علي عاطف
(الجزء الأول)
خلال الفترة الممتدة من (2013-2015) التي شهدت عقد جولاتٍ مضنية من المفاوضات بين إيران والقوى الكبرى من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي الذي أُبرِم في نهاية المدة المُشار إليها، تمثل قلق مختلف الدول إزاء ما تقوم به إيران من أنشطة نووية في إمكان الأخيرة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% فقط، لا أكثر من ذلك. وعلى الرغم من هذا، دفعت الأنشطة النووية الإيرانية آنذاك الدولَ الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، إلى الجلوس على طاولة المفاوضات بسبب الخشية من توصل إيران إلى سلاح نووي، بل وتقديم تنازلاتٍ لها تمثلت في الإفراج عن مليارات الدولارات في الخارج. وفي الواقع، لا توجد إحصائية رسمية حول حجم هذه المبالغ المالية التي حصلت عليها طهران نتيجة التوصل للاتفاق.
ومع أن خروج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي قد مثل ما يشبه الصدمة الكبرى لإيران حينها في مايو 2018، إلا أن نظرة واقعية للأمور ستوضح كيف استفادت طهران وبشكل عملي أكثر منه نظري من اتفاق عام 2015. ولعل أكبر المكاسب التي حققتها إيران تمحورت حول الاعتراف الدولي الصريح بإمكانها تخصيب اليورانيوم.
وعلى الجانب الآخر، شكلت العقوبات الغربية والأممية بوجه عام ورقة الضغط الرئيسية لدى المشاركين في المفاوضات آنذاك لدفع إيران قدمًا للانخراط في مفاوضات تقود إلى اتفاق نووي، وهي ما أوتيت ثمارها لاحقًا، أي أنها كانت بالفعل الدافع الرئيسي لأن توقع إيران على اتفاق 2015.
وبمرور الوقت، وخاصة بعد خروج واشنطن من الاتفاق النووي في 2018، تغيرت بعض أطراف معادلة الضغط النووية وتحركت بعض قطع لعبة الشطرنج التي يمسك بزمامها الإيرانيون والقوى الغربية المنخرطة في المفاوضات. وقد ألقى هذا بظلاله على المفاوضات الأخيرة التي انعقدت خلال العام الجاري 2021 بجولاتها الست في فيينا، والتي يُتوقع أن تُستَكمل في 29 نوفمبر الجاري. لذا، يرُجَّح أن يلعب هذا التحول دورًا أكثر تأثيرًا في فيينا بعد استئناف المفاوضات مجددًا بعد حوالي أسبوعين من الآن.
مفاتيح التحركات الإيرانية: كيف تحولت معادلة الضغط النووي بين إيران والقوى الكبرى مؤخرًا؟
بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على خروج ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، تبدو معادلة المفاوضات النووية قد تغيرت بشكل ملحوظ هذه المرة في العاصمة النمساوية؛ حيث طرأت مستجداتٌ قد حرّكت بعض قطع “الشطرنج النووي” من مكانها، مما اتبعه تبديل مفاتيح التحركات الإيرانية وأيضًا الغربية في هذه المباراة.
إن تبدل مفاتيح التحركات الإيرانية الخاصة بمعادلة المفاوضات النووية لا يعود فقط إلى مرحلة ما بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق ترامب خروج بلاده من الاتفاق النووي، ولكن هذا التحول على أرض الواقع قد بدأ منذ اليوم التالي لدخول اتفاق لوزان (الاتفاق النووي لعام 2015) حيّز التنفيذ في 17 يناير 2016 حينما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنجاز إيران التزاماتها، كاشفة عن رفع المجتمع الدولي لعقوبات اقتصادية ومالية مرتبطة ببرنامج إيران النووي.
وقد اشتمل هذا التحول على المحاور الرئيسية التالية:
المحور الأول: الانتقال من مرحلة الأبحاث إلى إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب:
منذ أن أعلن الرئيس السابق ترامب خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، دأبت إيران عمليًا على تعزيز أنشطتها النووية، المعلن منها وغيره. فقد صرح المسؤولون الإيرانيون في أعقاب هذا الخروج بأن بلادهم تنوي الحد التدريجي من التزاماتها النووية المدرجة في الاتفاق النووي لعام 2015، وذلك عن طريق استئناف الأنشطة النووية وخاصة رفع مستوى تخصيب اليورانيوم من 3.67% إلى 20%، وهي النسبة التي كانت عليها قبل الاتفاق الدولي.
وكخطوة في سبيل تحقيق الهدف السابق، أعادت إيران تشغيل بعض المفاعلات النووية التي توقفت في السابق أو تعزيز وتكثيف العمل بها، حيث كانت قد تعطلت إما بسبب العقوبات أو كنتيجة للاتفاق النووي. وكان من بين هذه المنشآت مفاعل “آراك” النووي للماء الثقيل والواقع إلى الجنوب الغربي من العاصمة طهران الذي أوضحت السلطات الإيرانية أنها سوف تطوره وتعيد الدائرة الثانية منه إلى العمل.
وتدريجيًا، ارتفع حجم اليورانيوم المخصب بنسبة 20% في إيران ليصل في الوقت الراهن إلى 210 كيلوجرامات، بعد موافقة البرلمان الإيراني أواخر نوفمبر الماضي على مشروع قانون “الإجراءات الإستراتيجية لإلغاء العقوبات”، والذي تضمن رفع النسبة المذكورة. وقد أكد المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، مطلع شهر نوفمبر الجاري امتلاك بلاده لهذه النسبة.
ولكن إيران لم تكتف بهذه الخطوات، فقد كشفت في خطوة أخرى خلال شهر أبريل 2021 عن عزمها رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وهي نسبة خطيرة حينما نعلم أن تصنيع السلاح النووي يحتاج إلى معدل تخصيب 90%. ورغم اعتبار كثيرين أن هذه التصريحات الأخيرة ما هي إلا دعاية إعلامية من أجل “الردع”، إلا أن طهران أكدت بالفعل على لسان بهروز كمالوندي في 4 نوفمبر الجاري إنتاجها حتى الآن 25 كيلوجرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%.
يعني كل هذا أن إيران قطعت شوطًا كبيرًا للغاية من مرحلة الأبحاث النووية إلى إنتاج المواد النووية التي تُستخدم في صنع القنابل والأسلحة النووية ذاتها، خاصة بعد امتلاكها نسبة مخصبة حتى 60%، حتى أن هذه الأخيرة هي المعلن عنها فقط. إن هذه التطورات النووية الأخيرة سوف تفرض بدون أي شك نفسها على طاولة المفاوضات المقبلة في فيينا بعد استئناف سابع جولاتها، حيث ستمكن إيران من فرض عدد شروط أكبر أو تحقيق مكاسب أكثر.
المحور الثاني: “التوجيه النهائي” للصواريخ الباليستية وإنتاج (الدرونز):
أدخلت إيران خلال السنوات القليلة الماضية تطويرًا واضحًا على قدراتها الصاروخية مكنها من أن تصيب الأهداف بدقة أكبر، فيما يعرف إجمالًا بـ “التوجيه النهائي” للصواريخ. وكانت بداية اختبار التطوير الجديد ومدى دقته خلال الهجوم الإيراني على مواقع لتنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا عام 2017. فعلى الرغم من أن الصواريخ لم تكن دقيقة بالدرجة المطلوبة في هذه العمليات، إلا أنها أوقعت خسائر في صفوف الإرهابيين وأصابت على الأقل محيط أهدافها. وعند مقارنة هذه الدقة بالتجارب الإيرانية السابقة المماثلة، سنجد أنها قد تطورت.
وبمرور الوقت، اكتسبت الصواريخ الإيرانية دقة أكبر أشارت إليها منذ سنوات بعض التقارير المنشورة داخل الولايات المتحدة والتي حذّرت من تطور قدرة هذه الصواريخ الإيرانية. ولعل ما دفع للتحذير كان تطوير طهران لمدى الصواريخ، فضلًا عن الدقة. وإلى جانب هذا، أخذت الصواريخ الإيرانية أنواعًا وأسماء مختلفة ما بين مجموعات “شهاب” و”فاتح” و”فجر” و”خرمشهر”، وغيرهم. وأصبحت تمثل هاجسًا مقلقًا للدول الأوروبية؛ بعدما أصبح بمقدور الترسانة الصاروخية الإيرانية الوصول إلى أهداف خارج الإقليم تشمل بعض أجزاء القارة الأوروبية جنوبًا.
إن إيران قد اتبعت الخروجَ الأمريكيَّ من الاتفاق النووي عام 2018 باستعراضات صاروخية في الإقليم، كان من بين أهدافها إرسال رسالة للخارج بمدى ما وصلت إليه في مجال تطويرها. فقد هاجمت صواريخ إيرانية منشآت نفطية في منطقة الخليج العربي بلغت ذروتها عام 2019، علاوة على توظيفها مؤخرًا واستعراضها لقدرات الطائرات من دون طيار (-Dronesپهپاد/ بالفارسية)، سواء تلك التي استعرضتها قوات “الحشد الشعبي” العراقية، التي أشرف على تأسيسها قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، أو فيما ينسبه كثيرون لها من وقوفها خلف محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في 7 نوفمبر 2021 والتي تمت عن طريق (درونز) أيضًا.
إننا نستنتج من هذه النقطة على وجه التحديد أن تطور القدرات الصاروخية الإيرانية، التي لا يزال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي يرفضان طرحها للتفاوض على غير رغبة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، سيعزز من قدرة المفاوض الإيراني خلال الجولات اللاحقة من المحادثات النووية في فيينا.
المحور الثالث: هل لا يزال النفوذ الإقليمي لإيران ورقة ضغط في المفاوضات؟
على الرغم من أن العنصرين سالفي الذكر قد تطورا تصاعديًا خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن مؤشر حجم النفوذ الإقليمي لإيران في منطقة الشرق الأوسط لم يكن على نفس المنوال. فمع تمدد وتوسع نفوذ إيران داخل الإقليم، خاصة خلال سنوات ما بعد 2011 و2015، إلا أن سياسة ترامب إزاء طهران خلال فترة إدارته أدت إلى تقييد هذه التحركات بشكل نسبي.
ففي العراق، أدى مقتل قاسم سليماني إلى تخبط إيراني واضح فيما يخص سيطرتها على الفصائل والميليشيات الموالية لها، وإلى تصادم مع سياسة رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي. أما في سوريا، فقد كان لتراجع حدة الحرب وانخراط روسيا الواسع في المواجهة ضد الجماعات الإرهابية دورٌ بارز في تراجع كثافة النشاط الإيراني هناك، إلى جانب بعض الغموض فيما يتعلق بمستقبل الدور الإيراني هناك، هذا في ظل النفوذ الملموس الذي تملكه إيران حاليًا على الأراضي السورية في شكل تمركزات ومقرات للحرس الثوري والجماعات الأخرى الموالية لها داخل الأراضي السورية وبالقرب من إسرائيل، فضلًا عن تغلغل واضح آخر داخل المجتمع السوري نفسه.
وعليه، فقد عملت العقوبات الأمريكية على إيران إلى تقييد قدرتها عمليًا على دعم الوكلاء في الإقليم بوجه عام، وهو ما برز لدى جماعة “حزب الله” في لبنان خلال السنة الماضية. ومع ذلك، لا يمكننا القول إن هذا التراجع “النسبي” في الانخراط الإيراني داخل الإقليم خلال السنوات الماضية يمكنه أن يشكل عاملًا عكسيًا سلبيًا في المفاوضات، إذ أن التمركزات الإيرانية في سوريا ولبنان إلى جانب العراق وبعض المناطق الأخرى في المنطقة تمكن إيران فعليًا من توظيفها على طاولة المفاوضات في فيينا عندما تنطلق المحادثات مجددًا أواخر الشهر الجاري.
المحور الرابع: المعارك السيبرانية، حربٌ من نوع جديد:
منذ عام 2003، حاولت طهران تطوير قدراتها السيبرانية الإلكترونية فأنشأت وحدة عُرفت باسم “منظمة الدفاع السلبي”.(*) وبدأت أولى المحاولات الهجومية الشهيرة للجهاز السيبراني الإيراني في قرصنة موقع “موج سبز” التابع للإصلاحيين عام 2009 بالتزامن مع اندلاع احتجاجات واسعة ضد نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها آنذاك محمود أحمدي نجاد.
ولكن هجوم “ستاكس نت” الخارجي ضد منشأة “نطنز” النووية وسط إيران في العام التالي دفع الأخيرة إلى البدء بشكل أكثر جدية في تطوير قدراتها السيبرانية، وتحويلها من الدفاع إلى الهجوم الخارجي، وهو ما وقع خلال السنوات اللاحقة حينما اتهمت تقارير رسمية وأخرى إعلامية إيران بالوقوف وراء هجمات إلكترونية استهدفت منشآت في الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض البلدان الأخرى.
وقد حذّرت الولايات المتحدة خلال الآونة الأخيرة من هجمات سيبرانية إيرانية سواء ضد منشأت أو أشخاص أو انتخابات، خاصة مع تصاعد التوترات بينهما منذ مطلع العام الماضي، فيما دعت إسرائيل إلى تكثيف التعاون لصد مثل هذه الهجمات، خاصة بعد اختراق قراصنة يطلقون على أنفسهم “عصا موسى” الشهر الجاري لمستشفيات وشركات هندسية إسرائيلية.
ولذا، فإن هذا التطوير الحاصل في القدرات السيبرانية، الوجه الآخر للحرب المعاصرة، داخل إيران قد يفرض هو الآخر نفسه على طاولة المفاوضات المقبلة في فيينا، إذ أنه على الأقل لا يمثل نقطة ضعف لأحد أطراف المحادثات، كما أن تطوير إيران لمثل هذا النوع الأسلحة قد يضاف إلى قائمة التهديدات الصاروخية والنووية.
.
رابط المصدر: