د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركن متقاعد.. دكتوراه في التاريخ
عضو هيئة خبراء مركز برق للسياسات والاستشارات
لماذا هذه الدراسة؟
لطالما انتقد العراقيون وسواهم سلسلة الانقلابات العسكرية التي طغت على واقع الدول العربية والشرق أوسطية لتغيير الأنظمة السياسية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لأغراض ومآرب شتّى، وقد شاء قَدَري أن أعيش في هذه العقود عمر الصبا والشباب، قبل أن أعيش تفاصيل ثلاث محاولات انقلابية فاشلة، وقتما خدمتُ ضابطًا برتبة ملازم ثانٍ في فوج الحرس الجمهوري الأول في عهد الرئيس المشير الركن عبد السلام محمد عارف، وبضعة أشهر من عهد أخيه الفريق عبد الرحمن محمد عارف.
لذلك عرض عليّ مركز برق للسياسات والاستشارات الأغر، أن أكتب دراسة مفصّلة تُنشَر في موقعه الرسمي في الذكرى السنوية السادسة والخمسين لإحدى هذه المحاولات، أكشف بها المستور من المحاولة الانقلابية التي أقدم عليها عميد الجو الركن عارف عبد الرزاق مساء يوم 15 من أيلول/سبتمبر 1965، لإيضاح مجرياتها ومستغرَباتها، بعد أن وُصِفَت بعبارة (الانقلاب الأغرب في التاريخ-THE ODDEST COUP IN HISTORY) بالمانشيت الرئيس لصحيفة “تايمز” اللندنية الصادرة صبيحة يوم 17 من أيلول/سبتمبر 1965، في حديثها عن المحاولة الانقلابية الفاشلة موضوعة بحثنا.
مشاهداتي للحدث:
ولنَعُد للحدث، فلَـمّا تخرّجتُ في الكلية العسكرية برتبة ملازم يوم 14 من تموز/يوليو 1964، شاء قَدَري أن أُنتـَخَبَ – من حيث لا أدري – ضابطًا في فوج الحرس الجمهوري الأول المكلَّف بالحفاظ على حكم الرئيس عبد السلام محمد عارف، وهو الوحدة العسكرية الرئيسة الـمُناط بها مسؤولية حماية القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون ومسكن عائلة الرئيس في حيّ الأعظمية، ودأبتُ على تسجيل يوميّاتي في أجندة خاصة لعامَين متتاليين بذلك العهد.
واليوم وبعد أن تجاوزت أواسط السبعين من عمري، فإني أستذكر ما سطّرته في تلكم الأيام لأقدّمه أمام أنظار متابعي مركز برق للسياسات والاستشارات الموقّر لتسليط بعض الضوء على محطّات مهمة لإفادة متابعي تاريخ العراق والشرق الأوسط والباحثين للعديد من المواقف التي فرضت أوزارها السياسية بشكل أشبه بروايات درامية وتراجيدية وحتى كوميدية لوقائع متسلسلة لم تـُكشَف أسرارها في غضون خمسة عقود ونصف العقد؛ كي يتمتعوا بما أسطِّره من سبق علمي وإعلامي بحكاية وقائعَ عشتُ ساعاتها، وأحداثٍ سجلتها في أيامها، وأسرار لهثتُ وراءَها في هذه المحاولة الانقلابية التي قادها زعيم كتلة مُسَيَّسة يتمتع بخمسة مناصب في آنٍ واحد، وهي: رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، وقائد القوة الجوية، وعضو المجلس الوطني لقيادة الثورة، ونائب رئيس الجمهورية، وذلك في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 1965، والأسباب الـمُبهمة وراء إخفاقه مع مؤازريه، وذلك بالاعتماد على آراء العديد من كبار صانعي القرار والأحداث ممن كانوا أقرب المقربين إليه.
تشكيل وزارة جديدة:
في منتصف الستينيات كانت الصراعات متواصلة على ساحة العراق المتلاطمة للسيطرة على كراسي الحكم بعد سبع سنوات من الإطاحة بالعهد الملكي في 14 من تموز/يوليو 1958، ولكن العلاقات القائمة بين الرئيس عبد السلام عارف وكتلة الضباط القوميين/الناصِريّين بدت وكأنها عادت الى مجاريها، بعد أن هزتها أزمة تموز/يوليو 1965 الوزارية هزًا مكشوفًا أمام الأنظار.
وفي مساء الاثنين 6 من أيلول/سبتمبر 1965، فوجئ العراقيون بالرئيس عبد السلام عارف وهو يستقبل رئيس الوزراء المُستقيل الفريق طاهر يحيى مع أعضاء وزارته الثالثة، وإلى جانبه رئيس الوزراء اللاحق عارف عبد الرزاق وبرفقته 15 وزيرًا وعدد من كبار موظفي ديوان الرئاسة.
طال التغيير الوزاري كل الوزراء السابقين، عدا اثنين فحسب، في إشارة لسياسة خارجية وداخلية جديدة، ما دام التغيير قد شمل حقائب: الخارجية، والدفاع، والنفط، والمالية، والثقافة والإرشاد، إذْ لم يحتفظ بمنصبه سوى وزير الداخلية اللواء عبد اللطيف الدراجي، ووزير الوحدة الدكتور عبد الرزاق محيي الدين.
لم يكن الحدث اعتياديًا؛ ففي كل تغيير أو تعديل وزاري في السنوات الماضيات كانت تسبقه شائعات وتلميحات في بعض الصحف اليومية، أما في هذه الوزارة، وفي كتاب التكليف الذي عَنوَنَه رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء الجديد، نقرأ ما يستجلب النظر في نقطتين:
- العمل على تحقيق الرفاه التام لأبناء الشعب كافة في ظلّ (“اشتراكية عربية رشيدة”ó) تهدف إلى زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع، وترعى (القطاعَين العام والخاص) في آن واحد.
- الإسراع في تحقيق الحياة الديمقراطية وتشكيل المجلس الوطني.
وفي هذا التغيير أيضًا، كان استقبال رئيس الجمهورية لرئيسَي الوزارتَين مع وزرائهما، وتناولهم طعام الغداء سوية، ما يمكن اعتباره سابقة لم يشابهها تصرّف في التغييرات الماضية، حتى في التغييرات الاعتيادية، وليس في الانقلابات.
لماذا عارف عبد الرزاق؟
قد يتساءَل أي متابع لأوضاع العراق، وخصوصًا خلال عام 1965، والخلافات القائمة بين رئيس الجمهورية وكتلة الضباط القوميّين بمؤسسها صبحي عبد الحميد، وزعيمها المُقَر داخل الكتلة عارف عبد الرزاق، وبالأخص بعد احتدامها بسبب أزمة تموز الوزارية التي لم يَمْضِ عليها شهران – قد يتساءل عن الأسباب التي حَدَتْ بالرئيس عبد السلام عارف أن يكلّف من أمسى خصمًا سياسيًا قويًا له بتشكيل وزارة جديدة خلفًا لصديقه الحميم الفريق طاهر يحيى، أو شخصيات أخرى لها ثقلها السياسي وخلفيّاتها الثقافية وشهاداتها الجامعية التي لا تُضاهى.
وللسيد صبحي عبد الحميد رأي خاص في أسباب تكليف عارف عبد الرزاق بتشكيل الوزارة دون أي شخص آخر كشف لي عنه بقولهó: “كان عبد السلام عارف قد اتخذ قرار التخلّص من كتلتنا قبل أن نُقدِّم تلك الاستقالات الجماعية التي تسبّبت في انبثاق أزمة تموز الوزارية، وذلك بتمزيق الكتلة من داخلها، حين بدأ يتقرّب من عارف عبد الرزاق – ذي المنصب الخطير (قائد القوة الجوية) – محاولًا كسبَه إلى جانبه؛ تمهيدًا لإبعاده عن قادة الكتلة… فقد أوعَز إلى العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد والعقيد حميد قادر مدير الشرطة العام – وهما صديقا عارف عبد الرزاق الحميمَين – بالتأثير عليه واستمالته، فَسايَرَهُم عارف عبد الرزاق، وصمّم أن يكشف جميع خطط عبد السلام عارف ونياته ومناوراته، متردّدًا عليه دومًا ومُبديًا له الودّ والإخلاص، ومحاوِلًا – في أول الأمر – نصحه وإعادته إلى النهج القومي السليم، ومؤكِّدًا أن الجميع يحبونه ويحترمونه، وأن معارضة قادة الكتلة القومية لبعض قراراته ليس وراءَها من دافع سوى الحرص على المصلحة العامة.
وخلال الأيام الأولى من شهر أيلول/سبتمبر 1965 استدعى الرئيس عبد السلام وزير الدفاع اللواء الركن محسن حسين الحبيب ليسلّمه قائمة أسماء تشتمل على عشرة ضباط، طالبًا نقلهم إلى خارج بغداد.. وكان على رأس القائمة عدد من قادة كتلة الضباط القوميين، وهم العقداء الركن:
- محمد مَجيد- سكرتير رئيس أركان الجيش.
- هادي خماس- مدير الاستخبارات العسكرية.
- محمد يوسف طه – مدير الحركات العسكرية.
- عرفان عبد القادر وجدي – آمر الكلية العسكرية.
لم يقتنع وزير الدفاع – بعد أن تشاور مع زميله وزير الخارجية اللواء الركن ناجي طالب – بتنفيذ الأمر.. ولمّا أيْـقَنا غرض عبد السلام عارف من ذلك، قرّرا تقديم استقالتَيهما من منصبَيهما المهمّينó.. رافضَين أن يتحوّلا إلى معول بيد عبد السلام عارف لتهديم علاقاتهما الحسنة القائمة مع زملائهما الضباط وأقران أولئك الوزراء الذين استقالوا من مناصبهم أوائل تموز/يوليو 1965… وهكذا انهارت وزارة الفريق طاهر يحيى بخروج وزيرَين آخرين منها… أوانئذٍ، وللحيلولة دون السماح بفراغ سياسي في العراق يؤثّر على سمعته الشخصية، فقد عَجَّـل عبد السلام عارف في تكليف عارف عبد الرزاق قائد القوة الجوية بتشكيل الوزارة الجديدة”.
وفي الشأن نفسه، تحدث إليّ “ناجي طالب” كذلكóó، قائلًا: “أعتقد أن تكليف الرئيس عبد السلام لعارف عبد الرزاق بتشكيل تلك الوزارة لم يكن سوى محاولة منه لتقريبه إلى جانبه؛ بغية إحداث شرخ في صفوف الكتلة القومية التي أمسى عارف عبد الرزاق يقودها؛ وذلك بهدف إضعافها أو إنهاء نشاطها السياسي، بعد أن تم ذلك نظريًا بإلغاء البند الخاص بالمجلس الوطني لقيادة الثورة في الدستور المؤقت، والذي كان بعض أبرز قادة تلك الكتلة أعضاء دائمين ومتحكّمين فيه.
تلك من ناحية.. ولكن من ناحية أخرى، يُحتمل أن عارف عبد الرزاق هو الذي استطاع إغراء الرئيس عبد السلام عارف بطريقة أو بأخرى، كي يكلّفه دون غيره بتشكيل الوزارة؛ ليتسنى له ولكتلته القومية السيطرة على السلطة في قادم الأيام، إذ تبيّن ذلك جليًا في محاولته الانقلابية التي قادتها الكتلة بعد أقل من أسبوعين من تشكيل وزارته هذه”.
أحداث سريعة جذبت الأنظار:
حين نستقرئ الأحداث التي سبقت المحاولة الانقلابية، يتبيّن – وفق رؤيتنا – وكأنّ الأمور التي وقعت لم تكن متسارعة فحسب، بل بدت وكأنها مُرَتّبة مسبقًا.. إذْ يمكن إيجازها فيما يأتي:
- الإعلان يوم 7 من أيلول/سبتمبر 1965 أن عارف عبد الرزاق لن يحضر اجتماعات مؤتمر القمّة العربي/3 المقرر عقده في المملكة المغربية يوم 13 من أيلول/سبتمبر، وذلك برغم تسمية وزير الدفاع السابق اللواء الركن محسن حسين الحبيب ضمن تشكيلة الوفد العراقي منذ يوم 25 من آب/أغسطس.. إذْ يفترض في هذه الحالة أن يحضر وزير الدفاع اللاحق بدلًا من السابق.
- إلغاء المجلس الوطني لقيادة الثورة المتشكّل منذ آذار 1964 – باعتباره أعلى سلطة تشريعية في الدولة العراقية – وذلك بمرسوم جمهوري صدر يوم 9 من أيلول/سبتمبر، وإناطة سلطاته التشريعية بمجلس الوزراء الجديد وفقًا لتعديل محدّد على الدستور المؤقت.
- وفي اليوم نفسه، ووفقًا لمرسوم جمهوري خاص، أُجري تعديل آخر مهم على الدستور المؤقت، فيما يأتي نصّه:
“يشكّل رئيس الجمهورية – عند غيابه عن العراق، أو عند تعذّر قيامه بواجباته لسبب ما – مجلسًا جمهوريًا للنيابة عنه، قوامه ثلاثة أعضاء يختارهم من بين أعضاء مجلس الوزراء أو مجلس الدفاع الوطني، أو منهما معًا”.
- وبعد يومين صدر مرسوم جمهوري آخر يقضي بتشكيل مجلس الدفاع الوطني من أصحاب المناصب الآتية:
- رئيس الجمهورية – رئيسًا للمجلس.
- رئيس الوزراء – نائبًا لرئيس المجلس.
- وزير الدفاع.
- وزير الداخلية.
- وزير الخارجية.
- وزير المالية.
- رئيس أركان الجيش.
- قائد القوة الجوية.
- قائد القوة البحرية.
واستنادًا إلى تلكم التعديلات والمراسيم الجمهورية، فقد غدا عارف عبد الرزاق – ناهيك عن منصبَيه السابقَين – نائبًا لرئيس مجلس الدفاع الوطني المتشكّل حديثًا بحكم كونه رئيسًا للوزراء، بل وأهم عضو فيه، لكونه وزيرًا للدفاع وقائدًا للقوة الجوية معًا، إذْ لم يتم تعيين أحد يخلفه في تلك القيادة بعد تسلّمه منصبه الجديد، ولم تُسنَد القيادة إلاّ وكالةً لضابط مهندس طيران بحكم القدم العسكري.
- تبع ذلك المرسومَ الصادر يوم 11 من أيلول/سبتمبر مرسوم ثانٍ باليوم نفسه، نصّ على تشكيل مجلس جمهوري للنيابة عن رئيس الجمهورية مدة غيابه عن العراق لحضور اجتماعات مؤتمر القمة العربي في المغرب.. وتخويل المجلس التوقيع على المراسيم الجمهورية جميعًا، عدا ما يتعلق بإقالة الوزارة أو قبول استقالتها أو تأليفها، وذلك من السادة:
- عارف عبد الرزاق – رئيس الوزراء، ووزير الدفاع وكالة.
- اللواء عبد اللطيف الدارجي – وزير الداخلية.
- اللواء عبد الرحمن عارف – رئيس أركان الجيش وكالة.
مغادرة رئيس الجمهورية إلى الرباط:
كنتُ في صباح يوم الأحد 12 من أيلول/سبتمبر 1965 ضابطًا يرفع راية العراق ضمن تشكيلة حرس الشرف من الدرجة الأولى، وواقفًا أمام ثلّة مؤلفة من 3 ضباط و 98 من المَراتب، وذلك ضمن إجراءات مراسيم التوديع الرسمية لرئيس الجمهورية وهو يغادر القطر من مطار بغداد الدوليó، والتي طالت حوالي ساعة كاملة منذ وصوله أرض المطار ولحين صعوده سُلّم الطائرة.
أقلعت طائرة الرف الجمهوري الخاصة “توبوليف-124” التي قادها الرائد الطيار عدنان أمين خاكي، في طريقها إلى المغرب، وقد هبطت في القاهرة ثم الجزائر للتزوّد بالوقود، قبل أن تصل مساءً إلى الرباط، حيث كان الملك الحسن الثاني في استقباله.
اجتماعات القمة العربية:
انقضت 3 أيام بسلام من دون أي طارئٍ يذكر، إذْ كنا نتابع الأخبار ووصول الملوك والرؤساء العرب إلى الرباط، ونُعقّب على تحرّكاتهم وابتساماتهم ومجاملاتهم عند بدء اجتماعات مؤتمر القمة العربي، وعمّا كانت تدور في أروقته من لقاءات هامشية ومناقشات، وما طرحه أحمد الشُقيري – رئيس منظمة التحرير الفلسطينية – من آراء ومقترحات، وما أبداه آخرون من أفكار وخطوات.
حالة تأهب قصوى:
كنا بطبيعة الحال، وكما في دول العالم، وخصوصًا دول العالم الثالث، نتسلّم بين آونة وأخرى أوامر اليقظة والحذر في الأيام التي تتوفر فيها معلومات عن احتمال حدوث محاولة انقلابية أو تحرّكات مشبوهة، ولكننا – نحن صغارَ الضباط – لم نكن نطّلع بطبيعة الحال على الجهة المُخبِرة أو الفئة السياسية المُحدّدة والمناوئة، بل كان الواجب في مثل تلكم المواقف أن نتسلم الأسلحة والأعتدة من المشاجب، وننفتح حسب خطة موضوعة مارسناها سلفًا في مواقع محددة لكل سرية وفصيل حوالي القصر الجمهوري وعلى مقتربات قد تشكّل خطرًا عليه.
ولكني لم أُصادف حالة إنذار وتأهّب طيلة أكثر من 13 شهرًا مضت على خدمتي في الحرس الجمهوري سوى مرّتين، لم يحدث خلالهما أي أمر خطير ولا إطلاق نار، ولم تكن هناك حاجة لنغادر ثكنة الفوج. ولكن المرة الوحيدة التي حصل فيها تطبيق خطة أمن وحماية القصر الجمهوري من خارجه، هي تلك التي لم نكن قد بُلِّغنا قبلها بأي إنذار!
كنا نحن ضباط الفوج – عدا أولئك الذين كانوا قد غادروا المعسكر إلى منازلهم ظهر يوم الأربعاء 15 من أيلول/سبتمبر ó– جالسين بكامل قيافتنا العسكرية في حديقة الثكنة، يتداول بعضنا أحاديث عامة، ويتابع آخرون برنامج التلفاز الاعتيادية، حينما فوجئنا في حدود الساعة الثامنة مساءً بطلب آمر الفوج “الرائد الركن عبد الرزاق صالح العبيدي” بحضور مساعده وآمري السرايا الجالسين معنا في مكتبه فورًا.
ساد الصمت الجميع، ومن دون أن ينبس أحدنا ببنت شفة بوجوه شابها القلق، فالاستدعاء غير اعتيادي، وقلّما كان آمر الفوج، المعروف بهدوئه، يطلب كبار ضباط الفوج بهذا الأسلوب ليلًا. إذن ثمّة شيء خطير قد حدث، أو سيحدث!
لم تَمضِ بضع دقائق حتى عاد آمرو السرايا مسرعين، وصاحوا من بُعد ينادون على الضباط جميعًا بالتوجّه ركضًا إلى قاعات منام جنودهم، وأن يتسلّم الجميع أسلحتهم وأعتدتهم حالًا، ويتوجّه كلٌّ لقاطعه وفقًا لخطة الطوارئ.
سادت الثكنة بجميع شوارعها وأروقتها وممرّاتها وقاعات منامها حركة هائلة، حيث أسرع المراتب ليخطفوا أسلحتهم من المشاجب.
قاد كلٌّ منّا فصيله بالهَروَلة إلى موقعه المحدَّد، وانتشر البعض على رصيفَي الشارع العريض العام المار من أمام القصر الجمهوري باتّجاهَي الجسر المُعَلَّق وجسر الجمهورية، وآخرون باتجاه الطريق المؤدي إلى قاعة الخُلْد، فأمسَينا مستعدين لفتح نيران أسلحتنا تجاه أية أرتال أو مجاميع جنود أو أشخاص يمكن أن يتقدّموا نحونا. وعندما وقفتُ أمام آمر سريتي الملازم أول يوسف خليل أحمد متسائلًا عن السبب لكل هذه الإجراءات، فإنه لم يستطع -كالعادة – الإجابة، فلم يكن على علم بما يجري وراء الكواليس أسوة بآمري السرايا جميعًا وصغار الضباط.
ومن الجهة المقابلة لمبنى القصر الجمهوري كنا نسمع هدير دبابات T-54 تحركت من داخل ثكنتها، واتخذت مواقع حول سياج القصر.
كان المنظر العام رهيبًا، بل ومُرعبًا، وسط صمت هائل ومنع تجوال غير مُعلَن خَيَّما على منطقة كَرّادة مريم، وبالأخص عندما قطعنا الشارع العام مانِعين مرور السيارات والأهلين، ما أوحى بقرب وقوع معركة وشيكة دامية بيننا – نحن الحرس الجمهوري – وبين قطعات أُخرى من جيش العراق قد تتقدم نحونا، وكذلك بين دباباتنا وأخريات عراقيات قد تتشابك في محيط القصر الجمهوري، حيث لا بدّ وأن تفرض مذبحة أوزارها، ويكون وقودها شبابًا لا ناقة لهم في كراسي السلطة والمتصارعين على الجلوس فوقها ولا جمل.
انقضت ساعات ثقيلة على نفوسنا في العراء أو قرب السياج، فالجنود يمسكون بأسلحتهم، في حين يحثهم ضباط الصف على الانتباه وعدم التراخي، فيما الضباط يترقّبون أي صوت غير عادي، وأنظارهم متّجهة إلى أية حركة قد يُشكّ في أمرها.
اجتماع على الأقدام:
انتصف الليل، ومضت ساعات حين رأيتُ آمر لواء الحرس الجمهوري العقيد الركن بشير عبد الرزاق الطالب – الذي لم يكن قد فُتح مقرّه رسميًا بعد – وبصحبته آمر فوجنا، وقد وقفا بالاستعداد وأدّيا تحية عسكرية أمام ضابط أوقف سيارته العسكرية، وشخّصته العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد، وأحد أكثر المقربين من شخص الرئيس عبد السلام عارف، تصاحبه سيارتان تابعتان للانضباط العسكري، وعلى متنهما حوالي 20 من جنود الانضباط المدجّجين بأسلحتهم الرشاشة.
لم تَمْضِ سوى دقائق حتى انضّم إليهم آمر كتيبة دبابات الحرس الجمهوري الرائد الركن فيصل عبد الحليم الذي أتى مُسرِعًا على قدمَيه، قبل أن تحضر سيارتا جيب تحملان هوائيّات عالية لأجهزة لاسلكية. ترجّل من إحداهما المقدم إبراهيم عبد الرحمن الداود آمر فوج الحرس الجمهوري/2، ومن ثانيتهما المقدم داود مْجَيِّد آمر فوج المشاة الآلي/2 المُرابط في معسكر الوشاش والتابع أصلًا للواء المدرع/10، حيث كانت بضع عشرات من الأمتار تفصلني عنهم.
ظلّ العميد سعيد صليبي المتحدّث الوحيد، ويبدو أنه تَرأَّس اجتماعًا بعيدًا عن الأسماع والأنظار والمكاتب الرسمية، في حين استمع الآخرون إلى كلامه وقوفًا لحوالي ثلث ساعة، قبل أن يتفرّقوا على عَجَل، كلٌّ باتجاه.
كنّا مع جنودنا، ما زلنا في وضع تهيّؤ ومراقبة، حتى بانت خيوط فجر الخميس 16 من أيلول/سبتمبر 1965، ولكن عددًا غير قليل من الجنود أعياهم السهر، فخلدوا إلى الغفوة جلوسًا. لم أكترث لذلك، فإن حدث أي طارئ فإنهم سينتبهون فورًا، فالمُغامِرون ليسوا على بُعد أمتار، وأن الذين يمكن أن يتقدّموا نحونا سننتبه إليهم قبل اقترابهم منا.
ومع الضياء الأول للصباح، صدرت الأوامر بالحيطة والحذر والانتباه الأشد، ولكننا لم نسمع أي إطلاق نار حتى سطعت الشمس ومضى الوقت حتى قارب الثامنة صباحًا، وبدا الوضع هادئًا، فبُلِّغنا بإعادة نصف موجود مراتبنا إلى الثكنة لينالوا قسطًا من الراحة، قبل أن يتهيّأوا للمرابطة بعد الظهر، بدلًا من الذين سيرابطون في الخارج حتى منتصف النهار.
العودة للثكنة:
كانت الساعة قد بلغت السادسة مساءً عندما أُمِرنا بالعودة جميعًا الى الثكنة، من دون أن يُفتَح الشارع العام لحركة السيارات الأهلية والمارة حتى ظهيرة يوم الجمعة 17 من أيلول/سبتمبر، أوانئذٍ حمدنا الله سبحانه على نعمة الأمان، فبات الجنود على أسِرّتهم مُتعَبين وأسلحتهم على مقربة من رؤوسهم تَحَسُّبًا لأي طارئ، فحالة الإنذار والتأهّب كانت ما زالت سارية.
حديث آمر فوج:
وحالما تناولنا بعض الطعام الذي بدا لذيذًا للغاية إثر إجهاد 24 ساعة متتالية، طلب آمر الفوج حضور جميع الضباط إلى البَهو، حيث تحدث بصراحة أن:
- مؤامرة كبيرة وخطيرة حاول بعض كبار مسؤولي الدولة تنفيذها، مستغلّين غياب رئيس الجمهورية عن الوطن، وهم: رئيس الوزراء عميد الجو الركن عارف عبد الرزاق، والعقيد الركن هادي خماس- مدير الاستخبارات العسكرية، والعقيد الركن عرفان عبد القادر وجدي – آمر الكلية العسكرية، والمقدم الركن رشيد محسن – مدير الأمن العام، والمقدم فاروق صبري عبد القادر – معاون مدير الاستخبارات العسكرية، والرائد عبد الأمير الرُبَيعي- أحد ضباط الدبابات بمعسكر أبي غريب.
- تمكّن عدد من مسؤولي الدولة المخلصين، وعلى رأسهم العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد، من إفشال المؤامرة قُبَيل الشروع الفعلي بتنفيذها، ولما خاب أملهم توجهوا إلى مطار الرشيد العسكري ظهر اليوم، فأقلّتهم طائرة نقل عسكرية كانت مهيّأة مُسبقًا(*)، وهربوا بها إلى القاهرة مباشرة.
- على الرغم من يقيننا بفشل المؤامرة ظهر هذا اليوم، فإننا لم نشأ أن نبلّغكم، ولم نرفع حالة الإنذار بشكل كلّي خشية وجود ذيول لها حتى اطمأنننا تمامًا.
- سنبقى في حالة تأهب وإنذار خلال الأيام القادمة داخل ثكنة الفوج، حتى يعود رئيس الجمهورية إلينا بسلام.
تساؤلات فرضت نفسها:
تَسَمَّرَ كل منا في مقعده مُستغربًا وقد أخذه العجب، وتبادل البعض نظرات التساؤل مع زملائه، ولربما طرح على نفسه أسئلة عديدة، فلم يَلْقَ في صدره أو على لسان الآخرين أجوبة شافية أو مُقنِعة:
- إذا كان ما أوضحه آمر الفوج صحيحًا، فكيف تفشل مؤامرة يشترك فيها هذا العدد من كبار مسؤولي الدولة؟
- وكيف لم يَتَسَنَّ لشخص هو أهم القائمين بالنيابة عن رئيس الجمهورية، أن يستحوذ بكل سهولة ويُسر على أمور الدولة التي هو ممسك بمعظم خيوطها؟!
- وهل لم يستطع مع مديرَي الاستخبارات العسكرية ومعاونه، ومدير الأمن العام، وآمر الكلية العسكرية، أن يلقوا القبض على شخصيات لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة؛ سواء باستدعائهم واعتقالهم، أو تكليف أشخاص يحاصرونهم في مساكنهم أو مكاتبهم الرسمية؟!
- أن عارف عبد الرزاق ظلّ محتفظًا بمنصب قائد القوة الجوية، وهي أهم قوة مسلحة يمكن أن تُستَخدَم في أية حركة انقلابية، وأن آمِري المطارات العسكرية هم من تلاميذه، أو ممن عَيّنهم بشخصه، أو ممّن يأتمِرون بأوامره – إذن كيف تخفق حركة يشترك فيها معظم القوة الجوية؟!
- ولماذا يقدِم أولئك على هذه الحركة؟! وما الذي ينقصهم؟! فهم في مناصب يُحسدون عليها، ويتمتعون بنفوذ في جميع العراق. ومن ناحية المال، فهم مكتفون ولا رَيب. ومن مناحي المُعتَقَد، فإن رئيس الدولة ومعظم مسؤوليها وقادتها سائرون على نهج قومي وحدوي مشابه.
- ما الذي جعل هؤلاء يحضّرون لخطوة تراجعية؟! وممن كانوا يخشون بحيث هيّأوا طائرة نقل عسكرية تنقلهم إلى القاهرة في حالة فشل حركتهم؟!
- وما دامت العلاقات القائمة بين مصر والعراق ودّية، فهل من المعقول أن يحتضن الرئيس جمال عبد الناصر متآمِرين على حليفه عبد السلام عارف، ويؤويهم في أرض الكنانة؟!
عناوين الأخبار العالمية:
على أية حال، ففي حين ظلّت محطتا إذاعة وتلفزيون العراق على برامجهما الاعتيادية، وكأن شيئًا لم يحدث، وكعادتنا – نحن العراقيين – في مثل هذه المواقف الصعبة ومنذ 14 من تموز/يوليو 1958 المشؤوم، ولكي نسمع أخبار بلدنا، فقد حمل كل منا مِذياعه الصغير مع حلول صباح اليوم التالي ليستمع إلى أخبار العراق من الإذاعات العربية والعالمية، وهو جالس ليس في قلب بغداد فحسب، بل في القصر الجمهوري، حيث لم نكن نتعايش مع ساعات الأحداث فحسب، بل تُصنَع على مقربة منا!
وتلكم الأخبار حملت عناوين مُخجِلة ذات عبارات لا تخلو من الدَسّ والـمَسّ مثل:
- محاولة فاشلة لقلب نظام الحكم في العراق.
- كبار مسؤولي الدولة العراقية مُتورِّطون في المؤامرة الفاشلة.
- رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية العراقية يحاول الإطاحة غدرًا برئيسه وصديقه الغائب عن البلد.
- الثورة في العراق تعود لتأكل رجالها.
- كبار رجالات نظام الحكم في بغداد يتآمرون على أنفسهم.
- المتآمرون يهربون إلى القاهرة طالبين اللجوء السياسي.
- عارف عبد الرزاق وزمرته يحصلون على اللجوء السياسي لدى مصر.
عودة الرئيس واحتمال اغتياله:
تواصلت حالة الإنذار والتأهّب في فوجنا وجميع وحدات الحرس الجمهوري، وكذلك الوحدات العسكرية المنتشرة في بغداد وحواليها طيلة نهار الجمعة 17 من أيلول/سبتمبر 1965 دون حادث طارئ، ولكن من دون انتشار مشاة مسلّح في محيط القصر الجمهوري، وبقيت الدبابات في مواقعها المحيطة بالقصر، في حين فتحنا الشارع العام لكرادة مريم للسيارات والمارة على السواء.
وما يجدر ذكره في هذا الشأن أن معظم الناس قد دأبوا في مثل هذه الأيام على تخفيف تنقّلهم أمام القصر الجمهوري خشية تعرضهم لما لا يُحمد عقباه. ولكن البعض من الأهلين كانوا يتجوّلون بالمنطقة فُضولًا؛ كي يتلمّسوا شيئا عمّا أُشيع من أن محاولة انقلابية ربما جرت، بحكم انتشار الدبابات والجنود أمام القصر وحواليه بأسلوب غير مألوف، قبل أن يعودوا إلى عوائلهم ليتحدثوا – بكل بطولة – أنهم اجتازوا منطقة مليئة بالأخطار!
حرس الشرف في المطار:
ما إن حلّ فجر السبت 18 من أيلول/سبتمبر 1965 حتى أُبلغنا بأن رئيس الجمهورية قد أنهى زيارته للمملكة المغربية بعد حضوره الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربي، وأنه سيصل بطائرته الخاصة في حدود الساعة السابعة صباحًا إلى بغدادó. وفي حين استُحضر النقيب كاظم عزيز ومعاونه الملازم سعد شمس الدين لقيادة حرس الشرف في أرض مطار بغداد الدولي، فقد كنتُ حامل راية العراق معهما.
حضرنا إلى المطار في حوالي الساعة السادسة صباحًا، وبقينا ننتظر وصول الطائرة حتى الساعة التاسعة دون جدوى، في حين كان الوضع في المطار وحوالَيه ليس بالشكل الاعتيادي الذي تَعَوّدنا عليه في حالات الاستقبال أو التوديع السابقة، فقد انتشر العشرات من جنود الانضباط العسكري المسلّحين بالمسدّسات والغدّاراتóó في المنطقة المُحيطة بساحة وقوف الطائرات وعلى سطوح الأبنية المطلّة عليها، ناهيك عن جنود آخرين من فوجنا، وآخرين يرتدون ملابس مدنية، ويخفون مسدساتهم تحت سُتَرهم أو قمصانهم، وهم من منتسبي فصيل الحرس الشخصي للرئيس.
الرئيس في طريق العودة:
كانت الساعة قد قاربت العاشرة صباحًا عندما أشار آمر فوجنا أن نتجمّع أمامه ليبلغنا ببعض الأخبار المهمة عن أحداث الساعة، وكان من أهمها:
- أن وزير الصحة الدكتور عبد اللطيف البدري – الذي تربطه بشخص رئيس الجمهورية صداقة حميمة – قد سافر إلى الرباط، ووصلها فجر أمس (الجمعة 17 من أيلول/سبتمبر)، ليبلغه بتفاصيل المحاولة الانقلابية، ويطمئنه عن الهدوء الذي تنعم به بغداد إثر فشلها، وتفضيل عودته بأسرع ما يمكن. لكن رئيس الجمهورية رفض ترك الجلسة الختامية للمؤتمر، في حين ألغى زيارته الرسمية للمملكة المغربية التي كانت مقرّرة بعد انتهاء المؤتمر للراحة والاستجمام والتجوال برفقة الرئيس عبد الناصر وسط عدد من المدن المغربية.
- أن الرئيس غادر مطار الرباط في الساعة العاشرة والنصف ليلًا (بتوقيت بغداد) بطائرة الرف الجمهوري، وحطّ في مطار الجزائر، وأقلع منه في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وهبط في مطار بنغازي فجر هذا اليوم السبت في طريقه إلى القاهرة.
- يحتمل أن يتأخر الرئيس في القاهرة بعض الوقت، لذلك على حرس الشرف الرجوع إلى ثكنة الفوج وانتظار أوامر لاحقة للرجوع الى المطار، على أن يبقى الجميع بقيافة المراسيم على أهبة العودة.
طال انتظارنا في ثكنة الفوج، وأصابنا بعض الملل والضجر، لا سيّما وأننا مرتدون ملابس حرس الشرف الرشيقة والمُزعجة منذ فجر ذلك اليوم.
ولكن ثمّة معلومة أسَرّها إلينا النقيب كاظم عزيز ظهرًا، تشير إلى أن الرئيس قد يتعرّض لمحاولة اغتيال أثناء نزوله من الطائرة، أو عند وقوفه على منصة الشرف، أو لدى تفتيشه لحرس الشرف، والذي يطول في مجمله دقائق عديدة؛ لذلك طلب ديوان الرئاسة ملء بنادق حرس الشرف – وعددهم (98) ضابطَ صف وجنديًا – بالعتاد، على عكس جميع الحالات السابقة التي كانت البنادق فيها منزوعة من الإطلاقات.
عودتنا للمطار مجدّدًا:
عُدنا إلى مطار بغداد في الساعة الثالثة عصرًا، حيث علمنا أن آمر لواء الحرس الجمهوري العقيد الركن بشير الطالب بصحبة رئيس أركان الجيش وكالةً اللواء عبد الرحمن عارف، سيصعدان معًا إلى الطائرة فور توقّفها، ليبلغوا الرئيس بأن الظرف القائم يُوجِب إلغاء مراسيم حرس الشرف المُتعارَف عليها، وإقناعه بالإسراع في النزول من سلّم الطائرة، ليستقلّ سيارة خاصة تقف بمحاذاة السُلّم؛ بغية نقله إلى القصر الجمهوري مباشرةًó.
وما إن حلّت الساعة الخامسة عصرًا، وبينما كنا ننتظر هبوط طائرة الرف الجمهوري “توبوليف- 124″، إلا وطائرة مدنية مصرية ضخمة من طراز “كوميت-4C” قد هبطت على المدرج، قبل أن تتوقّف في الموقع المخصص على بُعد بضع عشرات من الأمتارó عن الموقع الذي كـنا متأهبين فيه لأداء السلام الجمهوريóó.
وحال إلصاق السُلَّم المتنقّل بباب الطائرة، لم ينتظر اللواء عبد الرحمن عارف وبصحبته العميد سعيد صليبي، واللواء عبد اللطيف الدراجي، والعقيد الركن بشير الطالب، حتى أسرعوا صعودًا إلى الطائرةóóó.
وبينما كـنا نتوقع إلغاء مراسيم حرس الشرف، فإذا بالرئيس عبد السلام عارف وقد أطلّ من باب الطائرة المصرية، ووقف في أعلى السلَّم مُحَيِّـيًا بيده المستقبلين على غير عادته في جميع المرات السابقة، حتى نزل إلى أرض المطار متوجهًا الى حيث منصة التحية، يرافقه وزير الداخلية ورئيس أركان الجيش. حينها، عزف جوق موسيقى الجيش بقيادة الملازم أول عبد السلام جميل السلام الجمهوري، ليُجري عبد السلام عارف المراسيم كاملة بجميع خطواتها ومراحلها، وقبل أن يتوجّه لمصافحة مستقبليهó، ثم إلى قاعة الشرف الكبرى للجلوس فيها بعض الوقت.
وبعد حوالي ربع ساعة، وبينما كانت السيارة الرسمية الرئاسية السوداء واقفة قرب باب قاعة الشرف الكبرى ضمن الموكب الرسمي الخاص، فإذا بسيارة صالون مكشوفة السقف حمراء اللون من طراز “لِنْكولِن”، وقد حَضَرَت لتحلّ محل السيارة الرسمية السوداء، فركبها الرئيس واقفًا على قدميه وسط حوضها الخلفي، وهو يُحَيّي أُناسًا احتشدوا على جانبي الشارع العريض المؤدّي من المطار إلى الجسر المُعلَّقóó.
صمت الإعلام العراقي:
على الرغم من عِظَم هذا الحدث وخطورته وتسرّب تفاصيله إلى خارج العراق، فإن وسائل الإعلام العراقية التي كانت تحت السيطرة المباشرة للدولة، ظلّت هادئة، ولم تذكر المحاولة الانقلابية بشكل مطلق طيلة الأيام الأربعة التي أعقبت فشلها، بل إن صحف الأحد 19 من أيلول/سبتمبر نشرت أخبارًا وصورًا عن زيارة الرئيس جمال عبد الناصر الرسمية المتواصلة للمغرب، وإلى جانبها تفاصيل عودة الرئيس عبد السلام عارف من الرباط إلى بغداد جوًا.
كان الإهمال الإعلامي المُتعَمَّد واضحًا، ولربما استخفافًا بالحركة الانقلابية والقائمين بها، وكذلك بالذين ساندوهم أو آووهم في القاهرة، حيث لم يُشِرْ الإعلام العراقي إلى الموضوع لا من قريب ولا بعيد حتى صباح الاثنين 20 من أيلول/سبتمبر 1965، وذلك في بيان رسمي مُقتضَب نشرته في صفحة “المَحلّيات”óó، وليس في الصفحات الأولى للصحف -كما هي العادة في مثل هذه الأحداث – وفيما يأتي نصه:
“بيان رسمي عن استتباب الأمن بعد فشل المغامرة الرَعناء يوم الأربعاء الماضي:
في الساعة العاشرة من مساء الأربعاء 15/9/1965، حاول نفر من المغامِرين القيام بحركة تخلّ بالأمن وسلامة الدولة.
ونظرًا ليقظة المسؤولين وقواتنا المسلحة، فقد أُحبِطَت المحاولة بعد فترة قصيرة ومن دون أن تُراقَ قطرة دم… وعلى إثر فشل المحاولة فَـرَّ جُـلّ القائمين بها إلى الخارج، وأُلقي القبض على الباقين.. ويأخذ التحقيق مجراه القانوني الطبيعي.
ونودّ أن نؤكد للمواطنين أن الأمن مُستَتبّ في أنحاء البلاد كافة، وأنه لم يحدث منذ قيام تلك المحاولة ما يُكَدِّر صفو الأمن والنظام ويُقلِق راحة المواطنين.
ويسرّنا أن يَطمَئِنّ المواطنون جميعًا إلى أن الحكومة والقوات المسلحة قائمة بواجبها أحسن قيام، وساهرة على المصلحة العامة وراحة المواطنين”.
ويبدو من نصّ البيان أن الحكومة العراقية، بعد عودة الرئيس عبد السلام عارف إلى بغداد بسلام، لم تشأ أن تعطي للحدث أهمية تُذكَر، إذ لم تأتِ على الجهة أو الأشخاص الذين شاركوا بالمحاولة الانقلابية، كما لم تذكر مصر والرئيس عبد الناصر؛ خشية حدوث مشاكل غير محمودة في أعقابها.
وزارة جديدة:
صباح الثلاثاء 21 من أيلول/سبتمبر 1965 أُعلِنَ عن تأليف وزارة جديدة برئاسة الأستاذ عبد الرحمن البزاز الذي احتفظ بحقيبة الخارجية أيضًا، إذْ نشرت صحف الأربعاء 22 من أيلول/سبتمبر مرسومَين جمهوريين:
الأول مقتضب للغاية نص على أنه: “بناءً على فِرار “عارف عبد الرزاق” رئيس الوزراء السابق خارج العراق، فقد أعفيناه من رئاسة الوزراء”.
أما الثاني فقد أشار إلى تشكيل وزارة برئاسة عبد الرحمن البزّاز، مُستَوزِرًا 4 وزراء جُدد فحسب، مُبقِيًا السابقين بمناصبهم دون أي تغيير.
مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء الجديد:
مساء الأربعاء 22 من أيلول/سبتمبر عقد عبد الرحمن البزاز مؤتمرًا صحفيًا تطرّق خلاله للمحاولة الانقلابية، إذْ ذكر أن عسكريًا واحدًا و6 مدنيين اعتُقِلوا، وأن 29 عسكريًا و 12 مدنيًا فرّوا في أعقاب المحاولة، وأن عدد الذين ما زال التحقيق جاريًا معهم لا يتعدّى 20 شخصًا، وأن العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة سليمة، بل وأكثر من سليمة وودّيةó.
ó اشتراكية عربية رشيدة: اُستُخدِمَت هذه العبارة – حسب علمي – للمرة الأولى في تاريخ العراق، إذْ اعتبر البعض -ولهم الحق في ذلك – أنها قد تكون أولى خطوات التراجع عن القرارات الاشتراكية التي أُعلِنتْ يوم 14 من تموز/يوليو 1964، بينما قال آخرون إنها عبارة رتَّبَها عبد الرحمن البزاز للغرض نفسه….”الباحث”.
ó صبحي عبد الحميد: مقابلات شخصية متلاحقة في منزله ببغداد عام (1997)…”الباحث”.
ó عرضت على “ناجي طالب” عام (1997) الرأي الذي طرحه “صبحي عبد الحميد”، فأوضح لي في ملحوظات كتبها بخط يده – مشكورًا – “السبب الأساس في استقالتي مع زميلي “محسن حسين الحبيب” لم يكن هذا، بل أني عندما قبلتُ تبوّأ منصب وزير الخارجية في وزارة الفريق طاهر يحيى الثالثة، اشترطتُ أن تجرى انتخابات عامة في العراق خلال عام واحد من ذلك التاريخ، وقد رحب عبد السلام عارف بهذا الطرح، وأدرجه في كتاب التكليف الذي أمضى (وقَّع) عليه في حينه، ولمّا لم يَفِ رئيس الجمهورية بوعده، إلى جانب إهمال رئيس الوزراء، فقد قدّمنا استقالتَينا معًا”… “الباحث”.
óó ناجي طالب: مقابلات شخصية متتالية بمنزله في “بغداد” عامي (1997-1998)… “الباحث”.
ó مطار بغداد الدولي: هكذا كان اسم المطار الواقع وسط بغداد قرب محطة القطار العالمية، والذي تحوَّل بعدئذ إلى “مطار المثنى” قرب “متنزه الزوراء”…”الباحث”.
ó قد يستشعر القارئ الكريم تباينًا بواقع ليلة واحدة في تنفيذ الحركة الانقلابية ما بين ليلة (14/15) وليلة (15/16أيلول).. ونظرًا لأهمية هذا الأمر، فقد بحثناه خصيصى من خلال مناقشة منطقية -حسب حقائق توفرت لدينا- يجدها القارئ في الصفحات الأخيرة من هذا البحث…”الباحث”.
(*) لم تكن طائرة النقل العسكرية من طراز “آنتونوف- 12 أوكرايينا” مُهيّأة سَلَفًا، بل كانت مُعَدّة ومُحَمّلةً بقناني غاز”الأوكسجين” هدية من الحكومة العراقية الى “دولة الجزائر” الفتية… ذلك ما اتضح لنا من خلال أقوال السادة الذين قابلتُهم شخصيًا بعدئذ…”الباحث”.
ó تختلف هذه الحقيقة عمّا أورده “أحمد فوزي” في كتابه الموسوم “عبد السلام محمد عارف” نقلًا عن
“محسن حسين” مندوب وكالة الأنباء العراقية المُرافق للرئيس عبد السلام عارف، بأن الطائرة تحرّكت من القاهرة دون أن يعلم أحد من أعضاء الوفدَين الرسمي والصحفي شيئًا عن الجهة التي تقصدها… يُنظَر: (أحمد فوزي: عبد السلام محمد عارف، مكتبة التراث والمعاصرة، مطبعة الديواني، ط1، بغداد، 1989، ص48)…”الباحث”.
óó الغَدّارة:- تسمية رسمية لسلاح شخصي رشّاش، كان مستخدمًا لدى الجيش العراقي، يتوسّط حجمه بين المسدس والبندقية، ويحمل مخزنًا يسع 30 إطلاقة، ويرمي مُفرَدًا وصَليًا، ويمتاز بدقة الرمي…”الباحث”.
ó تختلف هذه الحقيقة، وقد عاش”الباحث” أحداثها ساعة بساعة، عما رواه أمين هويدي سفير ج.ع.م ببغداد في حينه – من أنه لم يُخبِر أحدًا خوفًا على حياة الرجل!.. حتى إن أخاه اللواء عبد الرحمن عارف كان يعتقد أنه ذاهب الى المطار بصحبته لمقابلة وفد عسكري قادم من القاهرة على متن إحدى الطائرات الحربية! في تمام الساعة الخامسة… يُنظر أحمد فوزي: عبد السلام محمد عارف، مصدر سبق ذكره، ص46…”الباحث”.
ó وهذا أيضًا يُفَنِّد ما أورده أمين هويدي من أن طائرة حربية مصرية هي مَن حملت عبد السلام عارف من القاهرة إلى بغداد. يُنظر : أحمد فوزي:- المصدر والصفحة نفسهما…”الباحث”.
óó تختلف مشاهدتُنا هذه كذلك عمّا رواه أمين هويدي من أنه لمّا رأى الطائرة وهي تحلّق في سماء المطار، عندئذ أخبر اللواء عبد الرحمن عارف بمَقدَم أخيه، تاركًا له ليعدّ حرس الشرف لاستقبال الرئيس القادم…يُنظَر المصدر السابق والصفحة نفسهما…”الباحث”.
óóó على العموم، فإن أمين هويدي لم يكن موفقًا ودقيقًا بشكل مطلق في وصفه بـ(أن الموقف في بغداد لم يكن واضحًا، بل كانت هناك طائرات مقاتلة بانتظار عبد السلام في سمائها لإسقاط طائرته عند الوصول)… يُنظَر المصدر والصفحة نفسها.
وأقولها للتاريخ، وبعد أن عشتُ أحداث تلكم الساعات بدقائقها ووقائعها بالتفصيل المُمِل: إن الوضع في بغداد كان هادئًا، على الرغم من كونه مَشوبًا بالحذر، وكان الموقف قد اتضح تمامًا منذ مساء الخميس 16 من أيلول/سبتمبر، إذْ لم أُشاهد، ولم نُبلَّغ – نحن ضباط حرس الشرف – بأن هناك طائرات تحوم في السماء، سواء في تلك الساعة أو في ذلك اليوم أو قبله مطلقًا…”الباحث”.
ó نشرت الصحف العراقية صباح اليوم التالي 19 من أيلول/سبتمبر 1965 صور الرئيس عبد السلام عارف واقفًا على منصة التحية في مطار بغداد، وإلى جانبيه اللواءان عبد الرحمن عارف وعبد اللطيف الدراجي، وصورًا أخرى وهو يصافح عشرات المستقبلين من كبار رجالات الدولة، وهي بمجموعها تُفَنِّدُ عبارات السفير المصري أمين هويدي القائلة:
“نزل الرئيس عبد السلام عارف إلى أرض المطار ثابت الجنان، وسلّم على النفر القليل الذين كانوا في استقباله، والذين تَصادَفَ وجودهم في المطار، وأوصلناه إلى إحدى العربات الصغيرة ليستقلّها إلى القصر الجمهوري”! يُنظَر كذلك كتاب أحمد فوزي نفسه…”الباحث”.
óó يُنظَر الصحف العراقية الصادرة صباح الأحد 19 من أيلول/سبتمبر 1965 التي نشرت صور الرئيس عبد السلام عارف في السيارة المكشوفة، والجماهير محتشدة على جانبي طريق الخروج من المطار والمتقابِل مع محطة القطار العالمية…”الباحث”.
óó يُنظَر صفحات “المحليات” في جميع الصحف الصادرة ببغداد يوم الاثنين 20 من أيلول/أغسطس 1965…”الباحث“.
ó للاطلاع على تفاصيل المؤتمر الصحفي.. يُنظَر ما نشرته الصحف الصادرة في بغداد صباح (الجمعة-24 من أيلول/سبتمبر 1965)… “الباحث”.