تعتمد النظريات المفسرة لعلم نفس السياسة الدولية على مجموعة من الافتراضات حول صياغة دور الدوافع النفسية في تشكيل الإدراك البشري، وآثارها على مستقبل السياسة الخارجية والعلاقات بين الدول قادةً وشعوبًا. ويؤكد مؤلفو كتاب “لماذا علم النفس مهم في العلاقات الدولية؟” على أن العوامل النفسية ذات صلة بفهم السياسة الخارجية، وأن المناهج النفسية ونظرياتها تسهم في تفسير آليات صنع القرار، ولا تتنافس بشكل مباشر أي نظرية أخرى في العلاقات الدولية، ولا يمكن اختزال أي منها، بل أن الحجج النفسية تمثل قوة تفسيرية فقط عندما يتم استيعابها بشكل منهجي في الأطر السياسية التي تأخذ في الحُسبان الظروف الهيكلية والاقتصادية والثقافية التي يعمل من خلالها صانعو السياسات، وعليه فإن مناقشة المقاربات النفسية للحرب الروسية الأوكرانية ستسهم في استشراف مستقبل العلاقات في سياق الأزمة الراهنة.
العقل الجمعي للقيادة الروسية
تجادل بعض الأدبيات العلاقة بين الفرع شبه الأكاديمي لعلم “بوتينولوجيا Putinology” مقابل علم “الكرملينولوجيا Kremlinology” لتفسير الاتجاهات النفسية على المستوى الفردي، بالإضافة إلى الديناميكيات النفسية على المستوى الجماعي لصناعة القرار في روسيا. وبالرغم من أن الأدلة التجريبية المتعلقة بالنظريات النفسية غالبًا ما تكون تخمينية، إلا أنه يمكن تطبيقها على أنها “اختبارات طوقية” كما وصفتها دراسة صادرة عن Global Society عام 2017 بعنوان“البعد النفسي للسياسة الخارجية الروسية”، لتصبح هذه الاختبارات الطوقية أداة تحليلية مهمة، خاصة مع استحالة إعادة بناء مواقف صنع القرار الحقيقية وقياس العمليات المعرفية والنفسية بشكل مباشر.
وتناقش الدراسة الصور النمطية للقادة الروس من واقع الروايات والأدب المعاصر، إذ توضح أن هناك صورتين نمطيتين متعارضتين: تضم الصورة الأولى لاعب الشطرنج ذا الدم البارد الذي يحسن إدارة الخطط طويلة المدى، ويفكر في كل خطوة بعقلانية شديدة، بينما تضم الصورة الثانية القائد العاطفي الذي يتفاعل باندفاع، ويسترشد بمشاعره في الحكم على الأمور. وإجمالًا تستنتج الدراسة أن وحدة اتخاذ القرار للعقل الجمعي الروسي على مستوى القادة تتألف من “صقور” متشابهة في التفكير يترأسها قائد قوي، وأن جميع عناصر التفكير الجمعي تخلق ميلًا للتأثير على اتخاذ القرارات المُخاطرة لتحقيق مكاسب تتعلق بالهوية الوطنية بالدرجة الأولى.
وترتبط سيكولوجية المُخاطرة بقيم المنفعة وفق نظرية الاحتمالات، كما جاء في كتاب “المخاطرة في السياسة الدولية”؛ إذ إنه عند تطبيق هذه النظرية على العلاقات الدولية تتعدى الاحتمالات مجرد الاختيار بين الخسارة والربح إلى الصراع للحفاظ على الوضع الأفضل، وتحدد مقاربات متباينة نوع الأفضلية كتحقيق طموح استعادة المجد التاريخي. وفي حالة روسيا ترتبط الدوافع النفسية للمخاطرة بمكاسب تحقيق الهوية الوطنية واستعادة مكانة روسيا العظمى، بينما في أوكرنيا يتجه العقل الجمعي إلى تأطير المخاطرة نحو المكاسب الناتجة عن الانضمام إلى الاتحاد الأوربي اقتصاديًا وسياسيًا.
وإجمالًا يتم توظيف هذه الأطر في الحرب النفسية للتأثير على الرأي العام. ويوضح مؤلفوا كتاب “الحرب من أجل العقل العام” أن الحرب النفسية أو دبلوماسية الأزمة تعتمد على توظيف الدعايا بشكل درامي يخدم تأطير السياسة الوطنية، ويتألف من أفعال سياسية وعسكرية وأيديولوجية يتم إجراؤها لخلق سلوك ومشاعر ومواقف محددة لدى الجماعات المستهدفة.
في هذا الصدد تكون المقارنات التاريخية آلية فعالة لاستدعاء مواقف مشابهة مثل أزمة الصواريخ الكوبية، إذ استند السرد الروسي إلى حد كبير إلى الاستفادة من الذاكرة التاريخية. وقد برهنت نتائج “دراسة الجوانب غير العسكرية للأزمة في أوكرانيا من منظور الاتصالات الاستراتيجية” الصادرة عن مركز التميز للاتصالات الإستراتيجية لحلف الناتو “NATO StratCom COE” عام 2015 أن الحملة الإعلامية الروسية نجحت في استقطاب مواطنيها خارج روسيا، وأكدت أن تحليل العقل الجمعي سواء للقيادة السياسية أو الشعوب أمر بالغ الأهمية.
السمات والتوجهات النفسية للشعبين
حللت دراسة بعنوان “السمات النفسية للصراع في نظام العلاقات الحديثة بين الروس والأوكرانيين” أسباب وظروف عدم التوافق النفسي لدى الروس والأوكرانيين، وعوامل الرفض وعدم القبول فيما بينهم، فأكدت أن الاستقطاب النفسي بينهما غائب بسبب التباين العرقي، سواء في روسيا أو أوكرانيا. فكلا البلدان يضمان جنسيات مختلفة، وتتباين بينهما الأهداف الاجتماعية، فالروس ينتجون طموحات إمبريالية ترتبط بـ “ماضيهم العظيم”، ويشكل وعيهم الصورة العالمية لروسيا كدولة عظمى، بينما يسعى الأوكرانيون إلى تثبيت الحدود الإقليمية لدولتهم من خلال البحث عن مكانة تستحقها بين الدول الأوروبية، في نفس الوقت يحاولون إنتاج فكرة وطنية على المستوى المعنوي (اللغة والتقاليد)، لكن ثمة معوقات تحول دون تحقيق ذلك، أهمها البنية غير الكاملة للمجتمع الأوكراني، والنخب السياسية المؤقتة والمتذبذبة.
من جهة أخرى، عمقت سيكولوجية الصراع انقطاع العلاقات على مستوى الأقارب سواء العرقية أو الفسيولوجية بين البلدين، أو خلالهما، فمن المعروف أن درجة القرابة تتحكم في حدة المعارضة، وخاصة إذا ما ارتبطت الاستقطابات بالآراء السياسية، فمشاعر الوطنية والانتماء تكون ملحة كدافع نفسي أثناء الصراعات، إذ تحركها المعتقدات التي تتسم بديمومتها، والتي كانت تغذيها بشكل مستمر الخطابات الرئاسية كجزء من “المدرسة الأيديولوجية” الأقدم في تنمية التوجهات النفسية، ورسم صورة القيادة السياسية في أذهان الشعوب.
في ذات السياق، أثبتت الدراسات والبحوث التحليلية لخطابات الرئيس الروسي أنها تعتمد على نموذج هاميلتوني للبرمجة اللغوية العصبية “Hamiltonian-NLP”؛ إذ تأكد دراسة بعنوان “الأب والتابعون: خطاب بوتين كأداة للقيادة النفسية التطورية” أن جاذبية خطابات الرئيس الروسي لشعبه تدعم السلوك الاجتماعي لبناء وخلق الهوية الوطنية، بما يحفز اهتماماتهم بالمصالح الروسية على حساب رفاهية الاقتصاد الشخصي، وأن الفوائد طويلة المدى لأجندة القيادة تتفوق على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وقد أثبتت هذه الخطابات نجاحها في استمرار معدلات قبول وشعبية الرئيس بوتين.
بيد أن نظرة الغرب إلى الرئيس الروسي تأخذ منظورًا سلبيًا نوعًا ما؛ فهم يرون أنه ذو عقلية تتميز بالميل إلى الهيمنة، وتعتمد على التوجه التوسعي في الشؤون الخارجية من خلال الازدراء. ونظرًا لطبيعة تلك المصادر واعتمادها على البيانات غير العلمية وغير الدقيقة، يمكن أن تعكس في كثير من الأحيان تحيزًا مبالغًا فيه. وحتى لو كانت الخصائص النفسية لبوتين جزءًا من المشهد، فإنها لن تقدم أسبابًا كافية للحرب الروسية الأوكرانية؛ فالاجابة القاطعة على التساؤل عن إمكانية اختلاف موقف روسيا اتجاه أوكرانيا إذا لم يكن بوتين رئيسًا لها؟! هي: لا.
الغضب والحزم هما مفردان لمعنى واحد في السياق النفسي والاجتماعي الروسي، فبينما يرى الغرب خطابات الرئيس الروسي تتسم بالغضب، يصفها شعبه بالحزم والانضباط لمجابهة الجرائم التي تهدد الهوية، أو تمثل انتهاكات الحقوق الأساسية والقواعد الأخلاقية. وترى دراسة بعنوان“النواحي النفسية لـ “الحرب الهجينة” بين روسيا وأوكرنيا” أن توظيف المفردات والرموز الثابتة في الخطابات الشعبية مثل “الانقلاب العسكري” و”المجلس العسكري” يحفز الرأي العام في اتجاه العقل الجمعي للكرملين، بما يحقق الأهداف الوطنية المنشودة لروسيا الاتحادية.
مجمل القول، تسهم المناهج النفسية في استمطار المزيد من التساؤلات البحثية لفهم وتحليل السياسة الخارجية. لكن يظل من المستحيل التوصل إلى تفسير نهائي يعتمد فقط على علم النفس لاستشراف مستقبل العلاقات الروسية الأوكرانية، بل يجب الأخذ بعين الحسبان مقاربات علاقات القوى الخارجية، والسياسة الداخلية، والهويات الوطنية بوصفها عوامل هيكلية لها تأثير سببي مباشر في صناعة القرارات وتشكيل العلاقات الدولية.
.
رابط المصدر: