كما يتغير العالم فإن منطقة الشرق الأوسط تتغير أيضًا وبشكل كبير، أحد مظاهر هذا التغيير كان الاتفاق السعودى الإيرانى، والذى تم برعاية صينية، وأعلن عنه يوم الجمعة الماضى. الاتفاق تضمن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين (التى قطعت عام ٢٠١٦) فى خلال شهرين.
الاتفاق الذى وصفه البعض بـ«الانقلاب الدبلوماسى» و«الصفقة الكبرى»، له دلالات عديدة، وسيكون له تداعيات مهمة على منطقة الشرق الأوسط.
إحدى دلالات الاتفاق هى التأكيد على أنه لا يمكن إغفال «الجغرافيا» فى منطقة الشرق الأوسط، فالسعودية وإيران دولتان مهمتان فى منطقة الشرق الأوسط، وتمثلان جزءًا أساسيًا من خريطة المنطقة. وقد أثبتت أحداث السنوات الأخيرة أن دول الجوار العربى، مثل إيران وتركيا، أصبح لهما تشابكات متعددة داخل العالم العربى، سواء بحكم الجوار الجغرافى أو سعيهما للامتداد بمصالحهما فى المنطقة، وبالتالى فإن أى محاولة لإعادة ترتيب أوضاع منطقة الشرق الأوسط تتطلب عدم تجاهل دول المنطقة لبعضها البعض، فدول المنطقة كانت وستظل موجودة على الأقل استنادا للجغرافيا.
الدلالة الثانية تتعلق بتبنى نهج «الواقعية» فى العلاقات الدولية، أى تبنى سياسات خارجية تنطلق من مفهوم «المصلحة الوطنية» وبعيدًا عن الشعارات أو الاعتبارات المذهبية أو الأيديولوجيات الجامدة، وقد أكد الاتفاق السعودى الإيرانى على المبادئ الواقعية المنظمة للعلاقات الدولية، والمتمثلة فى «احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى الشؤون الداخلية».
إحدى الدلالات الأخرى للاتفاق السعودى الإيرانى هى التأكيد على أولوية «الداخل» أو المشروع الوطنى للدولة، وأن التوترات الخارجية والاضطرابات الإقليمية يمكن أن تؤثر بالسلب على هذا المشروع الداخلى حيث تستنزف الوقت والمال والجهد، ومن الأفضل توجيه هذه الموارد لبناء الدولة، والنهوض بها، وتحقيق رفاهية المواطن.
الاتفاق السعودى الصينى أوضح أيضًا أن العديد من دول المنطقة أصبحت تمارس قدرًا كبيرًا من الاستقلالية فى سياستها الخارجية، وخاصة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، والتى انخفضت درجة مصداقيتها فى المنطقة بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين. فكما سارت مصر فى طريق ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وما بعده رغم معارضة الولايات المتحدة لذلك، فبالتأكيد فإن الإدارة الأمريكية ليست سعيدة بالاتفاق السعودى الإيرانى فى ظل تشدد موقفها الحالى من إيران والمرتبط بالمساعدات العسكرية التى تقدمها إيران لروسيا فى حرب أوكرانيا، وتراجع الولايات المتحدة فى سعيها للعودة للاتفاق النووى مع إيران. كما لا يمكن إغفال الآمال الأمريكية بأن العداء الخليجى مع إيران سوف يقرب بين دول الخليج وإسرائيل.
ورغم هذه الافتراضات الأمريكية، فإن المملكة السعودية أقدمت على توقيع الاتفاق مع إيران. وفى إطار حفظ ماء الوجه، ذكر مسؤول كبير فى الإدارة الأمريكية أنها اطلعت على المحادثات بين طهران والرياض، وأن بلاده كانت على علم بالمفاوضات منذ البداية. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربى، عن الاتفاقية «نحن ندعم أى جهد لتهدئة التوترات هناك» و«نعتقد أن هذا فى مصلحتنا الخاصة»، مشيرًا إلى أمله فى أن يؤدى ذلك إلى إنهاء الحرب فى اليمن.
ويرتبط بما سبق الدور الصينى فى التوصل للاتفاق السعودى الايرانى، فمجرد موافقة السعودية وإيران على التعامل مع إيران كوسيط، رغم أن الولايات المتحدة احتكرت لعقود طويلة دور الوسيط الرئيسى فى نزاعات المنطقة، فإنه يشكل رسالة للإدارة الأمريكية بأن مرحلة القطبية الأحادية قد انتهت فى المنطقة، وأن الصين (المنافس الاستراتيجى الأكبر للولايات المتحدة) أصبحت تحتل مكانة جديدة فى المنطقة. واعتبر أحد المحللين الأمريكيين أن القبول بهذا الدور الصينى يمثل صفعة سعودية أخرى على وجه إدارة بايدن، وأن هذا الاتفاق يمثل علامة مشجعة على أن دول المنطقة «يمكنها متابعة مثل هذه المبادرات دون طلب الكثير من الأشياء والضمانات من الولايات المتحدة».
أما بالنسبة للصين، فإن وساطتها بين المملكة السعودية وإيران تمثل تحولًا فى دورها بمنطقة الشرق الأوسط، الذى لم يعد قاصرًا على العلاقات الاقتصادية فقط، وإدراكها أن الحفاظ على مصالحها الاقتصادية يتطلب القيام بدور أكبر فى المنطقة. هذا الدور هو أيضًا جزء من التحول فى الدبلوماسية الصينية فى العالم، والتى أصبحت أكثر نشاطًا وفاعلية، كما ظهر فى المبادرة الصينية لتسوية الأزمة الأوكرانية.
كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يى، وصف الاتفاق السعودى الصينى بأنه «انتصار للحوار، وانتصار للسلام، ويقدم أخبارًا جيدة فى وقت يشهد فيه العالم الكثير من الاضطرابات فى العالم»، وأضاف أن بكين ستواصل لعب دور بناء فى معالجة قضايا النقاط الساخنة فى العالم وإظهار مسؤوليتها كدولة رئيسية.
وأخيرًا، وبالرغم من أن الحكم على الاتفاق السعودى الإيرانى سيستند على ما يحققه من نتائج على الأرض، وخاصة فى ملفات إقليمية مثل اليمن وسوريا، إلا أن الاتفاق فى حد ذاته يمثل نقطة تحول كبرى فى منطقة الشرق الأوسط، نتمنى أن تساهم فى تحقيق المزيد من الاستقرار والتنمية.
نقلا عن جريدة المصري اليوم الإثنين 13-03-2023
.
رابط المصدر: