محمد علي جواد تقي
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد، الآية24
خيّم خوف مطبق على الحوزات العلمية ردحاً طويلاً من الزمن على المفاهيم والمضامين التي يحملها القرآن الكريم من أن يُخطئها البعض عن جهالة وهم لا يشعرون، وذلك من خلال عملية التفسير لفهم أبعاد الآيات الكريمة ومقاصدها، وما اذا كان بالامكان ايجاد تطبيقات واقعية لها في كل زمان ومكان، ولذا كان القرآن الكريم بعيداً عن مناهج التدريس في الحوزات العلمية لسنوات طويلة، مخافة الانزلاق في التفسير بالرأي، والذهاب بالآيات الكريمة الى ما تشتهي أنفس البعض.
ربما يكون لاصحاب هذه الرؤية الحق في جانب من الامر، بينما في جوانب اخرى كانت ثمة اضرارا بالغة اصابت الفكر الديني وحرمته من أغنى وأهم مادة لكشف الحقائق والحكم على الاشياء بشكل “لا يأتيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. فراحت النظريات والرؤى تتخبط في التناقض تارةً، وفي الابتعاد عن الواقع تارة اخرى، فكادت الحوزات والمساجد والشعائر ومنظومة القيم الدينية والاخلاقية تخلو من الروح، وتتحول الى طقوس ظاهرية وممارسات قشرية لا تمت بصلة الى الواقع الذي يعيشه الانسان والمجتمع.
وفي نهاية المطافى قيّض الله –تعالى- للأمة علماء دين مجددين، أحدثوا ثورة منهجية بدعواتهم الشجاعة لإعادة التدبّر في القرآن الكريم الى الثقافة الاسلامية كما كانت عليه في العصور الاولى، ولعل أبرز هؤلاء؛ المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- الذي جعل من القرآن الكريم البوابة الكبرى نحو التغيير الشامل في الامة، وأن يكون القاعدة والمنطلق؛ فكرياً، وثقافياً، وإن كان درس التدبّر في القرآن الكريم في ستينات القرن الماضي لم يكن متبلوراً كما الآن، بيد أن محافل التلاوة، ثم النقاش والتدبّر في المساجد والحسينيات، ثم الخروج بمؤلفات ودراسات، كان لها بالغ الأثر في تأسيس وعي قرآني ناهض نحو تغيير الاوضاع، بل ومحاربة الفساد والانحراف والظلم.
السياق القرآني
وقبل الحديث عن الفرص التي يتيحها لنا القرآن الكريم نفسه لنتدبر في آياته ونستخرج ما فيه من الكنوز العلمية والمعرفية، أجد من المفيد تبيين جانباً من معاني التفسير، كما نوضح معانٍ للتدبر، لنعرف الفرق بينهما، ثم نعرف دورنا بين الاثنين، وما هي وظيفتنا؟
ظهرت تفاسير عدّة في أزمان مختلفة من لدن علماء متقدمين في سالف الزمان، ومن علماء متأخرين بلغوا من العلم بالسيرة النبوية، وبالظروف الاجتماعية التي نزلت فيها الآيات الكريمة، ليستخرجوا معانٍ ومفاهيم عامة من الآيات الكريمة، وهم في ذلك يسيرون على حدّ السيف بين تبيين جانب من بحر القرآن الكريم الذي لا يُحد، وبين مغبة الاسقاطات الفكرية والذهنية الخاصة على هذه الآيات مما يوقعهم في محذور التفسير بالرأي الذي طالما حذرت منه الروايات عن المعصومين، منها حديث الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله: “من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار”.
وثمة التفاتة هامة في هذا السياق؛ إن القرآن الكريم، وورايات المعصومين، عليهم السلام، لم تحثّ على التفسير، بقدر ما دعت الى التدبّر، وفي القرآن الكريم تصريحين واضحين: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة محمد، الآية24، والآية الاخرى من سورة النساء، الآية82: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}. وهي عملية تأمل وتفكّر في الآيات والغوص في أبعادها ومراميها، ثم البحث عن مواطن التطبيق التي تقصدها في مختلف شؤون الحياة، فربما نجدها تقصد العلاقات الأسرية، والعلاقات الاجتماعية، وعلاقة الانسان بربه، بل ما يتعلق بصياغة شخصية وفكر الانسان نفسه.
وقد أفرد العلماء منهجاً خاصاً للتدبر، كما حددوا شروطاً للتدبر الصحيح والناجح، ومن أبرزها؛ اعتماد العلمية في التدبر حتى يكون المتدبر في حالة من الموضوعية والحياد التام دون رأيه الخاص ومسبقاته الفكرية، “فالتدبر إنما هو تحصيل العلم بالقرآن، حتى لا يقول الانسان برأيه في تفسير القرآن وإنما بالعلم”. (بحوث في القرآن الكريم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
وبهذا نكون قاب قوسين أو أدنى من التدبر في القرآن الكريم، وهو أمر متاح للجميع، بدعوة صريحة من القرآن الكريم الذي يصرح بأنه {كِتَابٌ مُبِينٌ} وموجه الى كل مسلم، من وقت نزوله الى يوم القيامة.
وما يساعدنا على التدبّر السياق القرآني في طرح القيم والمفاهيم بما يمكننا من الخروج بنتيجة واحدة، وكما جاء في بحوث العلماء فان وجود أكثر من مفهوم في الآية الواحدة لا يأتي “إلا بإحدى علاقتين: علاقة علمية أو علاقة تربوية، فالقرآن يعكس واقع ارتباط حقيقة بأخرى فيذكرهما مع بعض، مثلاً: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، هنا علاقة الاستغفار من الذنب بتوحيد الله علاقة واقعية تفرضها حقيقة الربانية من جهة، والعبودية من جهة ثانية”. “وفي آية اخرى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}، فالولي الذي يحبّ عبادة ينزل عليهم الغيث، والحميد ينشر عليهم رحمته، فهنالك علاقة وثيقة بين الولاية ونزول الغيث، وكانت العرب ترى وجود هذه العلاقة وتستنبط منها أشياء كثيرة”.
ومرة سمع أعرابي رجلاً يتلو الآية هكذا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ والله غفورٌ، فقال له: أخطأت! قال: وكيف؟ قال: أن المغفرة والرحمة لا تناسبان قطع يد السارق، فتذكر الرجل الآية وتلاها بشكل صحيح: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فقال الأعرابي: نعم، بعزته أخذها وبحكمته قطعها.
هل أنا المقصود؟!
لعل من النتائج الكارثية للفجوة بيننا وبين كتاب الله المجيد، ما شاع في الوعي الجمعي بأن معظم الآيات النازلة إنما تخصّ عرب الجاهلية، او تتعلق بالفترة التي عاشها المسلمون في عهد النبي الأكرم، ومن غير المنطقي نسبتها الى الواقع الذي نعيشه، اومطابقته مع مستحدثات الزمن.
هذا التصور الخاطئ هو الذي خلق عقبة نفسية لدى البعض تبعده عن تحذيرات القرآن من مغبة السقوط في شرك النفاق، او الازدواجية في الايمان، او ما يسمى بـ “الجهل المركب” وغيرها من المحاذير، والمفاهيم التي من شأنها بناء وتهذيب نفسية الانسان، فهو يقرأ القرآن الكريم في المحافل، وربما في بيته، وبشكل صحيح وجميل، ولكن؛ عندما يمرّ على آية تتحدث عن الاخطاء التي وقع فيها الماضون في طريقهم الى الإيمان بالله وبالرسالات الإلهية، فانه يجد نفسه منزهاً سلفاً من كل الاخطاء التي يعد أنها من شأن الاقوام السابقين، ربما كونه في مستوى علمي وثقافي معين يحصنه من تلك الأخطاء والانحرافات.
وشهر رمضان المبارك يعد فرصة ذهبية، لاسيما في لياليه الهادئة والجميلة حيث تكثر محافل قراءة القرآن، إن لم يكن بشكل جماعي بسبب الظروف الطارئة، ففي داخل البيوت، وبين افراد الأسرة، فعندما يقرأ الانسان الآيات التي تتحدث عن قصص الأقوام الماضية، وكيف انتصر بعضهم وحقق المنجزات الى جانب انبيائهم، في المقابل يقرأ الكوارث والويلات التي حاقت بالمكذبين والمعاندين ممن لاقوا وبال أمرهم بالتمرد على رسالات السماء والخروج عن الهدى والحق، مثل بني اسرائيل، فانه بدافع الفطرة السليمة يسعى لأن يجعل نفسه أحد أبطال تلك الانتصارات، وأن يكون منهم، ويسعى لأن يكرر تلك التجارب الناجحة في زمانه، كما يسعى لأخذ الحيطة والحذر من الاسباب التي أدت لانزلاق أولئك العصاة وتحولهم الى مغضوب عليه وضالين الى يوم القيامة.
وبما أن القرآن الكريم، وبإقرار العلماء والخبراء في العالم أجمع، لا يحمل سوى الخير والصلاح للبشرية، وهو منبع الرحمة للعالمين الذي لا ينضبّ، وقد جسدها النبي الأكرم، فاننا مدعوون اليوم، وفي هذه الظروف العصيبة، حيث تشتبك الازمات وتتعقد المشاكل، لأن نلجأ الى القرآن الكريم ونعرض كل ما لدينا –مهما تصورنا صعوبته واستحالة حلّه-على القرآن من خلال جلسات تفكّر وتأمل في الآيات الكريمة.
جاء عن الامام الصادق، عليه السلام: “عليكم بالقرآن فما وجدتم آية نجا بها من كان قبلكم فخذوه وما وجدتموه مما هلك بها من كان قبلكم فاجتنبوه”، يكفي ان نكون على قدر كبير من الشجاعة النفسية بأن نصارح القرآن، وهي المصارحة المطلقة مع الله –تعالى- كما نصارح في بعض الاحيان؛ الطبيب من اجل الحصول على التشخيص الصحيح لمرضنا ثم الحصول على الدواء والخلاص من الآلام، ولا يماري أحد اليوم على حجم الآلام النفسية والمعنوية التي يعيشها الناس في العالم أجمع بسبب الابتعاد عن سنن الله وقوانينه وأحكامه وقيمه، وفي المقدمة طبعاً؛ المسلمون الذين يلامسون الماء الزلال وهم ظامئون مشرفون على الهلاك.
رابط المصدر: