التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي على هامش مشاركته في قمة جدة للأمن والتنمية بالرئيس الأمريكي جو بايدن، وقد شهد اللقاء تأكيدًا مصريًا أمريكيًا على التطلع نحو تعزيز وتفعيل أطر التعاون الثنائي، بما يدعم الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وهي الشراكة التي تعد من المحددات الرئيسة الحاكمة لعملية الاستقرار في الشرق الأوسط. وقد عبر هذا اللقاء وما سبقه من انعقاد الحوار الاستراتيجي الأمريكي المصري في نوفمبر 2021، بالإضافة إلى العديد من المؤشرات الأخرى، عن عودة الأسس التقليدية للشراكة الاستراتيجية بين البلدين خصوصًا في ضوء وجود قدر كبير من المصالح بين واشنطن والقاهرة.
رسائل مهمة
أشار السفير بسام راضي المتحدث باسم رئاسة الجمهورية إلى أن الرئيس الأمريكي رحب بلقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأكد على تطلع الإدارة الأمريكية إلى تفعيل أطر التعاون الثنائي المشترك، وتعزيز التنسيق والتشاور الاستراتيجي القائم بين البلدين الصديقين وتطويره خلال المرحلة المقبلة، لا سيما في ضوء الدور المصري المحوري بمنطقة الشرق الأوسط بالقيادة الرشيدة للسيد الرئيس، التي تمثل دعامة رئيسة لصون السلم والأمن ونشر السلام لسائر المنطقة.
ومن جانبه أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي عن ترحيبه بلقاء الرئيس الأمريكي، مؤكدًا حرص مصر على تعزيز وتدعيم علاقات الشراكة المتميزة بين البلدين الصديقين، ومشيرًا إلى أهمية هذه الشراكة في تعزيز السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وتطلع مصر لمزيد من التنسيق والتشاور مع الولايات المتحدة بشأن مختلف قضايا المنطقة.
وبالنظر إلى فحوى اللقاء بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس جو بايدن، يمكن القول إن هناك جملة من الرسائل المهمة التي حملها هذا اللقاء، وذلك على النحو التالي:
1- كان اللقاء بالرئيس جو بايدن فرصة للتأكيد على رؤية مصر ومقاربتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية إزاء الدول المأزومة وفي المنطقة بشكل عام، وهي الرؤية التي تقوم على أولوية تدعيم أركان الدولة الوطنية، بما يدعم فرض سيطرة ونفوذ الدولة على كافة أراضيها، ومواجهة الفاعلين المسلحين من غير الدول، ودعم إرادة الشعوب، ورفض التدخلات الخارجية في هذه الأزمات، وهو ما أكده السيد الرئيس عندما بحث مع الرئيس الأمريكي عددًا من الملفات الإقليمية، وأكد على الموقف المصري الثابت المستند إلى ضرورة تدعيم أركان الدول التي تمر بأزمات وتقوية مؤسساتها الوطنية، بما ينهى معاناة شعوبها ويحافظ على مقدراتها.
2- تم التباحث في اللقاء بين الرئيسين حول القضية الفلسطينية، حيث أكد الرئيس على موقف مصر الثابت تجاه القضية الفلسطينية وأهمية التوصل إلى حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة وفق المرجعيات الدولية، معربًا عن حرص مصر على التعاون مع الولايات المتحدة لبحث سبل إحياء ودفع عملية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في حين أعرب الرئيس الأمريكي عن التقدير البالغ للإدارة الأمريكية تجاه الجهود المصرية الممتدة لإرساء السلام في المنطقة، إلى جانب دورها الأساسي في التهدئة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ومبادرات إعادة إعمار غزة.
الجدير بالذكر أن الموقف المصري في القضية الفلسطينية هو موقف ثابت وتاريخي، فمصر هي الدولة والفاعل الأهم في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والولايات المتحدة تعتبر أن الدور المصري يمثل ركيزة أساسية للتهدئة بين الجانبين والوصول إلى تسوية للأزمة.
3- ناقش اللقاء أيضًا قضية سد النهضة، إذ أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي على موقف مصر الثابت من ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم لعملية ملء وتشغيل السد، بما يحفظ الأمن المائي المصري ويحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث، وكانت الولايات المتحدة قد أكدت في الحوار الاستراتيجي الذي عُقد بين البلدين في نوفمبر 2021، على “دعمها للأمن المائي لمصر، ودعوتها لاستئناف المفاوضات للوصول إلى اتفاقية بشأن سد النهضة برعاية رئيس الاتحاد الأفريقي”، وتأتي مناقشة هذه القضية على هامش لقاء الرئيسين، استمرارًا لمبدأ “الصبر الاستراتيجي” الذي تتبناه مصر في هذا الصدد، وسعيًا إلى دفع المجتمع الدولي نحو ممارسة دوره الطبيعي بما يدعم الوصول إلى اتفاق ملزم في هذا الملف.
متغيرات عديدة
يمكن القول إن عودة الأسس التقليدية الحاكمة للعلاقات المصرية الأمريكية، هو أمر لم يكن وليد الصدفة، بل كان نتاجًا لحدوث العديد من المتغيرات، وذلك على النحو التالي:
1- استعادت مصر خلال السنوات القليلة الماضية عافيتها الإقليمية والدولية، وعادت للعب الدور الأهم على مستوى القضية الفلسطينية، وكذا تلعب دورًا محوريًا في الأزمة الليبية، فضلًا عن دورها في أزمات اليمن والسودان ولبنان والعراق وسوريا، وفي السياق ذاته احتضنت مصر وتبنت فكرة منظمة غاز شرق المتوسط، وبدأت في التحول إلى مركز إقليمي للطاقة، فضلًا عن أنها طورت شراكتها الاستراتيجية بالعديد من الدول، واخترقت دوائر سياسية جديدة خارج الدوائر التقليدية، مثل الدائرة الآسيوية.
ويبدو أن هذه التحركات النشطة لمصر منذ عام 2014، قد دفع مؤسسات الفكر وجماعات الضغط وصناعة القرار في واشنطن إلى مراجعة مقارباتها في التعامل مع مصر، وإعادة تقييم الدور المصري في المنطقة والعالم، والتأسيس لعلاقات جديدة تقوم على أساس تعزيز المصالح المشتركة.
2- ترتبط الولايات المتحدة بالعديد من المصالح الحيوية والجوهرية مع مصر، ابتداءً بدور مصر المحوري في القضية الفلسطينية، وضمان الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة، ومرورًا بملف التعاون العسكري والشراكة الأمنية، بما يدعم الاستجابة للتهديدات المشتركة، ووصولًا إلى المصالح الاقتصادية الضخمة التي تربط الطرفين.
3- تُدرك الولايات المتحدة أن النظام العالمي يشهد بشكل أو بآخر إرهاصات تحول أو تغير من النظام الأحادي القطبية، إلى نظام متعدد الأقطاب أو لا قطبي، خصوصًا مع تبني العديد من الدول في الآونة الأخيرة لخيار “العصيان الاستراتيجي” للولايات المتحدة، وهو ما تجسد بشكل واضح عقب الحرب الروسية الأوكرانية، حيث رفضت العديد من الدول الانخراط في منظومة العقوبات الدولية ضد روسيا، وتسييس المؤسسات الأممية والدولية، وقد حذرت بعض المؤسسات الأمريكية الفاعلة على مستوى صنع السياسة الخارجية الأمريكية مثل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، من استمرار الولايات المتحدة في تبني سياسة الضغوط والعقوبات، خصوصًا مع عدم فاعلية هذه الاستراتيجية، واستبدالها باستراتيجية تقوم على التركيز على المصالح الأكثر جوهرية.
4- أحد الإشكالات الرئيسة التي كانت محل سجالات مستمرة في إطار العلاقات الثنائية بين البلدين، كانت تلك الإشكالات المتعلقة بملف حقوق الإنسان في مصر، لكن ما خفف من وطأة وحدة هذا الإشكال اعتباران، الأول أمريكي مرتبط بتعامل إدارة بايدن بنهج أكثر واقعية على مستوى السياسة الخارجية، والثاني مصري مرتبط بالخطوات النوعية التي بدأت الدولة المصرية في تبنيها في هذا الملف، حيث صدرت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وصدور التشكيل الجديد لمجلس حقوق الإنسان، وإنهاء العمل بقانون الطوارئ، وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، وإطلاق سراح مئات المحبوسين احتياطيًا، والإعلان عن انطلاق حوار وطني شامل يضم كافة القوى الوطنية التي لم تنخرط في العنف والإرهاب، بما يضمن وضع رؤية تشاركية لأولويات العمل الوطني في المرحلة المقبلة، وهي خطوات لاقت في مجملها ترحيبًا من الإدارة الأمريكية.
ختامًا، يمكن القول إن المتابع لمسار العلاقات المصرية الأمريكية في الفترات الأخيرة، يجد أن هذه العلاقات عادت إلى دائرة الأسس التقليدية الحاكمة، وهي الأسس التي تركز على تعزيز التعاون بما يدعم تحقيق المصالح الجوهرية المشتركة، وهو متغير ارتبط باستعادة مصر لدورها الفعال إقليميًا ودوليًا، وقدرتها في السنوات الأخيرة على تجاوز كافة التحديات والتهديدات الوجودية التي واجهتها، والبدء في إرساء معالم الجمهورية الجديدة.
.
رابط المصدر: