خالد عكاشة
هل كانت زلة لسان عفوية أم مقصودة؛ تلك التى خرجت من وزير الدفاع الأمريكى «لويد أوستن»، بالنظر إلى شخصية مرتكبها، والموقع الذى خرجت فيه، فأثناء زيارته الأخيرة إلى «سول» عاصمة الدولة التى تمثل رمزاً من رموز تنافس «الحرب الباردة» التى استمرت لعقود، كان لافتاً أن يخطئ الوزير ويصف روسيا الاتحادية بـ«الاتحاد السوفيتى» وهو يحذرها من التوغل فى أوكرانيا، فالأخيرة وحلفاؤها الغربيون ارتفعوا بوتيرة التحذير مؤخراً من زيادة تعزيزات القوات العسكرية الروسية عند حدود أوكرانيا، وذهب البعض إلى ترجيح قيامها باجتياح وشيك لا ينتظر سوى خروج شرارة تنتظرها موسكو وحدها.
الكرملين، على لسان وزير خارجيته، حصر طلباته فى ضرورة توافر «ضمانات أمنية قوية وطويلة الأمد» عند حدودها مع جارتها أوكرانيا، خاصة بعد انضمامها إلى حلف شمال الأطلسى. فى المقابل، وفى ذات المناسبة باجتماع «منظمة التعاون والأمن فى أوروبا» الذى عُقد بالقرب من ستوكهولم، رد الوزير الأمريكى بلينكن على مسامع نظيره الروسى بأن واشنطن وآخرين لديهم «أدلة» على استعداد روسيا للغزو العسكرى، محذراً بأن أمراً على هذا النحو يستلزم قلقاً أمريكياً بالغاً أمام خطط روسيا لتنفيذ عدوان جديد على أوكرانيا، وإن صاحب هذا التراشق بالإفصاح عن النوايا عرضاً أمريكياً بإحياء اتفاق «مينسك» الذى أُبرم بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 لتسوية النزاع فى شرق أوكرانيا، ما بين قوات كييف والانفصاليين الموالين لروسيا، والذى لم تطبَّق بنوده وفق الرؤية الأمريكية. الاتفاق صيغ بوساطة فرنسية ألمانية عام 2015، ووفقاً لتصور ما جاء فيه لا يمكن لأوكرانيا استعادة السيطرة على حدودها مع روسيا فى المناطق التى يسيطر عليها الانفصاليون، إلا بعد منحهم حكماً ذاتياً واسعاً وإجراء انتخابات محلية. ساهم الاتفاق فى البداية فى تقليص الأعمال العدائية، إلا أن القوات الأوكرانية والانفصاليين استمروا بتبادل إطلاق النار بصورة متقطعة طوال سنوات، إلى أن جاء الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى بعد فوزه بانتخابات 2019 بناء على وعود بإنهاء النزاع، على أن تعود أوكرانيا لفرض سيطرتها على حدودها أولاً قبل إجراء الانتخابات المحلية، لكن الكرملين أصر على أن الصفقة يجب أن تنفذ دون تعديلات.
رغم وقف إطلاق النار الذى توصل له ممثلون عن روسيا وأوكرانيا فى 2020 وترعاه منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا، وفق صيغة «مجموعة الاتصال الثلاثية»، فإنه لا يمكن تجاوز أن هذا الصراع أودى بحياة أكثر من 14 ألف شخص منذ اندلاعه قبل ست سنوات. وهى المعضلة التى تجعل الانزلاق للسلاح مرة أخرى غير مستبعد، وتلقى بظلال قاتمة على مشهد الحشود الروسية التى قدَّرتها مصادر عدة بـ«175 ألف جندى»، القيادة الروسية تصف هذه القوات باعتبارها حشوداً طبيعية وشرعية تتم داخل الأراضى الروسية، لكن المؤكد أن منحنى التصعيد لم ينطلق على هذا النحو إلا بعد أن استشعرت موسكو بالتململ من مشهد ازدحام مياه البحر الأسود بالسفن الحربية البريطانية والأمريكية، خاصة وهى تعتبره «بحيرة روسية»، لذلك أثار هذا الأمر غضب الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً، لأنه مثل نخبة القادة الروس يرى فيه تهديداً للأمن القومى الروسى وتحدياً صريحاً لبلاده.
أمام جدية وسرعة رد فعل الرئيس بوتين، باتت المخابرات العسكرية الأوكرانية لديها قناعة راسخة بأن الهجوم الروسى قد لا يتأخر عن نهاية يناير القادم، بحسب تقرير مهم نشرته «واشنطن بوست» الأمريكية، وأشار بوضوح إلى أن تصاعد مسرح العمليات الأوكرانى صعّد من حدة القلق الأوروبى، الذى بات هو الآخر فى انتظار القمة الافتراضية التى ستُعقد بين الرئيسين الروسى والأمريكى لمناقشة الوضع فى أوكرانيا، فى غضون الأيام القليلة المقبلة. على اعتبار أنه يمكن أن يفضى إلى تهدئة فى حال ميل واشنطن إلى هذا السيناريو ودفعت باتجاهه، خاصة وهى تضع جل اهتمامها الآن بما يجرى فى شرق آسيا، والتوتر المتصاعد من النوايا الصينية غير المخفية. هذه معادلة ضاغطة جعلت فرضية «العقوبات» الاقتصادية خياراً ذُكر مرات عدة، باعتبارها المتاح الآن أمام الرئيس بايدن الذى يمكنه التلويح به، وإن ظل غير كافٍ ولا عملى، على الأقل من وجهة نظر الأوروبيين الذين يرونها لم تردع إيران فما بال روسيا التى تمرست على مواجهة مثل تلك السيناريوهات. من بين سيناريوهات عدة تتداولها «كييف» مع حلفائها الأوروبيين الجدد، أن روسيا لن تتوانى فى حال حدوث هجوم عسكرى أن يتم فصل أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا، تحت ذريعة وجود نسبة كبيرة من السكان من أصول روسية هناك، تكراراً للنموذج الذى جرى فى جنوب جورجيا بإقامة كيانين خاضعين للنفوذ الروسى، بل وبما قامت به من ضم شبه جزيرة «القرم» إلى سيادتها قبل سبع سنوات، وفصلها كلياً عن دولة أوكرانيا، كرد فعل على عزم حكومة الأخيرة الخروج من مظلة النفوذ الروسى والانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وحلف «الناتو»، وإن لم يتوقف العقاب الروسى عند هذا الحد حينها، ففى العام الماضى كانت «كييف» على موعد مع ضربة اقتصادية فادحة حين أعلنت روسيا عن مشروع «السيل الشمالى 2»، الذى تجاهل أوكرانيا كممر ترانزيت للغاز الطبيعى المتجه إلى أوروبا لصالح دولة المجر التى حلت بديلاً، وتسبب ذلك فى خسارة مؤكدة لكييف تُقدَّر بنحو مليارى دولار سنوياً. وهذا دفع الرئيس زيلينسكى إلى أن يستحث الأمر مع رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون ديرلاين»، حول إمكانية تطبيق تشريعات «حزمة الطاقة الثالثة» للاتحاد الأوروبى على المشروع الروسى، بغرض فرض العقوبات ضده من قبَل الاتحاد الذى لم يخطُ تلك الخطوة بعد، تاركاً سيناريو الرعب مفتوحاً أمام نشوب حرب شاملة قد تصر روسيا على خوضها، فى ظل معطيات عدة تمتلك موسكو اليوم قراءتها الخاصة بها التى قد تبدأ بقياسات التوازن الاستراتيجى، لكنها قطعاً لن تقف عند حدود أسلحة الطاقة وغيرها مما تمتلكه فى دوائر أمنها القومى الذى بات مهدداً وفق ما تراه.
.
رابط المصدر: