حسين عبد الراضي
أعلن الجيش الليبي تصديه لخلية تتبع تنظيم “داعش” الإرهابي في منطقة غدوة جنوب شرق البلاد، في سياق حملة وحدات القيادة العامة لملاحقة المجموعات الإرهابية بالجنوب، بعد نحو أسبوع من هجوم بسيارة مفخخة شنته عناصر التنظيم ضد معسكر تابع لقوات الجيش، في منطقة أم الأرانب جنوب غرب ليبيا. وتشير تلك الأحداث المتلاحقة إلى تصاعد خطورة أنشطة التنظيمات الإرهابية بالجنوب الليبي، ومحاولات خلاياها تكثيف هجماتها ضد قوات الجيش الوطني في ظل تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية، وهو ما يسعى هذا المقال إلى بحث أطره وسياقاته وتداعياته على الأزمة الليبية.
محاور التصعيد
في ضوء المتغيرات الحادثة على صعيد قدرات وبنك أهداف التنظيمات الإرهابية في ليبيا، يمكن الوقوف على عدد من المحاور الرئيسية التي تعمل الخلايا الإرهابية كمسارات حاكمة لتصعيد هجماتها، ومن أبرزها:
أولًا- تركيز النشاط بالجنوب الليبي: تركز التنظيمات الإرهابية هجماتها وأنشطتها بالمنطقة الجنوبية (فزان)، وهو تحرك معتمد منذ طرد خلايا تنظيم “داعش” من مدينة سرت عام 2016، إلا أنها واظبت على استهداف مدن الشرق والغرب بهجمات متفرقة خلال السنوات الماضية، كالهجوم على مبنى مفوضية الانتخابات (مايو 2018)، ثم وزارة الخارجية (ديسمبر 2018)، والهجوم الانتحاري قرب فندق البعثة الأممية بالعاصمة (سبتمبر 2020)، بالإضافة للهجوم على مسجد بيعة الرضوان في مدينة بنغازي (يناير 2018)، والهجوم على مقبرة الهواري بذات المدينة (يوليو 2019).
ويلاحظ تكثيف التنظيمات الإرهابية نشاطها بالجنوب الليبي خلال العامين الماضيين بصورة واضحة؛ حيث تكررت الهجمات الانتحارية ضد الارتكازات الأمنية بمدن الجنوب جليًا، مثل الهجوم على بوابة “مفرق المازق” شمال مدينة سبها (يونيو 2021)، ثم تبني تنظيم “داعش” تفجير عبوة ناسفة في منطقة أم الأرانب واستهداف دورية للجيش في بلدية القطرون (يناير 2022)، وغيرها من العمليات والهجمات الإرهابية الأخرى، وصولًا للهجوم الأخير على معسكر الجيش بأم الأرانب (إبريل الجاري). وتجدر الإشارة إلى نشر تنظيم “داعش” بعد هذا الهجوم صورًا لعناصره في الجنوب الليبي (27 إبريل الجاري)، لتوجيه رسالة مفادها أن لديه وجودًا ونشاطًا في ليبيا بشكل عام، وفي تلك المنطقة بشكل خاص.
ثانيًا- استهداف قوات الجيش الوطني: تعكس هجمات الخلايا الإرهابية في ليبيا توجيه عملياتها ضد ارتكازات ودوريات الجيش الوطني المنتشرة بالمنطقة؛ كونها القوة النظامية التي تعمل على مواجهة نشاطها وتستهدف ملاذاتها الآمنة، فضلًا عما أسفرت عنه ملاحقات كتائب القيادة العامة من ضبط وتصفية العديد من قيادات التنظيمات الإرهابية بالجنوب خلال الأشهر الماضية. وقد أسفرت جهود الجيش الوطني عن مقتل أمير تنظيم “داعش” الإرهابي في ليبيا المدعو “أبو عبد الله الليبي” (سبتمبر 2020)، واعتقال الإرهابي “علي الحسناوي” القيادي بتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” في الشهر ذاته، والقضاء على الخلية الإرهابية التي سيطرت على منطقة جبل عصيدة بمدينة القطرون (يناير الماضي)، ناهيك عن تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية بمدن الجنوب مثل سبها وأوباري.
لذلك؛ تأتي هجمات داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية الفاعلة بالجنوب الليبي، مستهدفة قوات الجيش الوطني للانتقام والثأر ورد الاعتبار بعد الخسائر التي تكبدها التنظيم، ومحاولةً لإظهار القدرة على المناورة والتحرك في أكثر من منطقة بالجنوب، وهو ما تؤكده محاولة الانتقال التي نفذتها المجموعات الإرهابية، التي شاركت بالهجوم على معسكر الجيش في أم الأرانب بالجنوب الغربي، إلى منطقة غدوة بالجنوب الشرقي في توقيت زمني قصير.
ثالثًا- اعتماد تكتيكات مرحلية: فيما تواصل التنظيمات الإرهابية ذات التكتيكات لاستهداف قوات الجيش الوطني بالجنوب، مثل الاعتماد على السيارات المفخخة والعناصر الانتحارية والعبوات الناسفة؛ تشير الهجمات الأخيرة -وما ورد بشأنها من تقارير- إلى تبلور نسق من التكتيكات المرحلية في إدارة أنشطتها، ويتصل بالأساس في تشكيل تحالفات وتنسيقات بين التنظيمات الإرهابية عبر الحدود؛ لتوفير الملاذات الآمنة والدعم اللوجيستي لخلاياها النائمة بمدن الجنوب، بالإضافة لاشتمال هذا التنسيق على توفير قدرات نوعية لمواجهة الملاحقات التي تشنها قوات الجيش الوطني، وهو ما أكدته بيانات القيادة العامة حول تنسيقها مع دول الجوار بشأن تلك الخلايا، وما تم ضبطه مع الخلية التي تمت محاصرتها بمنطقة غدوة.
سياقات محفزة
يشكل المشهد الليبي الراهن، على اختلاف أبعاده ومستويات تأزمه، مزيجًا مثاليًا لإعادة إنتاج خطر التنظيمات الإرهابية، ونشير تاليًا للعوامل التي مثلت سياقًا محفزًا للظاهرة الإرهابية في الميدان الليبي، ومنها:
أولًا- عودة الانقسام السياسي: قاد الانسداد السياسي، ناهيك عن تصاعد الاستقطاب بين حكومتي “باشاغا” و”الدبيبة”، لإشغال مؤسسات الدولة الليبية عن الخطر الكامن جنوبًا، والمتمثل في الخلايا والتنظيمات الإرهابية المتمركزة بالصحاري الليبية الشاسعة. فأصبح أغلب التركيز، الدولي والإقليمي والداخلي، منصبًا على صياغة خارطة انتقال سياسي جديدة، وإدارة أعمال المؤسسات الاقتصادية والمالية، كالمصرف المركزي وعوائد النفط، وهو ما أفرز انقسامًا حادًا وتباينًا لافتًا، وعزز من مخاطر العودة إلى مربع الصراع المسلح مرة أخرى، كما عطل أعمال القطاعات الحيوية بالدولة، لا سيما بإغلاق العديد من الحقول والموانئ النفطية بالأسابيع الماضية، وتجدد الاقتتال والمواجهات المسلحة بين المليشيات في عدة مدن بغرب ليبيا.
ثانيًا- هشاشة القدرات الأمنية-العسكرية: أفضى الانقسام والصراع المتصاعد على السلطة إلى تقويض قدرات المؤسسات الأمنية-العسكرية المنوطة بمكافحة الإرهاب والتطرف في ليبيا، ويتصل ذلك بتجميد رواتب ضباط القيادة العامة ومخصصاتها المالية، ومساعي الدبيبة لتوظيف جهود مكافحة الإرهاب لتعزيز موقفه السياسي، وهو ما حدث حين نسب عملية القضاء على الخلية الإرهابية في مدينة القطرون لحكومته، فيما خرج الجيش الوطني ببيان يستنكر تصريحات الدبيبة وينفي صحتها. بالإضافة لاستمرار حظر التسليح عن الجيش الليبي منذ عام 2011، وهو ما يعرقل فاعلية التصدي للعناصر الإرهابية المالكة لتقنيات وقدرات نوعية حديثة، ويقيد عمليات التنسيق الأمني بين دول الجوار مع القوات الليبية المنوطة بجهود مكافحة الإرهاب.
ثالثًا- تأزم الأوضاع الإنسانية-الاقتصادية: أعاد الانقسام السياسي وهشاشة القدرات الأمنية إنتاج حالة الضعف العام بأدوار المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية بالدولة، وهو ما فاقم من حدة الأزمة الإنسانية والاقتصادية التي يعاني منها الليبيون بشكل عام، ومدن الجنوب بشكل خاص. مما يعيد إقليم فزان مجددًا كواجهة وبيئة حاضنة لنشاط “الفواعل الهجينة” بين التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، لتستثمر تلك الفواعل الانفلات المُزمن للأوضاع لاكتساب روابط وعلاقات وتنسيقات تعزز من تأثيرها وقدرتها على العمل بتلك المدن والمناطق المهمشة، وتستغل هذا المشهد لتصعد من وجودها ونفوذها بالساحة الليبية.
وإجمالًا، يمكن القول إن تصاعد الظاهرة الإرهابية في ليبيا مؤخرًا لا ينفصل عن التأزم والتعقيد المتصاعدة تداعياته على كافة الأوضاع، السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية، فتصدر الصراع السياسي واجهةَ التفاعلات -داخليًا وخارجيًا- أتاح للتنظيمات الإرهابية فرصة استغلال الأزمة بشكل كبير لإعادة تقديم نفسها كفاعل مؤثر بالميدان الليبي. وإذا ما لم تتم معالجة هذه الإشكالية بمنهجية موضوعية، فإن ليبيا ستكون مُرشحةً مرة أخرى لاحتضان العناصر الإرهابية الباحثة عن ساحة لإثبات الوجود وتحقيق السيطرة المكانية، وفي مراحل أكثر تقدمًا قد تكون ميدانًا لتدوير وانتقال التنظيمات من الملاحقات الأمنية والتنافسية القاعدية-الداعشية بدول الجوار، مما سيدخلها في دورة صراعية يصعب تجاوزها بالمستقبل المنظور.
.
رابط المصدر: