم يتجاوز في أفضل الحالات 5 مليارات دولار، وأن حصة الصادرات الإيرانية إلى روسيا من هذا الحجم لم تتجاوز 1.7 مليار دولار فقط.
  • ظلّ التركيز الإيراني في العلاقات الاقتصادية مع روسيا، محصوراً بشكل كبير على الزيارات التي تتم على مستوى القطاع الحكومي، دون إيلاء الاهتمام الكافي للقطاع الخاص، وتفعيل زياراته، ممّا أدى إلى عدم تحقيق نتائج ملموسة على مستوى حجم التبادل التجاري.
  • تواجه البضائع الإيرانية المصدرة إلى روسيا مشكلات عديدة، مثل: ضعف التسويق، والأسعار المرتفعة، والتأخر المستمر في توفرها، وتدهور الجودة مقارنة بالبضائع القادمة من بلدان أخرى؛ ممّا أدى إلى تراجُع قدرتها التنافسية في الأسواق الروسية.
  • العلاقات التجارية بين إيران وروسيا لا تبدو قادرة على تحقيق قفزة كبيرة على الرغم من الشعارات الطموحة التي يعلنها الجانب الإيراني رسمياً، إذْ لا تزال الأولوية لدى إيران في العلاقة مع روسيا تُركّز على الجوانب العسكرية والجيوسياسية.

 

تبدو الزيارة الثانية التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى العاصمة الروسية موسكو في السابع من ديسمبر الماضي 2023، أفضل حالاً من زيارته الأولى في يناير 2021 على صعيد الترحيب الروسي على الأقلّ. وكانت العلاقات التجارية على رأس الأجندة التي ناقشها الرئيسان الإيراني والروسي خلال الزيارة الأخيرة إلى جانب تبادل وجهات النظر بشأن الملفات الإقليمية، والشؤون السياسية والأمنية. وركَّز الجانبان على مناقشة الشؤون التجارية والاقتصادية، وبحث مجالات الاستثمار، وتسيير شؤون الممرّ الشمالي-الجنوبي.

 

السِّياق

كانت الزيارة الأولى لإبراهيم رئيسي إلى موسكو قد واجهت انتقادات واسعة في إيران، بسبب سوء سلوك السفير الإيراني والفريق الدبلوماسي التابع للحكومة الإيرانية، وبسبب الترحيب البارد الذي أبداه الجانب الروسي بالرئيس الإيراني، وجلوس الرئيسين على مائدة طويلة تفصل بينهما. وكان تأكيد المتحدث باسم الكرملين على عدم إصدار بيان ختامي، وعدم إقامة لقاء صحافي مشترك في ختام اجتماع الرئيسين دليلاً آخر على عدم اهتمام الجانب الروسي بزيارة الرئيس الإيراني إلى موسكو.

 

أما هذه المرة، فبدا اللقاء دافئاً على الأقلّ من الناحية الشكليّة، حيثُ جلس الرئيسان إبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين متجاورين، وظهر بينهما حديثٌ ودّي، وامتدّ اللقاء بينهما، لأكثر من خمس ساعات بحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين، ودعا الرئيس الروسي نظيره الإيراني إلى عشاء عمل، حضره من الجانب الروسي: وزير الدفاع سيرغي شويغو، ووزير الطرق السابق ومساعد الرئيس الروسي الراهن، وممثله الخاص في مجال الممر الشمالي الجنوبي، إيغور ليفيتين.

 

وخلال اللقاء أشار الرئيس الروسي إلى أنه رغم دخوله الأجواء الإيرانية خلال عودته من جولة إلى دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية، فإنه لم ينزل في طهران لإجراء لقاء مع نظيره الإيراني لعلمه أن هذا الأخير راغب في الذهاب إلى موسكو في اليوم نفسه، لكن هذا الحديث فسَّره بعض المراقبين بأنه يدل على أن موسكو تولي اهتماماً أكبر لعلاقاتها مع هذين البلدين الخليجيين، مقارنة بعلاقاتها مع طهران، وأن الجانب الإيراني فشل في إقناع الرئيس الروسي بزيارة طهران، ليلجأ إلى طلب زيارة موسكو، الأمر الذي يُرجِّح توجُّه روسيا للاستثمار في علاقاتها التجارية والأمنية والسياسية مع دول الخليج العربية بشكل أكبر من علاقاتها مع إيران.

 

وحَمَلَ حديث الرئيس الروسي عن ارتفاع مستوى التبادل التجاري بين البلدين بنحو 20% فقط، إشارة لاذعة إلى المستوى المنخفض من التبادل التجاري بين الدولتين. ويمكن اعتبار هذه الإشارة، دلالة على قناعة موسكو بأن الجانب الإيراني لا يريد تطبيق برنامج اقتصادي استراتيجي طويل المدى، بمقدار ما يريد استغلال اللقاءات، والعضوية في المنظمات الدولية، لأغراضه السياسية. وفي هذا الإطار، دعت موسكو إيران إلى تطبيق التمهيدات الضرورية لتنمية العلاقات بين البلدين، سواء على صعيد القوانين الجمركية أو على صعيد العضوية في الاتفاقيات، مُطالبةً طهران بأن تقدم برنامج عملها لتنمية الحضور الإيراني في الأسواق الروسية.

 

مكانة إيران في السوق الروسية، وأطر التعاون المُتعدّد الأطراف

يُبيّن الواقع التجاري المدعوم بعشرات الزيارات الرسمية، والاتفاقات الاقتصادية والجمركية، أن حجم التبادل التجاري بين البلدين لم يتجاوز في أفضل الحالات 5 مليارات دولار. وأن حصة الصادرات الإيرانية إلى موسكو من هذا الحجم لم تتجاوز 1.7 مليار دولار، وهو رقم ضئيل إذا ما قورن بحجم الدعاية الإيرانية عن أهمية العلاقات مع الحليف الروسي. وأكد رئيسي خلال زيارته الأولى إلى موسكو في الأشهر الأولى من تسلُّمه منصب رئاسة الجمهورية، بأن البلدين يرغبان في رفع مستوى التبادل التجاري بينهما إلى 15 مليار دولار. لكنّ العامين اللذين أعقبا هذا الحديث، واللذين تخللهما العديد من الاتفاقات في ضوء العقوبات المفروضة على روسيا، لم يشهدا إلا ارتفاعاً من 4 مليارات إلى 5 مليارات دولار، في حين لم ترتفع الصادرات الإيرانية إلى روسيا، إلا بنحو 600 مليون دولار خلال هذه الفترة، مستقرة عند 1.7 مليار دولار من واقع 1.1 مليار في 2021.

 

في المقابل، تميز التبادل التجاري بين روسيا والإمارات، على سبيل المثال، بارتفاع سنوي يصل إلى 68% في عام 2022؛ حيث بلغت قيمته 9 مليارات دولار، في حين شهد هذا التبادل زيادة بنسبة 109% خلال عام 2023، ممّا يبرز أن إيران لم تتمكن من الوصول إلى حصة بارزة في الأسواق الروسية على الرغم من الجهود الرسمية المبذولة.

 

ووصل التبادل التجاري بين إيران، وأعضاء الاتحاد الأوروآسيوي في عام 2022 ، وفقاً للإحصاءات الجمركية الإيرانية، حوالي 4.2 مليار دولار، تمثلها 8 ملايين طن منتجات متنوعة، تتألف من 650 صنفاً، تفرض عليها القوانين الجمركية للاتحاد رسوماً جمركية بنسبة صفر. وكانت قيمة صادرات إيران إلى روسيا ضمن إطار الاتحاد الأورآسيوي تبلغ 532 مليون دولار، بينما استقرت الواردات الإيرانية من روسيا في نفس السياق عند 3 مليارات دولار. وهذا يظهر تفوق الصادرات الروسية إلى إيران مقارنةً بالواردات.

 

وضمن إطار “منظمة شنغهاي للتعاون”، أكدت الجمارك الإيرانية أن طهران نفذت عمليات تجارية بلغت حجمها 37 مليون طن بقيمة 21 مليار دولار مع أعضاء المنظمة. وأبرزت الصين نفسها في القمة بقيمة تصل إلى 7 مليارات دولار من الصادرات والواردات، بينما استقرت التبادلات التجارية مع موسكو في إطار هذه المنظمة عند 440 مليون دولار.

 

وفي سياق منظمة بريكس، زعمت طهران تحقيق تبادل تجاري بقيمة 25 مليار دولار مع الأعضاء؛ حيث بلغت قيمة التجارة السلعية حوالي 9 مليارات دولار. واحتلت موسكو المرتبة الثالثة في هذا التبادل بعد الصين والهند. ومع ذلك، تبدو الأرقام في هذا السياق غير واقعية عند مقارنتها بالأرقام الرسمية الأخرى؛ حيث تشير البيانات الرسمية إلى أن إيران ضمَّنت بلدان غير عضوة في “بريكس” في قائمتها للتبادل التجاري مع أعضاء “بريكس”، في محاولة منها -على ما يبدو- لإبراز نجاح انضمامها إلى المنظمات الدولية.

 

وعلى الرغم من مرور 23 عاماً على إطلاق مشروع ممرّ الشمال-الجنوب الروسي، الذي يجعل من إيران نقطة مركزية في هذا الممر، فإن طهران لم تتمكن من تحقيق التقدم اللازم للاستفادة من هذه الفرصة التجارية والسياسية الضخمة. ونتج بعض هذا التأخير عن خلافات داخليّة بين محافظات إيران، حول دورها المركزي في هذا المشروع. وحاولت طهران مؤخراً إقناع الجانب الهندي بالاستثمار في مشروع تشابهار بوصفها محطة ضمن ممرّ الشمال-الجنوب، لكنّ الجانب الهندي فقد الاهتمام بالمشروع بعد فترة وجيزة من بداية انخراطه فيه، نتيجة مشكلات تقنية، وتأثيرات ناجمة عن العقوبات المفروضة على إيران. حيثُ أعاقت العقوبات جهود حلّ مشكلات البنية التحتية الإيرانية في مجال النقل. وبعد مرور 20 عاماً على المواقف الرسمية التي تؤكّد استعداد الجانب الإيراني لحل هذه الصعوبات، لم تُحل العقدة بشكل كامل.

 

وأدّى استمرار المشكلات والعقبات التي تواجه تنفيذ المشروع عبر الأراضي الإيرانية إلى تعثُّر هذا المشروع لأكثر من عقدين. وأدّى هذا التعثر أيضاً إلى إحباط الدور الإيراني في مشاريع أخرى، مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، حيث كانت إيران مُرشحة لأداء دور أساسيٍّ فيها.

 

لماذا تعجز إيران عن تطوير تعاونها الاقتصادي الجانب الروسي؟

يمكنُ إحالة إخفاق إيران في تحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة من التعاون مع الجانب الروسي برغم التقارب السياسي والعسكري الواضح بين البلدين إلى عدة أسباب، منها:

 

  1. حقيقة أنّ الاهتمام الإيراني الرئيس في علاقاتها مع روسيا، ينصبُّ على الجوانب العسكرية والجيوسياسية، والأمنيّة.
  2. حقيقة أنّ الساحة السياسية الإيرانية، في معظمها تُفضل التعاون الاقتصادي مع الغرب، وهذه الاتجاهات كان لها نشاط واسع عبر العقود المختلفة، وتسللت إلى المشهد الرسمي الإيراني. حيثُ قامت بنشر حملات دعائية سلبية حول الوجود الروسي في إيران، تهدف إلى عرقلة أية محاولات للانفتاح الاقتصادي على روسيا. وأثّرت هذه الجهود سلباً في الجهود الرسمية المبذولة للوصول إلى الأسواق الروسية.
  3. حقيقة وضع إيران في القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF)، والقيود التي يفرضها هذا الوضع على التبادل النقدي الروسي مع البنوك الإيرانية. فالفرع الروسي للبنك الوطني الإيراني (الذي يعمل في موسكو تحت اسم MIR Business Bank) وجد صعوبات في تطوير العلاقات النقدية بين البلدين نظراً لهذه القيود.
  4. حقيقة افتقاد طهران لبرنامج عمل استراتيجي، لتنظيم علاقاتها التجارية مع موسكو، وتفتقد كذلك إلى تعيين قائمة محدّدة من الأهداف الاستراتيجية، من وراء وجودها في الأسواق الروسية.
  5. حقيقة ضعف البنية التحتية الإيرانية، خاصة في مجال الموانئ، والشحن البحري، وشبكات السكك الحديدية. بالإضافة إلى كثرة العقبات الجمركية؛ سواء على صعيد القوانين، أو البنية التحتية الجمركية، أو نقص السفن، والشاحنات. وأسهمت جميع تلك النواقص في عرقلة تطوير التجارة بين البلدين.
  6. تُعاني المنتجات الزراعية الإيرانية في كثير من الأحيان، من قلة المطابقة لمعايير السلامة الدوليّة، ويشمل ذلك: ضعف معايير المواد الكيميائية، والتعبئة، والشحن مقارنةً بالمعايير العالمية. وينعكس هذا الوضع سلباً على استقبال الجمارك الروسيّة للمنتجات الإيرانية.
  7. تواجه البضائع الإيرانية المصدرة إلى روسيا مشكلات عديدة، مثل: الأسعار المرتفعة، والتأخر المستمر في توفرها، وتدهور الجودة، مقارنة بالبضائع القادمة من بلدان أخرى. كما تعاني من ضعف في عمليات التسويق؛ ممّا أدى إلى تراجُع قدرتها التنافسية في الأسواق الروسية، مقارنة بالبضائع العالمية الأخرى.
  8. ظلّ التركيز الإيراني في العلاقات الاقتصادية مع روسيا، محصوراً بشكل كبير على الزيارات التي تتم على مستوى القطاع الحكومي، دون إيلاء الاهتمام الكافي للقطاع الخاص، وتفعيل زياراته، ممّا أدى إلى عدم جدوى تلك الزيارات، وعدم تحقيقها نتائج ملموسة على مستوى حجم التبادل التجاري. ويبدو أن الجانب الحكومي الإيراني أيضاً لم يكن فعّالاً بشكل كافٍ خلال السنوات الأخيرة؛ حيث ركز بشكل أساسي على خطوات سياسية، وأيديولوجية استعراضية، وشهد ضعفاً في الأداء العملي. وكان التركيز مُنصبّاً أيضاً على الدعاية للأيديولوجية الشيعية، وتعزيز الحضور السياسي والعقائدي بين الجاليات المسلمة في روسيا، ممّا أثر سلباً في نجاح الجهود التجارية والتبادل الاقتصادي.

 

ويدفعنا مجموع هذه الأسباب، إلى جانب أسباب أخرى، للاعتقاد بأن حجم التبادل التجاري بين البلدين، لن يشهد قفزة لافتة في المستقبل القريب، على الرغم من توقيع إيران اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأرو-آسيوي، تلغي الضريبة الجمركية عن 7500 سلعة، وعلى الرغم من التقارب السياسي الحاصل بين البلدين.

 

أفق التبادل التجاري بين إيران وروسيا على المدى القصير

أكَّد الجانب الإيراني خلال زيارة إبراهيمي رئيسي الأولى إلى موسكو في عام 2021، أنه يهدف إلى تنمية العلاقات الاقتصادية مع موسكو، وبلوغ التبادل التجاري نحو 15 مليار دولار، لكن المؤشرات أظهرت فشل إيران في تحقيق هذا الهدف الطموح الذي يبدو أن طُرِح لأسبابٍ دعائية صرف. ولهذا، فإن الهدف الجديد الذي أعلنته إيران خلال زيارة رئيسي الأخيرة إلى روسيا، وهو رفع التبادل التجاري بين البلدين إلى مستوى 30 مليار دولار، يبدو أيضاً هدفاً طموحاً، ولا يخلو من الدعاية السياسية، إذ لا تُشير الأرقام والبيانات المتوافرة إلى أن لدى إيران برنامج عمل واقعي لتحقيق هذا الهدف. وربما تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية في علاقتها مع روسيا، أكثر من المكاسب الاقتصادية؛ حيث تستخدم بعض الأرقام الاقتصادية لجذب انتباه موسكو، أو لتحقيق أهداف سياسية محددة، من دون وجود خطط عمليّة واقعيّة لتحقيق الأهداف الاقتصادية المتوخاة.

 

وتبعاً لذلك، فإن العلاقات التجارية بين البلدين لا تبدو قادرة على تحقيق قفزة كبيرة على الرغم من الشعارات الطموحة التي يعلنها الجانب الإيراني رسمياً، إذْ لا تزال الأولوية لدى إيران في العلاقة مع روسيا تُركّز على الجوانب العسكرية والجيوسياسية. وفي مجال العلاقات الثقافية والاجتماعية البينيّة، ينصبّ التركيز الإيراني على الوجود والتأثير في صفوف الجاليات المسلمة الروسيّة، ومحاولة نشر المذهب الشيعي بين هذه الجاليات التي تنتمي أغلبيتها العظمى للطائفة السنية، ويبدو أن موسكو لا تعارض هذا المسار من منطلق رغبتها بتنويع الانتماءات الطائفية للجاليات المسلمة الروسية. وهكذا يبدو أن للوجود الإيراني في روسيا محرّكات عدة لا يتصدّرها الاقتصاد، بل السياسة والثقافة والأيديولوجيا والأمن. ومن الممكن أن تتقاطع النتائج السلبية المحتملة لهذه الجهود الأيديولوجية، مع الرؤى السلبية التي يروّج لها التوجه الغربي بخصوص التقارب مع روسيا في المشهد السياسي والاقتصادي الإيراني، ممّا يقلل من الآفاق المتوقعة لنمو العلاقات التجارية بين البلدين في المستقبل المنظور.

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/waqie-alalaqat-alaiqtisadia-al-irania-alruwsia-wafaquha

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M