عقب التصعيد العسكري الذي يشهده السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023 بين الجيش ومسلحي الدعم السريع، على ضوء قيام العناصر التابعة للدعم السريع بمهاجمة مواقع حكومية رئيسة في العاصمة الخرطوم سبقها تعبئة وحشد للمسلحين الموالين لها والتمركز داخل العاصمة وعدد من المدن بما فيها مدينة مروي شمالًا بالقرب من مطار المدينة الأمر الذي اعتبرته المؤسسة العسكرية خطرًا جسيمًا، تأزم المشهد السياسي والأمني الداخلي وكذلك الإنساني. الأمر الذي ينذر بكارثة تحول دون إتمام مسار التحول السياسي والديمقراطي الداخلي ويهدد تماسك الدولة ووحدتها.
وقد جاء هذا التصعيد في أعقاب الترتيبات السياسية التي شهدها السودان في الثامن من يناير 2023 بين مجلس السيادة والقوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير –المجلس المركزي”، في إطار مساعي الأطراف الداخلية والوساطات الإقليمية للدفع في مسار اتفاق يحل الأزمة السياسية، مما يفرض أزمة مركبة على مسار الحل السياسي وعلى مستقبل السودان.
مسببات متجذرة ومسارات تأزم الاتفاق السياسي
برزت معالم التأزم في مسار الاتفاق السياسي ومستقبل العملية السياسية في إطار الخلافات التي تنامت بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو، على توقيع الاتفاق النهائي للعملية السياسية في السودان والذي كان مقررًا له الخامس من أبريل ثم أُجل إلى أجل غير مسمى.
ولعل الخلاف الحقيقي الذي حال دون إتمام مسار الاتفاق السياسي هو الخلاف بشأن بنود الإصلاح الأمني والعسكري؛ إذ إن الجيش يطالب بعملية دمج لقوات الدعم السريع تحت مظلة واحدة في غضون عامين –بانتهاء المرحلة الانتقالية– بينما تسعى قوات الدعم السريع إلى جعل المدة تزيد على عشرة أعوام، الأمر الذي يعكس تطلعات “حميدتي” للمزاحمة على العملية السياسية والانتخابية. ويجسد هذا التباين مخالفة لنص المادة العاشرة من المبادئ العامة للاتفاق الإطارى التي تنص على التأكيد على جيش مهني قومي واحد ملتزم بالعقيدة العسكرية الموحدة، وتلك المادة جاءت تلبيةً لمطالب القوى المدنية بإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية وإجراء هيكلة شاملة.
الأمر الآخر وثيق الصلة يتجلى في تطلع “البرهان” لتأمين قاعدة مدنية داعمة له ورغبته في تضمين الاتفاق لكافة القوى السياسية التي ترفض الاتفاق الإطاري رغبةً في الحفاظ على نفوذه، بينما على الناحية الأخرى يرى “حميدتي” أن الاتفاق لا بد أن يوقع حزمة واحدة والاكتفاء بالقوى السياسية المشاركة فيه، ولعل هذا يبرز مساعيه لاستقطاب قوى الحرية والتغيير ودعمه في أي استحقاقات رئاسية يتطلع في الدخول بها.
وبالنظر إلى مسار العملية السياسية والتي كانت على وشك الاكتمال وإقرار تحول ديمقراطي يدعم الحكم المدني، جاءت تلك الخلافات لتعزز من مسار تجييش وعسكرة المجتمع السوداني على خلفية مساعي قوات الدعم السريع لإحداث حالة من الاستقطاب الداخلي، بالتزامن مع خطاب الكراهية والعمليات النفسية التي تمارس في الوقت الراهن. لذا فإن الاهتمام الحالي من جانب كافة المكونات السياسية هو العمل على معالجة الصراع المسلح الراهن مع توحيد الصف للعودة مرة أخرى للتفاهمات السياسية والبناء على الاتفاق الإطارى الذي الأخير.
وبالنظر إلى المشهد الميداني واستمرارية العملية العسكرية مع مزيد من الانسحابات الدبلوماسية وعمليات إجلاء رعاية الدول الإقليمية والدولية، ستجهض بصورة كبيرة أي حديث عن الالتفاف على الاتفاق الإطاري بالرغم من أهميته، ولكن ما يشهده السودان سيستمر. وتبعًا لذلك، يتطلب الأمر بالتوازي مع إنهاء تلك المواجهات العسكرية توسيع دائرة التفاعل السياسي مع التكتلات المختلفة ومحاولة إيجاد صيغة للتفاهم بشأن هذا الاتفاق.
وفي إطار الدعم الواسع لتحركات الجيش ورفض العمليات العسكرية التي تقوم بها ميلشيا الدعم السريع، ومع استمرارية العمليات التي يقوم بها الجيش السوداني؛ فإنه وفي ضوء احتمالية حسم الصراع الراهن عسكريًا بالقضاء على أو تفكيك ميلشيا الدعم السريع ودمجها، ستكون لدى “البرهان” فرصة تمرير الاتفاق السياسي والحيلولة دون تجميد العملية السياسية. وفي حالة نجاح القوات المسلحة في حسم الصراع سوف تتغير الأوزان السياسية والعسكرية التي تشكّلت منذ عام 2019 والتفاهمات اللاحقة لذلك.
تصدع وطني واضطراب ممتد
يعاني السودان بشكل كبير تشرذمًا داخليًا بين المكونات السياسية والعسكرية، علاوة على حالة التأزم الاقتصادي مع الاضطرابات العالمية الراهنة. ووضعية التحشيد والعسكرة الراهنة سوف تدفع الدولة بشكل كبير إلى الانزلاق إلى حرب أهلية ممتدة، وتحوّل السودان إلى دولة هشة في إطار الافتقار إلى نخب سياسية وعسكرية تقود المشهد بعيدًا عن الانحياز. وما يدفع في هذا المسار هو سياسة المحاور التي باتت تلوح في الأفق بين داعمي طرفي الصراع. ويتضح أيضًا دخول لجان المقاومة الشبابية المناهضة للمكون العسكري في إطار ذلك المشهد؛ إذ إن تجمع المهنيين سبق وأن دعا لجان المقاومة إلى تكوين لجان أمن مجتمعي في الأحياء بالعاصمة السودانية والمدن التي يتواجدوا بها.
ذلك علاوة على أن رفض كلا الطرفين لوقف إطلاق النار ولو مؤقتًا لتوفير ممرات آمنة للناس –حتى في أقصى التقديرات وإجراء هدنة تشهد اختراقات متعددة- وفقًا لتطور حرب المدن التي تشهدها السودان، وغياب أي مبادرات حقيقة لتهدئة الوضع وخفض التصعيد سواء من جانب القوى المدنية أو حتى تدارك واحتواء إقليمي ودولي للأزمة؛ سوف يؤثر على وضعية الاستقرار الأمني الداخلي بل والسيولة الأمنية الحدودية في إطار تشابك المعارك الداخلية، واحتمالية تحرك الفصائل المسلحة شركاء اتفاق جوبا لدعم القوات المسلحة، مع انخراط للجبهة القومية الإسلامية وعناصر حزب المؤتمر الوطني المنحل في تلك المعادلة.
وإجمالاً؛ فإن التطور الراهن بمثابة تحول استراتيجي شامل للمعادلة السياسية والعسكرية الداخلية، سيكون له ضريبة كبيرة أمنيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، وكذلك سيكون محطة معرقلة لوقت ليس بالبسيط نحو العودة للتفاهم السياسي مرة أخرى في إطار اختلاف الأوزان العسكرية والسياسية. ولكن من الضروري البناء على الاتفاق الإطار الموقع في ديسمبر 2022، مع الأخذ في الحسبان التحولات الراهنة، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية لكافة التكتلات السياسية في هذا الاتفاق.
.
رابط المصدر: