تعتبر السياسة العسكرية لجيش التحرير الشعبي الصيني بمثابة صندوق أسود حتى بالنسبة لأكثر المحللين العسكريين احتكاكاً بملف العسكرية الصينية، ويمكن الإشارة إلى أن السياسيات العصية على الفهم مستمرة منذ فترة طويلة وكان الأقرب منها تعيين ما يعرف بجنرال العقوبات وزيرًا للدفاع ثم اختفائه بعد أشهر على تولي منصبه حتى تمت إقالته مؤخرًا بشكل رسمي وتعيين وزير جديد.
ومؤخرًا تفاقمت حالة عدم الشفافية في إقالة مسؤولين كبار أحدهم قائد القوة الصاروخية لجيش التحرير الصيني وهو السلاح الذي بدا أنه يثير اللغط لدى شي حسب العديد من التحليلات الغربية.
التغيير الأخير شمل استبدال القائد السابق لجيش التحرير الشعبي الصيني، الجنرال لي شانغفو، بالأدميرال دونغ والمفارقة هنا أن الأدميرال دونغ ليس لديه خبرة واضحة في الأسلحة النووية أو الصواريخ الباليستية وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذي دفع أمانة الحزب الحاكم للدفع به لتولي المنصب نظرًا لما يثار حول عمق حالة الفساد الضاربة في القوة الصاروخية الصينية. ولفهم هذه الحالة تنبغي الإشارة بداية للملابسات المتعلقة باختفاء وزير الدفاع السابق:
لماذا اختفى جنرال العقوبات
تشير الأوضاع الحالية إلى أن عملية التغير داخل الجيش الصيني قد تكون بدأت منذ أغسطس الماضي على أقل تقدير حينما اختفى وزير الدفاع الصيني، الجنرال لي شانغفو، وفي ذلك التوقيت كانت هناك تنبؤات واسعة النطاق بأن لي قد خضع للتحقيق بتهمة الفساد المرتبط بمنصبه في الفترة 2017-2022 كرئيس لإدارة تطوير المعدات في جيش التحرير الشعبي وهي المسؤولة عن شراء الأسلحة الصاروخية وتطويرها وما تشي به التحقيقات حتى الآن هو أن الجنرال اشترى أسلحة صاروخية منخفضة المستوى أو حتى معيبة وأن الأمر غير متعلق بحال من الأحوال بشبهة خيانة تم فيها تسريب أسرار نووية عبر مسؤولين في القوة الصاروخية لمسؤولين أمريكيين لأنه أمر صعب أن يمرر في ظل الطبيعة الغامضة والمنعزلة للبيروقراطية الصينية.
كما أن السبب الأساسي في تطهير وزارة الدفاع الصينية من عناصر الفساد يرجع إلى رغبة الرئيس الصيني شي جين بينج والذي وصل إلى ولايته الثالثة في تحويل جيش التحرير الشعبي الصيني إلى قوة مقاتلة عالمية من الطراز الأول.
من الدوافع الأخرى للرئيس الصيني مسألة أن وجود جنرال العقوبات الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لشرائه أسلحة من روسيا كان عائقًا أساسيًا أمام المباحثات المباشرة بين الجيشين الصيني والأمريكي عن طريق التقاء الوزيرين وهو ما يعد من المهام الأساسية لوزير جيش التحرير الشعبي الصيني حيث أن منصبه لا يعد من أقوى المناصب السيادية، فالوزير يعمل كمسؤول الاتصال الخارجي الرئيسي لجيش التحرير الشعبي، ويلتقي بالوفود العسكرية الزائرة ويعرض وجهات نظر الصين في منتديات عسكرية.
الإطاحة بالجنرالات
ومما يؤكد النظرة السابقة والخاصة بالرغبة في تحويل الجيش الصيني إلى قوة عالمية ضاربة أن مسألة الإقالات لم تتوقف عند جنرال العقوبات فقط وفي الأيام الأخيرة أقال الحزب الشيوعي تسعة جنرالات في قوة الدفاع الصاروخية الصينية وثلاثة مسؤولين من شركات أحدهم هو رئيس مجلس إدارة الشركة الصينية لعلوم وتكنولوجيا الفضاء كما تعمل الشركات الثلاث في تطوير الصواريخ وغيرها من المعدات العسكرية. حيث عرفت الإقالات الأخيرة بمذبحة الجنرالات وتشير إلى أن هناك حالة من التغير في ديناميكيات القوة في الصين.
وعموماً فإنه حتى الآن ليس من المفهوم آثار هذه الترتيبات الجديدة وذلك على مستوى الأفراد المعنيين بالشأن السياسي أو العسكري في الصين إلا أنها توحي بتغير في موازين القوى.
خصوصًا أن هذا التطور جزءًا من السياق الأوسع للسياسة الصينية، حيث يمكن أن تعكس التغييرات في الجنرالات تحولات في اتجاهات السياسة، أو التحالفات داخل الحزب الشيوعي الصيني، أو الاستجابات للتحديات الداخلية والخارجية وهذا إذا ما عرفنا بأن المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، يعد موطنًا لممثلي جيش التحرير الشعبي من جميع الأجنحة العسكرية، حيث يشكلون جزءا كبيرا من أعضائه البالغ عددهم 2996 عضوا ولذلك فإن إقالتهم تؤكد فكرة تغير موازين القوى داخل المجلس.
على الجانب الآخر فإن هذه التغيرات السريعة في وزارة هامة كوزارة الدفاع يوحي على المدى القصير بأن الأمور تسير عكس رغبة الرئيس الصيني، حيث أن هذا التطهير الهائل قد يضعف جيش التحرير الشعبي ويحتمل أن يؤثر على فعاليته.
نهج متبع
حيث جردت اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب، البرلمان الصيني، وزير الخارجية السابق تشين قانغ من رتبته كمستشار للدولة، أو عضو في مجلس الوزراء، بعد ثلاثة أشهر من إقالته في أعقاب غياب مماثل لغياب وزير الدفاع السابق عن الرأي العام.
ومنذ ذلك الحين، غاب عن سلسلة من الاجتماعات الدبلوماسية رفيعة المستوى في الداخل والخارج، بما في ذلك اجتماع لوزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في جاكرتا في وقت سابق وكان أيضاً غائباً بشكل واضح عن اجتماع المندوبين الأجانب رفيعي المستوى في بكين، بمن فيهم هنري كيسنجر، وزيارة نادرة لنائب وزير الاقتصاد الأوكراني.
وعلى الرغم من أن الصين كانت قد قالت في وقت سابق إن غياب تشين يرجع إلى أسباب صحية، فإن ذلك لم يفسر اختفاء الوزير السابق من جدول الشؤون الخارجية للصين بشكل كامل، لا سيما أنه كان في قلب عملية دبلوماسية مهمة بين الولايات المتحدة والصين قبل فترة قصيرة من اختفائه، الأمر الذي أثار الكثير من التكهنات بشأن وزير خارجية دولة معروفة بغموضها السياسي وفي وقت حرج تضمن رغبة صينية في توطيد علاقاتها الدبلوماسية بعد الوباء.
وكان وزير الخارجية السابق تشين قد اختفى في ظروف غامضة في يونيو وتم استبداله رسميًا كوزير بعد شهر حيث استعاد وزير الخارجية السابق وكبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، منصبه مجددًا.
لماذا وقع الاختيار على وزير الدفاع الحالي
كما سبقت الإشارة فإن كون الوزير الذي تمت تسميته لا ينتمي للقوة الصاروخية لتي تشوبها وقائع الفساد، شكل عاملًا أساسيًا في تسمية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي له إلا أن هذا لا يعد العامل الوحيد.
فالصين التي تحرص على توطيد علاقاتها مع روسيا على المستوى العسكري وإن كان الأمر لم يصل بعد لمرحلة التحالف الأمني الاستراتيجي كان من الطبيعي أن تسمي الوزير الحالي لحقيبة الدفاع لأن الأدميرال دونغ كان منخرطًا منذ فترة طويلة مع روسيا. وقد قاد تدريبات سابقة بين الصين وروسيا في البحر الأبيض المتوسط وغرب المحيط الهادئ. ومؤخرًا، في يوليو 2023، استضاف دونغ قائد البحرية الروسية، الأدميرال نيكولاي يفمينوف، لمناقشة التعاون المحتمل في التدريب البحري وبناء السفن.
عامل محفز آخر على تسمية دونغ هو رغبة الرئيس الصيني في أن تكون البحرية الصينية رائدة خصوصًا مع تصاعد أزمة تايوان بشكل مضطرد، وهناك مؤشرات لا تحصى على أن دونغ قادر على تطوير البنية التحتية مع القدرة على بناء السفن وتوسيع مخزون بكين من الغواصات النووية. ويبدو أن الأدميرال يتمتع بالخبرة والإنجازات والتركيز اللازمين لقيادة تطوير جيش التحرير الشعبي في الحرب تحت سطح البحر، بما في ذلك دمج المركبات غير المأهولة تحت الماء وتطوير فئات جديدة من الغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية.
من جانب آخر تأتي ترقية دونغ في وقت حساس، حيث تكثف بكين ضغوطها العسكرية على جزيرة تايوان التي تتمتع بالحكم الذاتي قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في تايوان بعد أسابيع. كما يؤكد هذا الاختيار على أن بكين لازالت تعتبر بحر الصين الجنوبي منطقة نفوذ استراتيجي لها وأنها لن تترك الأمر سائغًا لواشنطن لتغييره بسهولة.
ختامًا، يتناسب الاختيار غير المعتاد لضابط بحري مع تحول طويل الأمد نحو إعطاء الأولوية للقوة البحرية، والتي تعتبرها الصين ضرورية لتحقيق التفوق العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتأكيد مطالباتها السيادية على تايوان. هذا من جانب- ومن جانب آخر- فإنه من المتوقع أن يمضي الأدميرال دونغ، باعتباره الوجه العام الجديد لجيش التحرير الشعبي، قدمًا في تجديد الحوار العسكري بين الصين والولايات المتحدة، لكن في نفس الوقت فإنه من غير المرجح أن تتغير أساسيات العلاقة بشكل كبير.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80378/