مني قشطة
في خضمّ الأزمة السياسية المُحتدمة التي يعيشها العراق في الآونة الأخيرة، يُواصل تنظيم “داعش” شن هجماته الدامية على الجغرافيا العراقية، مُستغلًا اشتعال الصراع الدائر بين الطبقة السياسية في البلاد، وإغفال بعض الجوانب الأمنية. وعلى الرغم من كثافة العمليات التي شنّتها القوات العراقية ضد معاقل التنظيم، إلا أن هذا لا يعني أن الأخير بات عاجزًا عن تنفيذ هجماته الإرهابية بين حين وآخر، والتي كان أحدثها هجوم عناصر التنظيم في 20 يوليو 2022 على نقطة للشرطة الاتحادية في منطقة الجلام في محافظة صلاح الدين شمال العاصمة بغداد، وأسفر الهجوم الذي استمر لنحو ساعة من الزمن عن مقتل 6 وإصابة 7 آخرين من عناصر الشرطة العراقية.
محفزات تنامي تهديد داعش في العراق
لا يمكن فصل استمرار تنظيم داعش في شن هجماته في الجغرافيا العراقية عن السياق العام الذي تعيشه البلاد، فضلًا عن بعض المتغيرات الإقليمية، إذ إن هذا السياق أوجد جملة من العوامل المحفزة لتنامي النشاط الإرهابي، ومن هذه العوامل:
• الاضطرابات السياسية: يحاول تنظيم داعش الاستثمار في الأزمة السياسية الراهنة التي يعيشها العراق والتي تتزايد حدتها يومًا تلو آخر. ذلك لأن استراتيجيات مكافحة الإرهاب تتأثر سلبًا –بلا شك- بالأوضاع السياسية المضطربة وحالة الجمود والتناحر السياسي، حيث تنصرف الكتل والفصائل المختلفة إلى صراعات التوازنات والمحاصصة الهادفة لتشكيل الحكومة المقبلة، والتي تنعكس على المؤسسات العسكرية والأمنية وتُضعف قدراتها على التنسيق الاستخباراتي، ووضع استراتيجيات متماسكة لمكافحة الإرهاب، بشكل يقلل من الضغوط الأمنية على تنظيم داعش ويمنح عناصره مساحة أكبر لحرية الحركة.
• استغلال حالة الفراغ والرخاوة الأمنية: تقع محافظة صلاح الدين -التي شهدت الهجوم الأخير- ضمن النطاق الجغرافي نفسه لعمليات تنظيم داعش خلال الأشهر الماضية والواقع على خطوط التماس بين إقليم كردستان والمحافظات العربية في صلاح الدين وديالى ونينوى وكركوك مستغلًا حالة الفراغ الأمني الذي خلفه تراجع مستوى التنسيق بين الفواعل الأمنية بما في ذلك القوات الحكومية العراقية ووحدات البيشمركة الكردية، والذي خلق منطقة خالية من الوجود العسكري تقدر بحوالي 40 كم عمقًا ونحو 20 كم طولًا، كنتيجة منطقية للنزاع بين حكومتي بغداد وأربيل الممتد بين منطقتي قضاء خانقين بمحافظة ديالى ومنطقة سحيلة بمحافظة دهوك على الحدود السورية. ومع غياب التوافق السياسي بين الأطراف المعنية يظل صعبًا ومستبعدًا حاليًا ملء الفراغ الأمني بما يعزز التوقعات بتنامي نشاط التنظيم.
• الرد على جهود القوات العراقية: تستمر هجمات داعش في العراق في إطار مسعى التنظيم للرد على الضربات التي توجهها قوات الأمن العراقية صوب عناصره، لا سيما في المناطق الجبلية التي تتسم بالوعورة والأودية العميقة التي ينشط بها التنظيم. حيث يأتي الهجوم الأخير بعد ساعات قليلة من إعلان خلية الإعلام الأمني التابعة للقوات العراقية المشتركة في 19 يوليو 2022 عن انطلاق المرحلة الرابعة من عملية “الإدارة الصلبة” لتعقب عناصر داعش في سلسة جبال قرة جوخ جنوب شرق مدينة الموصل العراقية. وعلي الرغم من نجاح جُهود القوات العراقية في إحباط العديد من هجمات التنظيم واعتقال العشرات من عناصره، إلا أن الأخير لا تزال لديه استراتيجية مرنه تمكنه من التكيف مع الظروف المُحيطة والحيلولة دون تفكك عناصره بفعل الضغوط الأمنية التي يتعرض لها.
• لعنة الجغرافيا: خلقت جغرافيا محافظة صلاح الدين ملاذات آمنة للتنظيم نظرًا لتضاريسها الوعرة وغلبة الطابع الجبلي عليها، لا سيما أنها مطلة على صحراء قضاء بيجي وصولًا إلى صحراء الأنبار، وتقع ضمن مسار سلسلة جبال حمرين الممتدة بين محافظتي ديالى وكركوك والتي تشكل مرتكزات لعناصر داعش ينطلقون منها لتنفيذ هجمات خاطفة تستهدف المدنيين والقوات الأمنية داخل المحافظات الثلاث المذكورة وحتى أطراف بغداد ومن ثم العودة للاختباء بعيدًا عن أعين القوات الحكومية التي وإن نجحت في توجيه ضربات قاسية للتنظيم إلا أن قصور المعلومات الاستخباراتية جعلت بعض البؤر لا تزال بعيدة عن أعين الجيش العراقي.
• عدوى الإرهاب: يشكل الاتصال الحدودي البري مع سوريا عاملًا رئيسيًا لاستمرار الخطر الإرهابي وتغذيته وتنشيطه، خاصة مع ما لوحظ من تنامٍ لنشاط خلايا داعش المتمركزة داخل محافظتي الحسكة ودير الزور السوريتين المحاذيتين للحدود الشمالية الغربية للبلاد خلال الأشهر الماضية، لا سيما إذا علمنا حقيقة أن تصاعد نشاط التنظيم على الجانب السوري يخلق حالة مماثلة عراقيًا كونه يشكل رافعة معنوية لعناصر التنظيم داخل العراق. وقد شهدت الآونة الأخيرة زيادة ملحوظة في تسلل العناصر الإرهابية القادمة من سوريا إلى العراق، حيث اتضح أن أغلبية الهجمات الواقعة خلال العام الجاري نفذها مقاتلون وافدون من سوريا نظرًا لضعف قدرة التنظيم على التجنيد المحلي، بحسب مسئول عسكري عراقي لم تذكر تقارير صحفية اسمه. وقد ساهمت الأجواء المناخية المضطربة التي شهدها العراق مؤخرًا من عواصف ترابية شديدة أدت لتراجع معدلات الرؤية، في زيادة حركة العناصر الإرهابية عبر الحدود وتمركزهم داخل المناطق الجبلية الوعرة أو الحدودية الهشة في ظل صعوبة إحكام السيطرة التامة على طول الشريط الحدودي السوري-العراقي الممتد لأكثر من 600 كم والذي يحتاج لقوات كبيرة لتغطية المساحات الصحراوية الشاسعة غربًا وشمالًا، كما يتطلب تنسيقًا أمنيًا مع الجانب السوري غير متحقق حاليًا.
• مصاعب لوجستية وتسليحية: منذ انتهاء عمليات الموصل (2017) وخسارة تنظيم داعش لمعاقله المركزية في العراق، بدأ التنظيم في تبني مقاربة عملياتية جديدة ترتكز بالأساس على توظيف مجموعات داعشية صغيرة وخلايا نائمة، تُمكنه من تكثيف عملياته وتنفيذ هجمات نوعية ومباغتة ضد الأهداف العراقية. وبالإضافة إلى ذلك تُشير تقديرات أمنيه إلى أنه كلما قل حجم الخلايا الإرهابية تعقدت عمليات القوات الأمنية لتعقب واستهداف هذه الخلايا. وبناء علية، فإنه في ضوء استراتيجية التنظيم الحالية، وفي ضوء عدم كفاية القدرات التسليحية النوعية المتوفرة للقوات الأمنية والعسكرية العراقية على مستوى مكافحة الإرهاب، التي باتت تتطلب الاعتماد على أدوات وتقنيات حديثة تتجاوز الأدوات التقليدية والمعدات الثقيلة؛ فإن ذلك يحد من جهود القوات العراقية في القضاء على الخلايا الداعشية، وفي الوقت ذاته تُعطي هذه الاعتبارات التنظيم ديناميكية وقدرة أكبر على التحرك وممارسة النشاط الإرهابي.
• زعزعة التعاون بين بغداد وقسد: يحاول تنظيم داعش من خلال هجماته الأخيرة الرد على محاولات تعزيز التعاون القائم بين العراق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لتطويق نشاط التنظيم والحيلولة دون تنفيذ عمليات نوعية جديدة على الساحتين السورية والعراقية، والتي كان من أحدث مؤشراتها: إعلان قيادة العمليات المشتركة العراقية في مطلع يونيو 2022 تسلُّم 50 عنصرًا من عناصر داعش العراقيين المحتجزين لدى قوات سوريا الديمقراطية تمهيدًا لعرضهم على اللجان القضائية العراقية للتحقيق في التهم المنسوبة لهم.
• تداعيات الحرب الأوكرانية: يستغل تنظيم داعش الانشغال الدولي بالحرب الروسية الأوكرانية الدائرة، والتي كان من تداعياتها تراجع الجهود الدولية في محاربة الإرهاب، وهو الأمر الذي حاولت التنظيمات الإرهابية توظيفه بطريقة أو بأخرى في تعزيز نشاطها وتوسيع تمركزاتها الجغرافية. وفي الحالة العراقية -على وجه الخصوص- نجد أن مجموعة الظروف الحكومية والحزبية الداخلية، وظروف اشتعال الحرب الأوكرانية أدت إلى تعذر جهود التنسيق المتعلقة بإجراء صفقات تسليح بين العراق وروسيا بسبب ظروف الحرب والعقوبات الدولية الموجهة ضد الأخيرة، وهو الأمر الذي أثر سلبًا على محاولات تعزيز قدرات القوات العراقية في مكافحة الإرهاب.
تداعيات محتملة
سوف يحمل تنامي النشاط العملياتي لتنظيم داعش في العراق العديد من التداعيات المهمة، التي يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:
• التوظيف الإعلامي والعملياتي: قد يستفيد تنظيم داعش من هجماته المتكررة في العراق على المستويين العملياتي والدعائي. فعملياتيًا سيحاول التنظيم من خلال هذه الهجمات إثبات قدرته على البقاء والمواجهة رغم ما يتلقاه من ضربات بفعل الجهود الأمنية. ودعائيًا تقوم المنصات الإعلامية التابعة للتنظيم بتوظيف نجاح هذه الهجمات في تكثيف الحملات الدعائية التي يستفيد منها الأخير في تجنيد المزيد من العناصر عبر الفضاء الإلكتروني، ومن ناحية أخرى تنعكس قوة هذه الدعاية معنويًا على أفرع التنظيم المختلفة، ولا سيما في ظل الخسائر المتتالية التي تكبدها مؤخرًا بعد مقتل زعيمة السابق “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” في عملية أمريكية خاصة شمال غرب سوريا في فبراير 2022، وتمكن السلطات التركية –حسبما أفادت بعض التقارير الإعلامية- من اعتقال الزعيم الجديد للتنظيم أبو الحسن القرشي” في عملية أمنية خاصة نُفذت في إسطنبول في 26 مايو 2022، فضلًا عن اغتيال زعيم داعش في سوريا “ماهر العقال” في 12 من يوليو الجاري إثر ضربة أمريكية في شمال غرب سوريا.
• إرباك المشهد الأمني العراقي: تدفع العمليات المتكررة والمتنامية لتنظيم داعش في العراق باتجاه تفاقم حالة عدم الاستقرار التي تشهدها الساحة العراقية، خصوصًا إذا ما وُضعت تهديدات تنظيم داعش وعملياته جنبًا إلى جنب مع بعض التحديات الأخرى، ومنها الأزمة السياسية المحتدمة في البلاد، وتهديد بعض الأطراف باللجوء إلى الشارع والإشارة إلى استخدام الأداة العسكرية، فضلًا عن التدخلات الإقليمية التي تُعزز هذه الحالة خصوصًا من قبل إيران والمليشيات التابعة لها، وكذا تركيا التي تشن بين حين وآخر هجمات تستهدف حزب العمال الكردستاني، وتنتهك السيادة العراقية، وهو سياق يُنتج بيئة ملائمة لتنامي النشاط الإرهابي.
• تكثيف الحملات الأمنية لمكافحة الإرهاب: أحد التداعيات الطبيعية التي ستترتب على العمليات المتكررة لتنظيم داعش، تتمثل في تكثيف الحملات الأمنية من قبل الدول العراقية لمواجهة هذه العمليات، سواءً على مستوى إفشال عمليات مخطط لها من قبل التنظيم، أو على مستوى تنفيذ هجمات استباقية تستهدف عناصر التنظيم وبؤر تموضعه، وهو ارتداد طبيعي في ضوء التجربة العراقية لمكافحة الإرهاب، وفي ضوء سعي تنظيم داعش لاستعادة نشاطه في العراق.
• زيادة التنسيق العراقي العربي في ملف مكافحة الإرهاب: يجد المتابع للنهج العراقي فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب في الأشهر الأخيرة، أن هذا النهج استند إلى أولوية محاصرة النشاط الإرهابي عبر تكثيف المعدل العملياتي وتحجيم مصادر التمويل، فضلًا عن زيادة التنسيق الاستخباراتي والأمني مع الدول العربية في هذا الملف، وهو التحرك الذي كان جزءًا من حراك عربي أشمل يستهدف الدفع باتجاه تبني مقاربات شاملة وتعاونية في مجال مكافحة الإرهاب، انطلاقًا من محورية هذا الملف بالنسبة لكافة الدول العربية، مع استمرار وتنامي التهديدات الأمنية الإرهابية التي تواجهها المنطقة، خصوصًا في ضوء تنامي ظاهرة الدول المأزومة، وبالتالي فإن تنامي النشاط الإرهابي لتنظيم داعش سوف يدفع الدولة العراقية باتجاه زيادة التنسيق والتشبيك مع الدول العربية في هذا الملف لا سيما على المستوى الاستخباراتي.
وقد دعمت قمة جدة للأمن والتنمية، سواءً على مستوى خطابات الزعماء المشاركين أو على مستوى البيان الختامي، هذه الفرضية، حيث تم التأكيد على محورية ملف مكافحة الإرهاب والتطرف بالنسبة لدول المنطقة، وأولوية مكافحة تداعيات الأزمات العالمية خصوصًا الحرب الروسية الأوكرانية على انتشار الأفكار المتطرفة والنشاط الإرهابي.
وختامًا، يمكن القول إن العمليات المتكررة والمتنامية لتنظيم داعش في الجغرافيا العراقية تأتي في إطار سعي التنظيم للاستفادة من السياق العراقي المضطرب بما يدعم استعادة نفوذه ونشاطه العملياتي في مناطق النفوذ التقليدية، وهو الأمر الذي سيحمل تداعيات سلبية على المشهد الأمني العراقي، ويوجب على الدولة العراقية تطوير آليات وطرق تعاطيها مع هذا التهديد جنبًا إلى جنب مع كافة التهديدات الأمنية الأخرى التي تواجه البلاد.
.
رابط المصدر: