في خضم مشهد أمني مُركب وسياق إقليمي مضطرب، أعلن تحالف دول الساحل (مالي، النيجر، بوركينافاسو)، عن تأسيس قوة عسكرية مشتركة لمكافحة الإرهاب في 6 مارس 2024، باعتبارها تشكل نهجًا جديدًا للتعامل مع التحديات والتهديدات الأمنية غير المسبوقة، وتعزيز سياسات الأمن والدفاع المشترك، في ظل تنامي ظاهرة الإرهاب، وتفاقم انعدام الأمن العابر للحدود الوطنية في إقليم الساحل الأفريقي ومنطقة غرب أفريقيا ككل.
أولًا: سياقات ودوافع مُحفزة
جاء قرار تحالف دول الساحل (Alliance of Sahel States – AES)، ممثلًا بالقادة العسكريين الجدد: العقيد “آسيمي جويتا” في مالي، والنقيب “إبراهيم تراوري” في بوركينافاسو، والجنرال “عبد الرحمن تشياني” في النيجر، بإنشاء قوة عسكرية مشتركة لتعزيز قدراتهم على مكافحة التهديدات الإرهابية، وضمان أمن المنطقة. ويمكن توضيح سياقات ودوافع هذا القرار على النحو التالي:
1- تصاعد وتيرة الهجمات والعمليات الإرهابية: قامت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) التابعة لتنظيم القاعدة، وتنظيمي داعش ولاية غرب أفريقيا (ISWAP)، وداعش ولاية الساحل (IS Sahel) المعروف سابقًا باسم داعش في الصحراء الكبرى (ISGS)، بعدة هجمات عشوائية ومتزامنة على القوات الحكومية والمدنيين على حد سواء، حيث استفادت هذه التنظيمات من حالة الفراغ الأمني بعد انسحاب قوات مكافحة الإرهاب، وانشغال الحكومات في إجراءات المراحل الانتقالية، ومواجهة التحديات الداخلية الأخرى، واستطاعت هذه التنظيمات تحقيق مكاسب نوعية لتوطيد نفوذها، واكتساب مساحات جديدة لتجنيد واختراق المجتمعات المحلية في البيئات المهمشة، حيث تمتلك هذه الدول مناطق وأراضي شاسعة غير محكومة والتي توفر ملاذات آمنة للجماعات الإرهابية.
وفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، تُمثل منطقة الساحل أكثر من نصف جميع الوفيات المرتبطة بالإرهاب في جميع أنحاء العالم، ويقع خمس من الدول العشر الأكثر تضررًا من الإرهاب في هذه المنطقة، حيث تعرضت دول منطقة الساحل الأوسط (مالي، النيجر، وبوركينافاسو) بشكل خاص لهجمات عنيفة؛ إذ شهدت بوركينافاسو زيادة بنسبة 68 % في عدد الوفيات خلال عام 2023، وتصدرت مؤشر الإرهاب للعام الثاني على التوالي، وتحملت منطقة شمال غرب بوركينافاسو المتاخمة لحدود النيجر ومالي، العبء الأكبر من النشاط الإرهابي، وتم تسجيل 1907 حالة وفاة في عام 2023، ولا تزال جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتكب الرئيسي للأعمال الإرهابية في البلاد، في ضوء ارتفاع وفيات الهجمات الإرهابية المنسوبة إلى التنظيم ما يقرب من خمسة أضعاف خلال عامي 2022 و2023، بمتوسط ما يقرب من 20 حالة وفاة لكل هجوم.
2- انسحاب قوات مكافحة الإرهاب: شهدت الفترة الأخيرة إعادة ترتيب وصياغة الأولويات والتحالفات المعنية بالمشهد الأمني والعسكري في منطقة الساحل، وكانت نقطة النهاية للنفوذ الفرنسي والأوروبي في تحالف دول الساحل، وتحديدًا بعد انتهاء انسحاب قوة برخان الفرنسية، وتاكوبا الأوروبية من مالي في نوفمبر 2022، كما ألغت بوركينافاسو والنيجر اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا في يناير وأغسطس من عام 2023 على التوالي، وأنهت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) مهامها بعد سنوات من التوترات والقيود الحكومية في مالي التي أعاقت عملياتها الجوية والبرية منذ انضمام قوات فاجنر في مالي عام 2021، بجانب القصور في أداء البعثة، وتداعيات التحقيق بمذبحة مورا في مارس 2022، ولذلك قرر مجلس الأمن الدولي إنهاء ولاية البعثة اعتبارًا من 30 يونيو 2023، ووقف عملياتها ونقل مهامها وسحب أفرادها بحلول 31 ديسمبر 2023، وانتهاء عملية الانسحاب الأخيرة في يناير 2024.
بالإضافة إلى ما سبق، انسحب كل من النيجر وبوركينافاسو، في 2 ديسمبر 2023، من مجموعة دول الساحل الخمس (G5) وجميع هيئاتها بما في ذلك القوة المشتركة للمجموعة (FC-G5S)، وانسحبت قبل ذلك مالي من هذه المجموعة في 15 مايو 2022، وأنهى المجلس العسكري في النيجر شراكته وعلاقاته الأمنية والعسكرية مع الاتحاد الأوروبي، وانسحبت بعثة الاتحاد الأوروبي لبناء القدرات (EUCAP)، ومهمة الشراكة العسكرية للاتحاد الأوروبي في النيجر (EUMPM) في ديسمبر 2023. إلى جانب انسحاب النيجر من الشراكة الأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة بإلغاء اتفاق التعاون العسكري بأثر فوري في 16 مارس 2024.
3- انسحاب تحالف دول الساحل من إيكواس: جاء قرار انسحاب تحالف دول الساحل من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في 28 يناير 2024، في خضم تطورات متسارعة وتحديات وأزمات غير مسبوقة لقضايا عدم الاستقرار السياسي، وانعدام الأمن، وتنامي ظاهرة الإرهاب، بدول منطقة الساحل الأفريقي عقب عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية، وتحديدًا ما أحدثه الانقلاب العسكري في النيجر من عدة تحولات في معادلة التوازنات الاستراتيجية، وخريطة التحالفات الجيوسياسية، وتشكيل سياسات المحاور والاصطفافات الإقليمية الجديدة.
سيخلق انسحاب الدول الثلاث من إيكواس ارتدادات سلبية على الجهود التعاونية القائمة لمعالجة القضايا الأمنية من حيث تبادل المعلومات الاستخبارية، والمشاركة في المبادرات الإقليمية لمكافحة الإرهاب مثل مبادرة أكرا الأمنية المكونة من دول (بنين، بوركينافاسو، كوت ديفوار “ساحل العاج”، غانا، وتوجو)، وقوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات (MNJTF) التي شكلتها الدول المجاورة في نطاق حوض بحيرة تشاد (نيجيريا، النيجر، تشاد، الكاميرون، وبنين).
4 – تعزيز مسار التحالف الدفاعي المشترك: يأتي قرار إنشاء قوة عسكرية مشتركة بين الدول الثلاث بهدف حشد الجهود والموارد الجماعية لمكافحة الإرهاب، ومُواجهة التهديدات الأمنية الأخرى في دول المنطقة، في ظل إدراك النخب العسكرية الجديدة ضرورة الاعتماد على القدرات المحلية وتخفيض الدعم الخارجي، والرغبة في التخلص من الهيمنة الغربية، في ظل سياسات الأبوية من قبل فرنسا، والتداعيات السلبية لسياسات “فرانس- أفريك”، حيث اتسمت العقود الماضية بالنفوذ الاقتصادي، والتدخلات السياسية والعسكرية، وإجبار هذه الدول على الشراكة معها بدلًا من شركاء آخرين. وما يُعزز من هذا التوجه حجم العمليات العسكرية المشتركة، والتنسيق الأمني والتطوير المعلوماتي، وما تم التوافق عليه في المفهوم العملياتي بين هذه الدول خلال الفترة الأخيرة، من أجل تحقيق الأهداف الأمنية والدفاعية لتحالف دول الساحل (AES) المعروف باسم ميثاق “ليبتاكو- غورما” الذي تم إنشاؤه في 16 سبتمبر 2023.
ثانيًا: تداعيات خطرة
ثمة مجموعة من التداعيات على قرار تشكيل القوة الجديدة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، ومنها احتمالية الاستعانة بقوات الفليق الأفريقي الجديد (فاجنر سابقًا)؛ إذ عملت موسكو على استغلال حالة الفراغ بعد انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية، وعززت علاقاتها مع النخب العسكرية من خلال تقديم الدعم العسكري، وتكثيف الزيارات الدبلوماسية المتبادلة، وقد بدأت في الدعوة إلى شراكة استراتيجية مشتركة وجهود دولية لمعالجة التداعيات الناجمة عن تفاقم انعدام الأمن بشكل جذري واعتماد قوة عسكرية متعددة الأطراف لمكافحة الإرهاب في أفريقيا، وخاصة في دول الساحل الأوسط، حيث دعا بيان رسمي للخارجية الروسية إلى إيجاد حلول مشتركة وأن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الجهود الدولية في منطقة الساحل الأفريقي، وتحديدًا بعد إلغاء المجلس العسكري الحاكم في النيجر اتفاق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة.
في هذا السياق، يمكن أن تعرض موسكو بيع أسلحتها ومعداتها دون نفس الشروط لاحترام حقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي الذي تدعو إليه الولايات المتحدة. وبالنسبة للنيجر التي تبحث عن إمدادات فورية من المعدات العسكرية، فإن موسكو قادرة على بيع أسلحتها بسرعة أكبر بكثير من الولايات المتحدة، في مقابل استفادتها من الموارد الطبيعية في النيجر بما في ذلك مناجم الذهب، ويتماشى هذا النهج مع إعلان روسيا عن إعادة هيكلة قوات فاجنر ودمجها في الفليق الأفريقي الجديد، ومن المقرر نشر قواته في عدد من الدول الأفريقية ومنها النيجر ومالي وبوركينافاسو وأفريقيا الوسطى.
وسيخلق انهيار الدعم الدولي، وتفكك الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب، فرصة لتمدد نفوذ الجماعات الإرهابية، في ظل حالة السيولة الأمنية في بؤر الإرهاب النشطة بمنطقتي ليبتاكو-غورما على حدود دول الساحل الأوسط، ونطاق حوض بحيرة تشاد (النيجر، نيجيريا، تشاد، والكاميرون)، وتظل منطقة الساحل وتحديدًا دولة النيجر نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى دول شمال أفريقيا ثم إلى أوروبا، لذلك تُنذر العمليات الإرهابية المتصاعدة من جانب هذه الجماعات، بزيادة معدلات الهجرة والنزوح. بالإضافة إلى ذلك، توجد مخاوف وتهديدات بالنسبة للدول الساحلية بخليج غينيا (توجو، بنين، غانا، وكوت ديفوار) من تمدد مخاطر “عدوى الإرهاب والاضطرابات السياسية” من منطقة الساحل، حيث تنشط الجماعات الإرهابية في المناطق الحدودية بين هذه الدول، وتعتبر هذه المنطقة فرصة كبيرة للجماعات الإرهابية لتعويض خسارتها في منطقة الشرق الأوسط.
ثالثًا: تحديات مُتشابكة
على الرغم من الأهداف والطموحات بشأن القوة الجديدة، لكن لم يتم تحديد ماهيتها من حيث الحجم وآليات وحدود التحرك والتدريب ومصادر التمويل، ويعتبر الحديث عن هذه القوة متكررًا في اجتماعات تحالف الدول الثلاث، وقد يكون مصير هذه القوة مثل القوة المشتركة لمجموعة الساحل الخمس التي عجزت عن تحقيق أهدافها وتفكك المجموعة بعد انسحاب الدول الثلاث منها.
تتمثل إحدى المشكلات الرئيسية التي تُواجهها دول الساحل أنها لا تمتلك أي أجهزة استخبارات داخلية أو خارجية، ولا قدرات قوية لمكافحة التجسس لتوقع الهجمات الإرهابية على أراضيها أو ضد سكانها، في ظل أهمية المعلومات الاستخباراتية في نجاح عمليات مكافحة الإرهاب، ولا يمكن محاربة الإرهاب من خلال العمليات العسكرية فحسب. في هذا الإطار، يحتل الجيش المالي المركز الثالث على مستوى جيوش غرب أفريقيا، ويصل حجم الإنفاق العسكري حوالي 591 مليون دولار، أما جيش بوركينافاسو فيأتي في المركز الخامس، ويصل حجم الإنفاق العسكري حوالي 440 مليون دولار. أما جيش النيجر فيعتبر أضعف جيوش غرب أفريقيا من ناحية التسليح، وفقًا لموقع Global Firepower، وعملت الدول الثلاث على تعزيز التعاون العسكري مع روسيا وتركيا من أجل شراء الأسلحة.
على جانب آخر، تختلف المتغيرات الداخلية في كل دولة، لكن تشهد المنطقة توسعًا في نشاط الجماعات الإرهابية، بجانب جماعات مختلطة من الفاعلين من دون الدول مثل: العصابات الإجرامية، والجماعات المسلحة والمتمردة، وتعمل كل هذه الفواعل على تقويض سلامة وأمن الدول الوطنية، وتؤجج الصراعات بين الجماعات الإثنية والطوائف والعرقيات المختلفة. بالإضافة إلى ارتباك وتشتت قوات الدول الثلاث في معالجة الأمن الداخلي، وأصبحت منطقة الحدود بين الدول الثلاث من أكثر المناطق رعبًا في العالم، وملاذًا آمنًا للجماعات الإرهابية، وأيضًا لمجموعة من شبكات الجريمة المنظمة الأخرى النشطة في مجال الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، وتهريب الأسلحة والمخدرات، في ظل وجود اتصالات بين التنظيمات الإرهابية وغيرها من شبكات الجريمة المنظمة العاملة في هذه المنطقة.
حاصل ما تقدم، يشهد إقليم الساحل تفاعلات معقدة وتقاربًا للتهديدات الأمنية من خلال تنامي التحالفات بين الجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية، والجماعات المتمردة، ويُفاقم هذا المشهد الأمني المركب من مخاطر انعدام الأمن الإقليمي والدولي، في ظل التحولات الجيوسياسة في معادلة توازنات القوى الإقليمية والدولية، والتحالفات الإقليمية الجديدة بين تحالف دول الساحل من أجل توحيد الرؤية المشتركة لمحاربة الإرهاب وتعزيز الأمن الإقليمي.
المصدر : https://ecss.com.eg/44899/