شرق أوسط مختلف

في الحرب الراهنة (حرب غزة ولبنان) تبدو الإدارة الأميركيَّة أضعف من أنْ تؤثرَ في قرارات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، الآن أظهرت تفاعلات الساحة الداخليَّة الصهيونيَّة الميالة الى مزيدٍ من التطرف والعنف والغطرسة، أنَّها متساوقة مع الاتجاهات اليمينيَّة المتطرفة في أوروبا وعموم الغرب، ترفع ذات الشعارات وتسلك السلوك ذاته…

يوم أنشأ الغربُ إسرائيل بعد الحرب العالميَّة الثانية، ودعمها وساندها وطناً قومياً لليهود ودولة وظيفيَّة تشكل امتداداً للغرب واستراتيجياته في المنطقة، لم يخامر النابهين والعارفين الشكُّ، بأنَّ إسرائيل هذه ستكون السوط الذي يجلد به الغربُ أبناءَ المنطقة، كلما احتاج الى ذلك لأي سببٍ كان، لكنَّ الذي لم يكن متوقعاً هو، تحول إسرائيل من دولة وظيفيَّة تابعة، الى دولة صانعة للاستراتيجيات، تتخادم مع الدول التي تقود النظام العالمي، وتشارك في ترسيم صور النظام الدولي بما يلائم أمنها وطموحاتها، أستطيع الزعم بأنَّنا في هذه الفترة الانتقاليَّة بين نظامٍ دوليٍ تنفرد بزعامته الولايات المتحدة، وملامح نظام دولي غير واضحٍ يقال بأنَّه في طريقه الى التشكل بأقطابٍ متعددة، تقوم الدولة العبريَّة بدورٍ أكبر من حجمها بكثيرٍ، متخطية القوانين والأعراف والقرارات وحتى الأخلاقيات الدوليَّة، من دون أنْ يكون لداعميها القدرة على التأثير الحاسم في قراراتها.

في الحرب الراهنة (حرب غزة ولبنان) تبدو الإدارة الأميركيَّة أضعف من أنْ تؤثرَ في قرارات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، الآن أظهرت تفاعلات الساحة الداخليَّة الصهيونيَّة الميالة الى مزيدٍ من التطرف والعنف والغطرسة، أنَّها متساوقة مع الاتجاهات اليمينيَّة المتطرفة في أوروبا وعموم الغرب، ترفع ذات الشعارات وتسلك السلوك ذاته، كأنَّنا في مرحلة ما قبل الحرب العالميَّة الثانية، حيث تسود اتجاهات قوميَّة يمينيَّة متطرفة، وتتعالى قيمُ التشدد وتدمير وسحق الأعداء بالقوة!

بداية الألفيَّة الثالثة طرح شيمون بيريس الرئيس الإسرائيلي مشروع الشرق الأوسط الكبير، متزامناً مع المشروع الأميركي الذي عبرت عنه كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ولاحقاً وزيرة الخارجيَّة في إدارة الرئيس بوش الابن، قوام المشروعين أو بالأحرى الرؤيتين، يتأسس على توسيع ونشر الديمقراطيَّة واحترام حقوق الأقليات والحريات الدينيَّة، وإقامة سلامٍ دائمٍ في المنطقة، ودمج إسرائيل في محيطها الشرق أوسطي بتطبيع العلاقات معها وتمكينها من قيادة المنطقة بفعل (عبقريَّة العنصر اليهودي ورأس المال العالمي) مقترناً بقبول وتعاون دول المنطقة، مع طي صفحة الصراع العربي الصهيوني بإعطاء الفلسطينيين دولة تضمُّ الضفة الغربيَّة وقطاع غزة، منزوعة السلاح وخاضعة عملياً للهيمنة الإسرائيليَّة أمنياً واقتصادياً.

تأخر بلوغ هذا المشروع لأهدافه بسبب ممانعات ومقاومة ومخاوف قادتها القوى الإسلاميَّة وبقايا اليسار القومي العربي، هذه الممانعة غذتها إيران بدرجاتٍ متفاوتة، لأنَّ مشروعها السياسي كان يقوم على فكرة مقاومة الهيمنة الغربيَّة والتغول الإسرائيلي، وأسهمت الانتفاضات الفلسطينيَّة وتعالي قيمة وهيبة المقاومة الإسلاميَّة اللبنانيَّة (حزب الله) في تماسك هذا المشروع وصموده، لا سيما بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، ثم انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، وصعود كفة حماس والجهاد الإسلامي فلسطينياً، وأحزاب الإسلام السياسي عربياً وفي تركيا.

بعد عقدين داميين من الصراعات الداخليَّة على السلطة بين مشاريع قوى الإسلام السياسي وبين مناوئيها، وبعد سلسلة عقوبات وحصارات على إيران – قائدة محور المقاومة- أنهكتها اقتصادياً واجتماعياً، تمخض الوضع العام في المنطقة عن لوحة سورياليَّة محزنة من الخسارات والتراجعات وضياع الفرص وصعود الشكليات على حساب الجوهر، (أسهم التطرف والإرهاب القاعدي والداعشي السلفي في تسريع الانهيارات)، في قبال تنامي قدرات عسكريَّة وتكنولوجيَّة هائلة لدى إسرائيل وتسليمٍ عربيٍ شبه كاملٍ بالذهاب الى التطبيع الشامل معها، كون مشروع الإسلاميين الزاحف الى السلطة، جمعَ في تهديده إسرائيل وأنظمة المنطقة على حدٍ سواء، ووجدت الأنظمة وبعض النخب السياسيَّة والماليَّة والثقافيَّة، أنَّ مصلحتها في التطبيع، فعدوها لم يعد إسرائيل، إنَّما القوى الدينيَّة السياسيَّة التي رفعت شعار مناكفة الغرب حضارياً مبتدئة بأنظمة الدول القطريَّة، وهي لا تملك القوة المكافئة ولا الأدوات المساعدة، ولا البِنْية الماديَّة، عدا خزين الحماسة الدينيَّة والخطاب الثوري والايديولوجيَّة التعبويَّة، وحتى هذه الأخيرة لم تكن قادرة فعلاً على بناء حاضنة اجتماعيَّة كافية لدعم المشروع (الإسلامي)، لأنَّ الإسلاميين أهملوا قضايا ومشكلات اجتماعهم السياسي المحلي، وصنعوا لهم أعداءً كثراً، واستفزوا قوى عديدة اجتماعيَّة وسياسيَّة ناوأتهم، مستفيدة من الخصومة بين الإسلاميين والغرب، وعداوة الغرب لكل مشروعٍ لا ينسجم مع قيمه الحضاريَّة والسياسيَّة.

هجوم حماس في أكتوبر 2023 كشف الى أي حدٍ بلغت عزلة الإسلاميين وفقدانهم للدعم والتعاطف الجماهيري، وكشف الصعوبات التي أفقدت زعيمة محور المقاومة (إيران) القدرة على المخاطرة ودعم حلفائها وخوض حربٍ شاملة أو جزئيَّة قد تكلفها خسارة بقاء النظام، حيث تقوم ستراتيجيَّة الأمن القومي على قاعدة راسخة مفادها: حفظ النظام السياسي الإسلامي من أوجب الواجبات، ومقدم على كل القضايا المبدئيَّة الأخرى.

إسرائيل والغرب من ورائها، ودول إقليميَّة عديدة تخشى من محور إيران وجماعات وفصائل المقاومة جدياً، قد وجدت أنَّ الفرصة سانحة لضرب هذا المحور. في هذه الفرصة التي قد لا تتكرر، ما دامت إيران منشغلة بالتحديات الداخليَّة والخارجيَّة التي تواجهها (الاقتصاد، الأمن، ثقافة الجيل، العقوبات، التحولات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي أثرت في الثقافة الثوريَّة)، صحيح أنَّ حركات المقاومة الإسلاميَّة امتلكت ترسانة أسلحة لم يسبق لفاعل سياسي غير دولتي امتلاكها من قبل، لكنَّ هذه الأسلحة الصاروخيَّة صارت هي الدافع لكل القوى الإقليميَّة والدوليَّة الى جانب إسرائيل للتخلص من هذا التهديد، الذي بات يقلق دول الشرق الأوسط بأسرها والقوى الدوليَّة الداعمة لها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M